أعتقد بعد فترة من اكتشاف تقنية الذكاء الاصطناعي وتطورها، واستخدامها في كل المجالات الحياتية تقريبا، لم يعد مدهشا أن تقوم تلك التقنية بعمل كل شيء، ولم يعد مستغربا أن نرى إنجازات كبرى تحدث بواسطتها. والإنسان في سعيه ليهمش نفسه، أو يلغيها في كثير من الأحيان، يبتكر مثل هذه الأشياء، ويستخدمها، ثم يسعد كثيرا وهو يراها تسيطر عليه، بدلا من أن يسيطر عليها وهو مبتكرها.
منذ سنوات قبل الألفية الجديدة، كنا نتحدث عن تقنية استخدام الكومبيوتر في الكتابة، التي كانت قد دخلت عندنا تلك الأيام، وبدأ بعض الكتاب أو لنقل المبدعين استخدامه، وأذكر أن ذلك عد لدى التقليديين كفرا، فكيف يمكن إلغاء الورقة والقلم؟ كيف ينقل الكومبيوتر إحساسك، الذي ينقله القلم وحده؟
كانت ثمة استطلاعات للرأي تجرى بين الكتاب، وكل يدلي برأيه ويدافع عنه، وأذكر أنني شاركت وكنت ما أزال في البدايات، لكن البدايات الجادة، في كتابة رؤيتي الخاصة بعد أن انتقلت للكتابة على الكومبيوتر مبكرا. وكتبت في موقع جهة الشعر الذي كان يحرره الشاعر قاسم حداد مقالا بعنوان «الساحر الذي يجعلني أكتب» كنت أعبر عن انجرافي نحو التقنية الجديدة واستخدامي لأدوات الكتابة والتحرير. بعد مرور سنوات من ذلك، لم يعد الكومبيوتر مشكلة، على العكس أصبح عدم استخدامه هو المشكلة، والمحررون في دور النشر يستاؤون كثيرا من الكتاب الذين يرسلون لهم النصوص مكتوبة بالحبر والورق، وتقريبا منذ خمسة عشر عاما، لم نعد نسمع عن كاتب يستخدم الورق أبدا.
إذن التكنولوجيا تركض والإنسان الذي يطورها، دائما ما يجد حيلا جديدة، والذي يستهلك، يكون أدمن إلغاء نفسه، أو أجبر على ذلك بعد أن يكون الإلغاء رسميا ومعمولا به في الدول.
ماذا تقول عن الهواتف الذكية التي قد تفوق من اخترعها ذكاء؟
ماذا تقول عن بوابات الدخول والمغادرة في المطارات التي ألغت موظفي الجوازات تقريبا، ويمكن عن طريقها المرور من دون أي ختم على جوازك، لكن معلوماتك كاملة تكون انتقلت للنظام.
ماذا تقول عن الروبوتات التي تقوم بكل أعمال الإنسان إذا ما برمجها الإنسان نفسه، لتقوم بتلك الأعمال، وحتى هذه الروبوتات الذي كان عملها في الماضي يقوم بالمساعدة البسيطة، بوجود الإنسان، وأصبحت الآن تعمل وحدها بحرية كاملة، ولا تخضع لإرادة الإنسان إلا حين تتم صيانتها.
بالنسبة للذكاء الاصطناعي والكتابة، أنا واحد من الناس لم أكن أتوقع أن تدخل تلك التقنية في المجال الإبداعي، سأقبلها مثلا في المجال العلمي حين تبحث لك عن أفضل المراجع وأفضل الطرق لتحضر رسالتك الجامعية، وحين تدلك على أفضل البذور مثلا، لتزرعها في أرض بواصفات معينة، وحتى تدلك على طريقة هزيمة عدوك في الحروب التي تنشأ بين حين وآخر. لكن المجال الإبداعي في رأيي مجال إنساني تخييلي بحت، والبرامج التي توضع في هذا الشأن ستمنحك في حدود إمكانياتها ولا يمكن أن تتخيل لك ما هو من المفترض أن تفعله، وحتى ما ستمنحه لك سيكون كلاسيكيا ونمطيا وخاليا من التجريب أو الابتكار.
المسألة أن برامج الذكاء الاصطناعي التي صممت للكتابة الإبداعية، محشوة بمفردات اللغة وببعض الجمل المستخدمة دائما، وليس أبعد من ذلك. هناك أفكار أيضا، لكن كذلك هي أفكار أسميها بايتة، أو مستهلكة. مثلا فكرة الهجرة أو اللجوء من دولة مثل السودان إلى بريطانيا، ستسأل الذكاء الاصطناعي عن كتابة قصة أو رواية بهذا الخصوص وسيكتبها لك. هناك موقع اسمه «هول ستوري جنريتور» يعمل على هذا، سيتطرق في قصة كهذه إلى أحوال السودان، واضطرار الشخص إلى اللجوء، ووصوله هناك وتشرده، وسيكتب لك بكل بساطة، أن هذا اللاجئ عثر على امرأة بريطانية شابة، ستكون غالبا تملك سلسلة مطاعم، أو صالات تجميل، تسكن في بيت فخم، ولديها سيارة رينج روفر. هذه السيدة ستحبه وتتزوجه، ويمكن أن يبالغ في الأمر، فيحول لك هذا اللاجئ المسكين إلى رجل أعمال يشار إليه بالبنان، نعم يشار إليه بالبنان ستجد هذه العبارة الكلاسيكية.
لكن هل هذه كتابة يعتمد عليها؟
هذه وغيرها من نماذج أخرى مشابهة، هل فعلا هي إبداع؟
ما الجديد هنا، بل ما هي تلك المبالغة التي لن تحدث أبدا في الواقع؟ والقصة هنا لا تمنحنا أي ميزة لدى ذلك اللاجئ الفقير، تؤهله لهذه التغيرات، ولا تمنحنا أي شيء عن شعور الفتاة البريطانية، وهي تلغي عقلها ومكانتها الاجتماعية وتتزوج من هكذا شخص. أنا لن أقبل حتى لو أخبرني أنها فتاة فقيرة تلك التي تزوجت الرجل، فما بالك بفتاة غنية؟
الروائي حين يكتب عن الهجرة أو اللجوء، لن يدخل اللاجئ إلى لندن عبر مطار هيثرو، وإنما عبر مراكب الموت التي تتأرجح في البحر، وقد يصل أو لا يصل إلى يابسة أوروبية. سيكتب عن الذين غرقوا كثيرا من التأملات والرعب ساعة الموت وربما الندم من كونهم لم يبقوا في بلادهم بالرغم من قسوتها. سيكتب عن الناجين، قصصا أخرى مهينة، ستقابلهم في إيطاليا واليونان وتركيا، ووقوعهم في أيدي العصابات التي قد تسلخ جلودهم، وإن نجا أحد من كل هذه المهالك، فهو بالكاد يجد عملا كحمال في مصنع، أو ناطور في شركة أمازون، أو مساعد جزار في إحدى القرى الريفية غير المتحضرة أصلا.
أذكر مرة كنت في بريطانيا وزرت إحدى المدن الصغيرة، حيث أحد أقاربي هناك، وعثرت معه على إثنين من هؤلاء الناجين، كانا يطاردان الاعتراف بهما كلاجئين، ويواجهان حياة يومية صعبة. لم يكونا مهمومين بالتطور والتكنولوجيا، والأسواق والمولات التجارية، وحتى رؤية لندن بقدر اهتمامهما بالحياة الأقل من عادية، التي جاءا يسعيان إليها.
بالنسبة لرسم الشخصيات، هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يرسم لك شخصية مثل شخصية الكولونيل أوولانو بونديا في «مئة عام من العزلة» أو شخصية فيرمنتو داثا في «الحب في زمن الكوليرا»؟
أيضا الجغرافيا والتاريخ، والحيوات المختلفة المعقدة، وغير ذلك، هل ممكن استيعابها ونحتها واستخراجها من برامج الذكاء الاصطناعي؟
حتى الآن لا أعتقد، وأميل إلى اعتماد الروائي الإنسان فقط، كاتبا إبداعيا، لكن ما سيحدث لاحقا، لا أحد يعرفه.
*كاتب من السودان