عاد التساؤل من جديد عن مصير مصر، وإلى أين تمضي بعد 30 يونيو، يطرح نفسه من جديد، وسط ضبابية وارتباك والتباس المشهد والتوجس من القادم، رغم الحملات الدعائية التي حتى اللحظة تستهدف تصدير صورة متفائلة للأوضاع على غير الحقيقة، وأن إزاحة الاخوان عن السلطة فقط ‘انتصار وطني’ ما بعده انتصار، و’معركة تحرير’ و’إنجاز تاريخي’ يُحسب للمؤسسة العسكرية المنحازة للإرادة الشعبية، وقبلها للجنرال السيسي’أحمس مصر’ و’الزعيم المُخلص’ من ‘الهكسوس الجدد’ الذين هم وحدهم صندوق الشرور، وتلك الرسائل الدعائية التي تحمل مبالغات فجة، واختزالا للواقع شديد الاختلال والسطحية، والتي تلعب ببراعة على الأوتار العاطفية لجمهور عريض أغلبه يعاني الأمية أو الجهل، إلى جانب نقص الوعي الثقافي والسياسي، وغياب العقلية النقدية حتى لدى كثيرين من المتعلمين، بالإضافة إلى استشارة الغرائز، خاصة الخوف والانتقام، ومحاصرة الجماهير بحرب نفسية شديدة الوطأة، تخلط الحقائق بالأكاذيب، وتزدحم بالشائعات التى تمكن من توجيه الرأي العام في اتجاهات بعينها مخططة سلفا، وإبعاده عن رؤية الحقيقة بكل أبعادها، واتخاذ موقف يصب في مصلحته. وهذه التكتيكات ذات الطبيعة الاحترافية المبنية على علوم الاتصال، وما يرتبط بها من نظريات علم النفس والاجتماع، والتى توظف ‘الميديا’ بكافة أشكالها بكثافة، للوصول إلى جمهور عريض غير متجانس، يقف وراءها، بلا شك، أجهزة استخبارات محلية ودولية، ولا تعمل بالصدفة أو يحركها أفراد متطوعون من تلقاء ذاتهم، وتستهدف بشكل رئيسي حشد وتعبئة الجماهير وراء شخص أو مؤسسة، وليس وراء أهداف واضحة تخدم المصالح العليا للوطن، وتصب في مصلحة جموع الشعب، وهو ما تجسد في ‘حملة تفويض الجنرال السيسي’ دون معرفة أبعاد وحدود هذا التفويض، وهل الحشود في الشوارع هي التي تفوض مؤسسات منوطا بها مهام معينة في جوهر عملها، أم نصوص الدستور والقانون؟! فضلا عن رفع شعار فضفاض كـ ‘الحرب على الارهاب’ الذي أصبح له سمعة سيئة، نظرا لما يتم تحته من انتهاكات مفتوحة وإساءة استخدام، في حين أن مجمل الأحداث التي تجري في مصر تخضع لمصطلح’العنف’ المرتبط بالصراع على السلطة، ويمكن التعاطي معها بالقانون الطبيعي والممارسات الأمنية المعتادة، وليس’الارهاب’ بدلالته التي تؤشر لخطورة أكبر وأكثر اتساعا، والذي حتى اللحظة لم يحظ تعريفه دوليا بتوافق أو انضباط. أما الهدف الآخر، فهو الإلهاء وتشتيت الانتباه بحيث لا ترى الجماهير أبعد مما هو مطلوب رؤيته، أو تنشغل بمسائل ثانوية أو معارك مصطنعة تشوش على قضايا جوهرية كالحديث عن ‘مؤامرات خارجية’ وصراع مع واشنطن، وهل ما جرى’انقلاب’ أم ‘ثورة شعبية’، أو تركيز الانظار حول قضية كـ’فض اعتصامات الاخوان’ مثلا، فيما يتم ترك مسيرات إخوانية تتجول بحرية في طول البلاد وعرضها، تصطدم بالأهالي أو تستنفر الفريق المؤيد للمؤسسة العسكرية، بينما تجرى مفاوضات تحت الطاولة مع قيادات الإخوان بوساطة محلية ودولية، ويتم ترتيب أوضاع جديدة وهيكلة مؤسسات الدولة، وزرع عناصر موالية أخرى، ووضع دستور أو تعديل المعطل، عبر لجنة عليها علامات استفهام، وتواصل عملها في سرية وتكتم وتجاهل إشراك الجماهير بشكل حقيقي وجدي في ‘العقد الاجتماعي’ الجديد، مثلما كان يفعل الاخوان من قبل، مع مواصلة العمل على تنفيذ ‘خارطة طريق للمستقبل’ التى تم تضمينها في’إعلان دستوري’ لم يتم استشارة أحد فيه، وفرضه الجنرالات على الجميع، ودون أية مؤشرات على تحول ديمقراطي، أو توجه نحو تحقيق العدالة الاجتماعية أو إعادة بناء التحالفات الاقليمية والدولية، وفك الارتباط مع واشنطن وتل أبيب. ومثلما تمت إدارة المرحلة الانتقالية الأولى في أعقاب إبعاد مبارك عن الحكم، برؤية وآليات استخباراتية تشرف عليها واشنطن، يتم الشئ نفسه الآن في مرحلة الانتقال الثانية بعد عزل مرسي، والذي يبدو أنه انتقال لذات المربع الأول ما قبل 25 يناير. ولذا يتم صنع حالة من الغموض واللايقين والتشتت في المجتمع، وخلق معارك جانبية أو وهمية، واستقطابات حادة، تمكن من تغييب الشعوب عن صنع مستقبلها، وتسمح بتمريرصفقات مشبوهة وشراء ولاءات وتحييد العناصر المنتظر أن تربك هذه الترتيبات الرامية لإعادة إنتاج النظام أو ترميمه، ليستعيد عافيته ويحمي شبكة المصالح الراسخة في مصر التي تديرها أمريكا منذ حقبة السادات، والتي بالتأكيد ضد مصالح الوطن والمواطن. مع استمرار نهج’الخداع الاستراتيجي’ و’ التحكم والسيطرة’ تلك المصطلحات الوافدة من الحقل الاستخباراتي والعسكري، والتى يتم إعمالها في الواقع، ويمكن رصدها من خلال العديد من المواقف والتصريحات والممارسات، فضلا عن الحفاظ على تبعية المؤسسة الإعلامية الحكومية الضخمة وإسنادها لإعلامية سبق وشغلت منصب ‘الرقيب’ بما له من دلالة، إلى جانب آليات هذا العمل التي تتطلب مراجعة الأجهزة الامنية والاستخباراتية، ولعب دور’حارس البوابة’ الذي يقرر ما هو المسموح، وما يدخل في باب المحظورات. بالإضافة إلى إسناد منصبي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، والأمين العام لمجلس الوزراء لجنرالات، حتى يكونا أعين الحاكم الفعلي’الجنرال السيسي’ على مؤسسات الحكم، وحاملي الأوامر والتعليمات لمسؤولين كبار دورهم متحدثين رسميين، وحضور بشكل بروتوكولي، وليسوا صناع قرار. ويبقى السؤال، أين الجماهير في هذه المعادلة، وأين مصالحها؟ الأجابة ببساطة غائبة أو بالأحرى مغيبة، فهي مجرد أداة يتم توظيفها لإعطاء ‘غطاء شعبي’ لطرف، أو سحبه من طرف أخر، حتى يأخذ الأمر’مشروعية’ داخلية وخارجية. أما حديث المصالح، فـ’للكبار فقط’، ولمن يدير اللعبة في الداخل والخارج، وليس للأدوات أو ‘المجاميع’ التي تملأ خلفية الصورة وقت اللزوم فقط، دون أن يكون له دور حقيقي أو مؤثر. ومن هنا يجب التساؤل ربما للمرة الألف.. أين موضع الثورة والديمقراطية مما يجري؟ والسلطة الجديدة تستخدم نفس الأدوات والتكتيكات وتنتهج نفس السياسات، وتغيّب مبادئ أساسية في طريق التحول الديمقراطي مثل الشفافية والمصارحة والتشاركية وأعمال القانون دون تمييز، وقواعد’العدالة الانتقالية’، وتجعل الجماهير وطلعيتها من المثقفين والنشطاء الحقيقيين وليس المصنوعين في أروقة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، مفعولا بها وليست فاعلة، مجرد ‘حرافيش’ تدين بالسمع والطاعة والولاء لـ’الفتوة الجديد’، وهو وحده من يقرر مصيرها، ومن يقربه إليه ومن يبعده، من يكافئه ومن يعاقبه. ثم أية ديمقراطية تلك التى تضحي بـ’الدولة المدنية’ وتمجد في ‘المؤسسة العسكرية’ وشخص الجنرال السيسي، وتنسب لهما الفضل وحدهما، وتحاول تكريس ذلك في أذهان الجماهير، عبر أغان وبرامج غالبية ضيوفها من العسكريين أو الموالين للسلطة الجديدة، تشرف عليها الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، مع تهيئة الأرضية لرئيس ‘عسكري’، ثم نقول ‘ثورة شعبية’ ونعتبر ممارسة النقد لهما جريمة لا تُغتفر، لأنهما فوق الشعب؟! وأية ثورة تلك التى تتفاوض وتستميل السلطة التى خرجت عليها، واسقطتها، وتغريها بالمشاركة في صنع المستقبل والعمل السياسي من جديد؟ وتقدم حوافز لمن يقبل بالعمل معها والاعتراف بها.؟! وأية ثورة تلك التى ترفع شعار ‘استقلال القرار الوطني’ وتسمح بمساحة واسعة من التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي، إن لم يكن الاملاءات، ومجالسة مسؤولين أجانب لكل أطراف الصراع، تحت مبرر الانفتاح على العالم والاستماع للنصح ووجهات النظر المختلفة. الثورة يا سادة، كالحرب، المنتصر يملي ارادته على المهزوم، والآخر ينصاع طوعا أو كرها، ويقبل بشروط من هزمه، ولو اضطرارا. والديمقراطية تعني في جوهرها التعددية والتشاركية في صنع القرار، ومناخا من الحريات، وليس التنميط والصوت الواحد والاعلام الموجه وتكميم الأفواه، والتخديم على شخص ومؤسسة، وليس الشعب الذي هو مصدر الشرعية الأول والأخير، والذي فوق الجميع، ويعمل من أجله الجميع. ربما خطورة هذه الإدارة الاستخباراتية وحملتها الدعائية، أنها لم تشوه وعي الجماهير فقط، وتبعدهم عن استحقاقات أجندة الحقوق والحريات التي كان يجب أن تحظى بالأولوية، وأنما كرست كذلك لحالة استقطاب حاد بين معسكري (الإخوان) و(الجنرالات والفلول)، للدرجة التي بات من الصعب على من يأخذ طريقا ثالثا، أن يعلن موقفه بحرية، بعيدا عن هذه الثنائية المقيتة، إذ أصبح مهمشا ومحاصرا، ويتعرض لأقصى درجة القمع المعنوي، وكيل من الاتهامات المسيئة والتشويه الاقصائي. فالذي لا يريد أن يتوقف عنده الكثيرون أن مصر أكبر من الإخوان والفلول والجنرالات، وأن معركتنا الوحيدة ليست إزاحة الإخوان من السلطة، كما لم تكن من قبل إبعاد مبارك فقط عن سدة الحكم، المعركة الحقيقية هو بناء مصر الديمقراطية المدنية الحديثة التي قوامها القانون والمواطنة والعدل الاجتماعي، وهذا هو المسار الثوري الحقيقي، وعدا ذلك استبدال عصابة بعصابة، وتغيير وجوه، واستمرار الفساد والاستبداد والتبعية. أخيرا، ما يجعل الثورة حقيقة وليس ادعاءً، بصرف النظر عن خلفية من قام بها أو وسيلة التخلص من السلطة الحاكمة، هو حزمة الاجراءات الثورية التي تقاس بمدى القطيعة مع ثوابت النظام القائم ومرتكزات وفلسفة الحكم الجديد، ومدى التغيير الجذري على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولأي اتجاه تكون الانحيازات، عبر سلسلة من القرارات والسياسات وبناء علاقات قوى جديدة في المجتمع، وشبكة تحالفات أقليمية ودولية جديدة’أيضا. وتواصل السياسات القديمة، وأخذ مواقف الدول الكبرى، بعين الاعتبار يعني أن ثمة شيئا خاطئا أو مريبا، وليس مستندا بشكل حقيقي على إرادة شعبية حقيقية وأنما مزيفة، وأن مساحة تأثير الخارج في القرار الداخلي واسعة، ولا يوجد استقلال قرار وطني فعلي، وانما استمرار لنهج التبعية وإسترضاء القوى الخارجية، أكبر من مراعاة المصالح العليا للوطن أو الرهان على الشعب الذي يستخدم فقط كأداة حشد وتعبئة، ويتم استغلاله في صراع سلطة تقهره لاحقا، ولا تلعب لحسابه.