«الأيرلندي» لمارتن سكورسيزي… وما يبقى هو الوحشة

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: في «الأيرلندي» يقدم مارتن سكورسيزي واحدا من أفضل أفلامه قاطبة، وواحدا من أكثرها شجنا، على الرغم من عنفه الظاهري والرجال الأشداء الذين هم أبطاله. الوحشة والبقاء وحيدا بعد رحيل الأصدقاء والأعداء، على حد سواء، والبقاء مع شبح الموت وأشباح الماضي هي أبطال الفيلم الملحمي الطويل، الذي تبلغ مدته أكثر من ثلاث ساعات، تمر كما لو أنها ثوان معدودات. طوال الفيلم نشهد تاريخا من الصراع، وتاريخا من القتل، وتاريخا من التطاحن للفوز بالنفوذ، ولكن ما يبقى بعد هذا الصراع هو جسد ضعيف مهزوم وماض نسيه الحاضر ورجل يكابد الوحشة والزمن.

يبدأ الفيلم، الذي اختتم مهرجان لندن السينمائي (2 إلى 13 أكتوبر/تشرين الأول)، كما ينبغي لفيلم يعيش راويه وبطله وسط ذكرياته أن يبدأ: في دار للعناية بالمسنين، حيث يأتينا الوجه الذي خطته السنين لفرانك شيران (روبرت دي نيرو)، رجل العصابات السابق في فيلادلفيا، الذي يروي لنا قصته الممتدة عبر العقود، قصة كان فيها طرفا وشاهدا لأحداث جسام، وخبر فيها المجد والدم والصراع. يقص علينا شيران قصة أيام شبابه وعنفوانه عندما كان مساعدا وساعدا أيمن لرجل العصابات راسل بافالينو (جو بيشي)، الذي كان سبيله للتعرف على جيمي هوفا (آل باتشينو)، الزعيم النقابي واسع النفوذ وثيق الصلة بعالم العصابات والجريمة المنظمة.


يعود شيران بذاكرته إلى رحلة بالسيارة، رحلة كان هو فيها في مقعد السائق، ولكن من حدد وجهتها هو بافالينو، الذي اصطحب زوجته معه، كما اصطحب فرانك زوجته. راسل، الذي يمقت رائحة دخان السجائر ويخشى أن تلتصق رائحته بأجواء السيارة، يجبر الجميع على التدخين خارجها، بمن في ذلك السيدتان الأنيقتان. رغم الأجواء المشحونة، التي نعلم أن فرانك سيتوقف خلالها «لجمع النقود» لصالح راسل، وهو التعبير المهذب المستخدم من رجال العصابات للكناية عن إجبار البعض على دفع إتاوات للمافيا، نجد أنفسنا نبتسم على إصرار ذلك الرجل المتورط في الكثير من الدم والعنف، أن تبقى سيارته عطرة الرائحة. منذ بدء اللحظات الأولى للفيلم يحدد سكورسيزي علاقتنا بشخصياته، فعلى الرغم من معرفتنا بسجلهم الحافل بالعنف والدماء، إلا أننا نحبهم ونفهم نوازعهم ونضحك منهم ومعهم أحيانا. لا يصورهم سكورسيزي كشر مطلق أو كوحوش كاسرة، بل كبشر لهم نوازعهم التي نفهمها.
في «الأيرلندي» تتجلى بصمة سكورسيزي ونرى رؤيته السينمائيه واضحة جلية. وفيه أيضا يعود سكورسيزي إلى عالمه الأثير، عالم رجال العصابات والمافيا، يعود فيقدم لنا واحدا من أفضل أفلامه في هذا العالم.
«الأيرلندي»، الذي كتب له السيناريو سكورسيزي بالتعاون مع ستيفن زايليان، مقتبس من مذكرات شيران «سمعت أنك تطلي المنازل»، التي صدرت عام 2004، التي يروي فيها شيران رؤيته الشخصية لجيمي هوفا ولراسل بافالينو ولأحداث اختفاء هوفا، الذي لم يُكشف النقاب رسميا عن ملابساته حتى الآن، والذي لم تحسم تحقيقات الأجهزة الأمنية أمره حتى حينه.
يرسم لنا سكورسيزي شخصية شيران وفقا لمنظور شيران ذاته لعالمه ولنفسه، ونرى أنفسنا أحيانا نتساءل: هل يعظم شيران من رؤيته لنفسه في الفيلم؟ هل يضخم من دوره في هذه الأحداث الجسام، ومن بينها مقتل هوفا ودور الولايات المتحدة في كوبا؟ ولكننا ندرك أنه حتى إن كان فرانك يضخم من أهمية ذاته، إلا أن سكورسيزي يرسم لنا شخصيته ويبني لنا عالمه بالكثير من الفهم والإنسانية، مما يمكننا من فهم نوازعه.

يرسم لنا سكورسيزي شخصية شيران وفقا لمنظور شيران ذاته لعالمه ولنفسه، ونرى أنفسنا أحيانا نتساءل: هل يعظم شيران من رؤيته لنفسه في الفيلم؟ هل يضخم من دوره في هذه الأحداث الجسام، ومن بينها مقتل هوفا ودور الولايات المتحدة في كوبا؟

في الفيلم يروي لنا شيران بصوته بزوغ نجمه ورحلة صعوده من سائق لشاحنة تقل اللحوم من المسلخ إلى المطاعم، إلى مصادفة على الطريق قادته للتعرف على رجل العصابات الصقلي الأصل بافالينو، الذي قاده للتعرف على هوفا، والذي كانت أول معرفته به اتصالا هاتفيا قال له هوفا فيه «سمعت أنك تطلي المنازل»، كناية عن عمليات القتل التي كان يقوم بها لصالح المافيا، والتي كانت تطلى فيها جدران المنازل بالدماء. يدخلنا شيران، كمساعد ومعاون لهوفا، وسط نزاعات نقابية محتدمة في الولايات المتحدة، نزاعات يوطد بها هوفا سطوته وسلطته ونفوذه، ويقوي فيها شوكته بالاتصال الوثيق بالمافيا وعالم الجريمة المنظمة.
طوال ثلاث ساعات ونصف الساعة نرى رجالا أشداء يتصارعون على النفوذ والمال، يقتلون ويسفكون الدماء، ولا يعتريهم ندم ولا خوف، نراهم يتضاحكون ويتبادلون الأنخاب، وهم يعلمون أن نهايتهم أو نهاية الكثير من أعدائهم وأصدقائهم ستكون الرصاص، حتى أن سكورسيزي يدون لنا على الشاشة بكلمات تعبر سريعا مصير كل هؤلاء الرجال، بين قتل بالرصاص، وسجن وسبل أخرى للموت والاغتيال. كلهم عابرون في صراع يظنونه حقيقيا، ولكن ما يبقى منه هو كلمات عابرة تمر على الشاشة سريعا. ولكن ما يبقى في قلوبنا ويعلق في ذاكرتنا ليس مجد شيران وصعوده في عالم العصابات والدماء التي أراقها، ولكن صورة ذلك الرجل الذي أقعدته السنين، والذي امتد به العمر ليعيش وحيدا في دار للمسنين، يحيط نفسه بصور الماضي، ويحاول أن يتباهى بصباه أمام الممرضة الشابة، ولكنها تخفق في التعرف على هوفا، الذي كان ملء الأسماع والأبصار في سنوات خلت. ما يبقى للأيرلندي العجوز هو ذكريات ماض لم يعد يذكره أحد، وصلات مفككة مع ابنة ترفض الحديث إليه. لا يصور شيران نفسه مطلقا على أنه القائد أو الزعيم المهاب الجانب. هو يعلم أن دوره هو أن يكون مساعدا أو ساعدا أيمن لقادة المافيا. يربط شيران بين دوره كجندي وحامل سلاح لخدمة رجال المافيا ودوره كجندي في الجيش في الحرب العالمية الثانية. لا فرق لديه لصالح من يقاتل أو لصالح أي قضية يقاتل، طالما يطيع الأوامر وطالما ينجو بذاته. نرى أن طاعته للأوامر ومهارته في استخدام السلاح التي اكتسبها في الحرب تجعله محط ثقة بافالينو.
شيران كما يبدو لنا في الفيلم هو الآخر، وهو الغريب. هو اللامنتمي الذي يعلم أنه لا ينتمي، ولكنه يبقى جنديا في جيوش ليست له، وفي معارك ليس طرفا فيها. هو ليس إيطاليا أو صقليا لينتمي إلى المافيا ذات الأصول الإيطالية في الفيلم، ولكنه يحارب في صفوفهم ويكسب ثقتهم. وهو ليس نقابيا ولا ينتمي لعالم هوفا، ولكنه يصبح معاونه المقرب، بل إن عدم انتمائه لعالم هوفا هو الذي يجعل هذا الرجل المتفجر الغضب والمتحفز دائما للقتال يثق فيه. وعلى الرغم من الدماء والقتل والمكائد، ثمة دوما ما يسحرنا في وجود باتشينو ودي نيرو على الشاشة معا. باتشينو يأسرنا بغضبه الجامج ورغبته الدائمة في التفوق والسيطرة كجيمي هوفا ودي نيرو يأسرنا برغبته الدائمة في إثبات ولائه وإخلاصه. ولكن هوفا يحمل في داخل شخصيته كل السمات التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى سقوطه. هو رجل يأبى المشاركة ويرفض التنازل ويود دوما أن تكون له اليد العليا، ما يجعل وجوده عبئا على غيره من زعماء الاتحادات، ومن زعماء عالم الجريمة المنظمة على حد سواء. هو سقوط ليس بالهين والترتيب له ليس باليسير. يمهد لنا سكورسيزي للنهاية المحتومة لهوفا، ويتمهل في رسم الشخصية وفي بناء الأحداث المؤدية لسقوط هوفا.
نرى الأعوام تمر وتحني السنوات القامات ويضعف السجن والعمر من كانوا أقوياء أشداء. ويفسح هذا المجال لدي نيرو ليبدع ويقدم أداء يبقى في الأذهان والقلوب طويلا. يجسد دي نيرو ببراعة فائفة ذلك الشجن لرجل عجوز وحيد يجتر ذكريات الماضي، رجل انفض الناس من حوله ولم يبق له إلا اختيار تابوت لدفنه أو اختيار ألا يحرق رفاته، لأن حرق الرفات كما يراه أمر قاطع وحاسم تماما، وهو يريد أن يبقى منه شيء. وبعد عمر طال لا يبقى إلا الخوف من الصمت والخوف من الظلام والوحشة المقيمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية