الأَسْماء..

حجم الخط
23

ابتكر الإنسانُ الأسماء لتنظيم حياته ولتسهيل التواصل مع محيطه، يبدو الأمر بديهياً وبسيطاً، لكنه لم يصبح كذلك إلا بعد حِقَب طويلة من عمر البشرية.
تخيّل البشر دون أسماء، وكذلك الأشجار والحيوانات والطيور والجمادات والمدن والقرى والشوارع والآلات، والأيام والأشهر والفصول، كل شيء بلا أسماء، قد يستغرق الأمر دقائق للتعريف عن شخص ما أو ثمرة ما.
تخيَّل أن في بيتك خمسة أفراد بلا أسماء، أو أنهم يحملون الاسم نفسه، كيف ستنادي أحدهم ويعرف أنك تقصده هو بالذات دون أخيه؟
لأهمية الموضوع، فقد اعتبرها سبحانه وتعالى معجزةً، جاء في الآية الكريمة «وعلَّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم..».
الأسماء سواء كانت من أحرف أبجدية أو من الأرقام، وجدت لضرورة التمييز.
هناك أسماء للإناث وأخرى للذكور، وللنباتات والحيوانات والجمادات والأجهزة، وسوف يضطرُ البشر لاختراع اسم لكلِّ جديد، سواء كان ظاهرة كونية بعيدة أو لأمر في داخل أحشائه، أو في حياته اليومية مثل المعاملات التجارية والعلوم وفروعها المستجدّة، والابتكارات المتسارعة في كل المجالات التي تحثُّ مجامع اللغات على تسميتها، وإلا تراكمت المستجدات وتحوّلت إلى عقبة أمام أهل اللغات التي لا تلحق بالجديد، وذلك أن طول استعمال اسم ما في لغته الأصلية يصبح من الصعب استبداله، مثل اسم جهاز التلفزيون.
الأسماء المشتركة بين الجنسين من البشر تسبب بَلْبَلة، مثل براء وفداء وأمل ورجاء وإحسان ونور وتيسير، وشارون وميشيل وتشارلي ولندن وآنجل، وغيرها من أسماء، والناقد رجاء النقاش مثالٌ لهذه البلبلة.
يغلب على بعض الناس في المجتمعات القروية لقبٌ حملوه منذ طفولتهم، معظم هؤلاء يكون اسمهم محمد، وذلك لكثرة المُحمّدات، إذ تجد في الحَمولة الواحدة عدداً منهم بالاسم الثلاثي نفسه، فيضطر الناس إلى منحهم ألقاباً لتمييزهم، حتى ساعي البريد يخطئ في التمييز بين محمدات الحمولة، خصوصاً عندما لا يكون رقم صندوق البريد مسجلاً على الرسالة، أو عندما يكون موظف البريد جديداً على المهنة.
ولأجل تمييزهم عن بعضهم تجد: محمد أبو اللّبن، محمد الأرنب، محمد بطاطا، محمد الدُرْبكة، محمد النايلون، محمد البسكليت، محمد الكمنجة، محمد البيتسا، محمد الأقرْع. وقد ينسبونهم لوالداتهم لتمييزهم: محمد رجاء، محمد العبلة، محمد فطوم، محمد سميحة، محمد فريال، محمد نظلة، محمد آمنة، محمد رتيبة، إلخ. أو ينسبونهم إلى مهنة ما: محمد المنجرة، محمد اللّحمة، محمد كرة السلة، محمد الزِّفتة، محمد المحْمص، محمد الكمبيوتر، محمد التلفونات، محمد الغسّالات، محمد الكوابل، محمد غسيل السيارات، محمد الأراجيل، محمد الفلافل. أو لصفةٍ بارزة في أحدهم: محمد الأشقر، محمد الطويل، محمد الفنان، الرَّسام، أبوالحُب.
في قوانين معظم دول العالم، يُسمح للإنسان باستبدال اسمه مرة واحدة كل بضع سنوات.
وهناك من يستبدلون أسماءهم بعد مرحلة من النصب والاحتيال على الناس، فلا ممسك وإثبات عليهم سوى رقم البطاقة الشخصية.
في فلسطين يبدّل معظم اليهود القادمين من كل أرجاء المعمورة أسماءهم إلى أسماء عبرية، وبعضهم يحمل اسمين، واحداً للاستعمال الخارجي، وآخر للاستعمال الداخلي.
أسماء الاستعمال الخارجي يُقصد منها عموماً إخفاء ديانة أو قومية صاحبها، وهذا ينتشر في الحقب والأمكنة الموبوءة بالعنصرية على أسس دينية أو قومية، أشهرها محاكم التفتيش في إسبانيا، والحقبة النازية في أوروبا.
الأنظمة الديمقراطية الحقَّة تتسع للجميع، وتحتضن كل البشر الرُّوح والمستوى نفسهما، لا أحد فيها يخجل أو يخشى من البوح باسمه أو أصله، ولا يحاول استبداله.
بعض العرب الفلسطينيين الذين يعملون في المدن اليهودية يبدِّلون أسماءهم أو ينزعون عنها وضوحها، لتسهيل أمورهم، فتجد جيمي بدلاً من جمال، أو يوسي بدلاً من يوسف، ودودو بدلاً من محمود، وميمو بدلاً من محمد، ففي كثير من المحال التجارية والمقاصف وغيرها يطلبون من العمال والموظفين العرب بأن لا يتحدثوا باللغة العربية، ويقترحون عليهم أسماءً بديلة، لأن الأصل قد يزعج أو يستفز بعض الزبائن، بعض العمال يتقبل هذا الشرط كي لا يخسر مكان عمله، والبعض يرفضه ويضطر للبحث عن عمل بديل، وازدادت هذه الحالات والشكاوى بعد سنِّ قانون القومية الذي بادر إليه بيبي نتنياهو.
إخفاء الإنسان لاسمه لا يكون إلا لسببين، إما للاحتيال والخداع، أو خشية رد فعل عنصري، الصّادق والقوي يفخر باسمه وبلغته وجذوره.
عندما يخفي البعض أسماءهم وأصولهم في دولة ديمقراطية خشية رد فعل مسيء، فهي ليست دولة ديمقراطية، حتى ولو أن القانون لا يلزم أحداً بإخفاء اسمه وعِرقه، ولكن من يعيش الواقع في بعض الأماكن والأزمنة يدرك بأن إخفاء الاسم يصبح ضرورة لتلافي التعرّض إلى الأذى، وقد يكون الكشف عن الاسم الحقيقي خطراً على النَّفس في بعض الحالات، وذلك بسبب التحريض المنهجي المستمر على الآخر والمختلف.
الضعيف يشعر بحريّة أكبر وبأمن إلى حد ما، عندما يخفي اسمه في محيطٍ معادٍ، إنه نفس الشعور بالحرِّية والخِفّة الذي ينتاب الإنسان عندما ينزل في مدينة لا يعرفه أحدٌ فيها، ولا يعرف فيها أحداً.
تراجعت أهمية الأسماء مع التقدم التكنولوجي، وذلك لصالح رقم البطاقة الشخصية أو رقم جواز السَّفر وحتى لرقم الهاتف، فمعظم المعاملات الإلكترونية لم تعد تسألك عن اسمك، بل عن رقم بطاقتك الشخصية، وعن رقم هاتفك، لترسل لك مفتاحاً رقميّاً لن تستطيع من دونه الدخول لتلقي الخدمات، لقد بات لرقم بطاقتك الشخصية ولرقم هاتفك أهمية كبيرة تتفاقم يوماً بعد يوم، وتدحر اسمك وتهمِّشه أكثر وأكثر، وقد يأتي يوم لا يبقى له أهمية سوى للاستعمال الداخلي، أقصد داخل جدران منزلك وبين أبناء أسرتك ومحبيك.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول راوية بربارة:

    صدقت، وقد كانوا قديما يسمّون أبناءهم لأعدائهم، لإخافة الأعداء، فسمّوا كليب، صخر، أسد..

  2. يقول كمال - نيويورك:

    تصحيح، قال تعالى في كتابه الكريم: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۝

  3. يقول فاطمة كيوان:

    المقال يذكرني بأغنية العملاقه فيروز (( أسامينا)) وما لها من تداعيات في القلب والروح اولا ومن ثم على المستوى الاجتماعي والسياسي كما وضحت  ابو سمير.
    فالاسم  هو المفتاح والمدخل للحياه ولاخذ الدور في التشكيل العائلي وفيما بعد المجتمعيو السياسي . . في الحارة والقرية والعمل وبكافة الاماكن . واحيانا الاسم يعطي الصفة او يعكسها على صاحبه فكم من (( جميل)) ليس بجميل وكم من صالح وهو طالح  وهكذا .
    والله سبحانه فعلا عزز الاسماء وكرمنا بها  لنقول :
    أنا مِنْ هُنا. وَهُنا أنا.  ولان الاسماء بأمكانها ان تأخذنا لعوالم اخرى في النفس والحياه . وترتب لنا الاماكن والالقاب والاعمال.
    ومن اجمل الورشات مع المجموعات من تبدأ بالتعريف بالاسماء حيث تعطي لكل من الافراد مساحة خاصة للكشف عن دواخله واعماقه من خلال اسمه والتداعيات التي يحملها ان كان من حيث من اطلق علية الاسم او المعنى للاسم.
    شكرا لهذه الاضاءة الرائعة للموضوع.

  4. يقول هاديه:

    أسامينا … شو تعبو أهالينا تلاقوها وشو افتكروا فينا …صدَقت الصادق والقوي يفخر باسمه ولغته وجذوره .. يعطيك الف عافيه ?

  5. يقول شيرين فاهوم:

    موضوع جميل جدًا في مضمونه وطريقة عرضك مميزة شملت الموضوع من عدة جهات .
    ونحن صغار كنا دائما نتسأل من الذي اطلق الأسماء على الأشياء وما زلنا لغاية اليوم ..
    مميز دائما أستاذ سهيل ..

  6. يقول محمد ابو الزغير:

    السؤال يا صديقي ابا سمير هل الأسم يتحول جزء من الشخصية ام يبقى للتميز عن الآخرين ..وهل اذا أطلقنا اسم عندليب على شخص معين يتحول الى قريب من الموسيقى ,, او اسا سمينا شخص أمين يصبح أمين ووفي ..واذا شخص اسمه “أمين حرامي” كيف سيكون تأثيره على هذا التناقض .. وفي النهاية يبقى الأسم لا تختاره لنفسك بل يختاره غيرك ومفروض عليك دون موافقتك..

  7. يقول شيرين فاهوم:

    موضوع جميل جدًا في مضمونه
    وطريقة عرضك مميزة شملت الموضوع من عدة جهات .
    ونحن صغار كنا دائما نتساءل من الذي اطلق الأسماء على الأشياء وما زلنا لغاية اليوم ..

  8. يقول Samaher:

    مقال رائع ..يوم بك كاتبنا ..
    تبقى الإسم مخلدةً حتى وان وضعت في خانة الفرض أو الإقصاء الثقافي او الجغرافي ضمن غايات كثيرة كلها باتت مفهومة ضمنًا الا وهي التقليل من شأنها او حتى تبخيسها لتجريدها من واقعها فتُشوَّه لتفقد اصلها وتفاصيلها وحتى عرقها .. يمسها التغيير ليصعب عليها ان تجتر اصلها لتضل طريقها في مسيرة البحث عن معانيها ..
    لكن حتى وان أرغم التناسي على ان تُنسى تبقى وحدها الاسماء المخلدة راسخة في ذاكرة الإنسان والوطن التاريخ حتى الذاكرة المثقوبة منها تأبى ان تنساها الى الأبد.

  9. يقول د. نبيل طنوس:

    مقالة رائعة. بوركت عزيزي.
    اسامينا – جوزف حرب
    اسامينا شو تعبو أهالينا تلاقوها و شو افتكرو فينا
    الأسامي كلام .. شو خص الكلام .. عينينا هني أسامينا
    لا خضر الأسامي و لا لوزيات
    لا كحلي بحري و لا شتويات
    و لا لونن أزرق قديم ما بيعتق
    و لا سود وساع و لا عسليات
    و لا فيهن دار دار الخمار
    علينا و بلش يسقينا
    تلج و ورق طاير و المسا حزين
    و ضباب و قناطر نحنا بردانين
    لملمنا أسامي اسمي عشاق
    من كتب منسيي و قصايد عتاق
    و صرنا نجمع اسامي و نولع
    تصارو رماد و ما دفينا

  10. يقول علي مناع:

    المهم اننا كمجتمع فلسطيني في هذه الدولة دائما لنا دور مميز في كل المواضيع حتى في هذا حيث العنصرية تجعلنا نغير اسماءنا .. رائع كيف تختار مواضيعك وتسهب في السرد بجمالية خاصة

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية