«لم أستطع أن أغير العالم، فقد أردت على الأقل أن أغير الطريقة التي ينظر بها الناس لهذا العالم»
طابييس
منذ خمسينيات القرن العشرين بدأ الرسام الإسباني أنطوني طابييس تغيير وجه الفن التشكيلي العالمي. بتصميم متين وغير مسبوق للوحة منذ معرضه الأول، ورحلاته ولقاءاته مع جورج براك ومارك شاغال والبرتو جياكوميتي وبيكاسو، وقراءته لفيودور دوستويفسكي، وأبسن، وشوبنهاور، ونيتشه، والموسيقي (فاغنر)، وكذلك البوذي الياباني أوكاكورا كاكوزو. وإقباله كذلك على قراءة كبرى النصوص الفلسفية المشرقية، وفي اكتشافه الرسم الصيني، بدأ أول عمل مبتكر حول هذا الموضوع، بتأثير سيريالي بسيط من بداياته، تحولت رسوماته ببطء إلى التجريد الهندسي، ثم إلى الفن غير الرسمي. يطارد أنطوني طابييس أعمال الحرب الأهلية، ثم الحرب العالمية الثانية والآثار التي تركتها في دواخل الإنسان. يصف لوحاته بأنها «ساحات القتال حيث تتضاعف الجروح إلى ما لا نهاية».
هوية الذرة
كان واحداً من أوائل من قاموا بتقديم نظرة جديدة للقاموس التشكيلي العالمي، عن طريق إضافة العديد من المواد التي تم تجنبها حتى الآن من قبل عالم الفن. ووصفت بأنها رديئة، مثل الطين أو الرمل أو التربة أو القطران. لا يزال هناك شعور حتى اليوم في لوحاته، بنكهة الأرض والغبار والذرات والجزيئات وهشاشة الأشياء. ولترجمة نظرته الباحثة على توازن مستحيل، أمام هذا الجرح الإنساني المشترك، استخدم مواد لم تكن أكاديمية. لقد خلط هذه الأشياء وعبّر عنها بأسلوب تجريدي، وجعل من العلامة (صليب بدون مسيح، وبدون جسد مدمى) أو الفكرة (جرح على قطعة خشب أو قماش) متعالية على الأسلوب. هذه التقنية من المادة الحية، تتجسد مرة بالولادة والحياة (الأرض والطين والقش، والخشب) ومرة بالموت أو العدم (الغبار والقمامة، البراز). إنه يجعل من تنافس الرمل أو القش أو الحبل أو الورق أو قصاصات الصحف أو قطع من الخشب أو قطع من القماش، على اللوحة تنفجر بمعان كثيرة، إنه يتأمل في الأشياء الأولى، في جوهر الطبيعة، وأصل القوة والحياة حيث يقول: «إن الكون والإنسان عجنا من السديم نفسه». ذرة الهوية عنده غير محسوسة بين الطبيعة والإنسان، إنه يبحث عن التجسد الأصلي للمواد قبل الأبدية، أي الإحساس العالي بالثقل الكوني، كافتتان بالصمت الكوكبي، أو استفهام وتساؤل عن لغز معلق في الفضاء. يزيل الغبار عن الملفات القديمة معيدا إليها فتنة تاريخ الرموز والكتابات والألوان، إنه فنان يصغي إلى اليقينيات المعيشة معيدا إليها أسطورتها. يقول في أحد حواراته: «ذات يوم حاولت بلوغ الصمت عن طريق من الانقياد، تاركا نفسي للقدر الذي يقتحم في كل صراع عميق. هكذا غدت ملايين المخالب المحتاجة ذرات غبار، ورمال. انفتح أمامي فجأة مشهد جديد شبيه بما حصل لمن تروي القصص. إنه اخترق المرآة باحثا عن باطن الأشياء المغرق في السرية. انكشفت أمامي جغرافية جديدة، قادتني من دهشة إلى دهشة، فاستحضرت تشكيلات نادرة، وبنايات جزيئية، وظواهر ذرية، من عالم المجرات. رمز الغبار ـ وفي الانغمار في الغبار تتشكل لديّ الهوية العميقة، أي عمق التماهي الباطني بين الإنسان والطبيعة ـ رمزية الرماد، والأرض التي منها خرجنا وإليها نعود، والتآزر الذي يجعلنا نرى الفرق بيننا شبيها بالفرق الموجود بين حبتي رمل». لقد شعر طابييس بالرهبة من القنبلة الذرية التي أنهت بوحشية الصراع العالمي، شعر بهشاشة الذرات والغبار والجزيئات وعودة الكائن البشري إلى العدم. كان طيلة تجربته التشكيلية وفيا للتصوف الخاص لهذه الذرات الشائعة.
لقد شعر طابييس بالرهبة من القنبلة الذرية التي أنهت بوحشية الصراع العالمي، شعر بهشاشة الذرات والغبار والجزيئات وعودة الكائن البشري إلى العدم. كان طيلة تجربته التشكيلية وفيا للتصوف الخاص لهذه الذرات الشائعة.
حفريات المعنى
لقد خلّل طابييس طريقة النظر للرسم، والحديث عنه وحتى ممارسته عندما عمل على توجيهه نحو مصادر أخرى كالجدار، وصوب كونية اللغة التشكيلية. إن الفن لديه يغدو دعوة للتفكير بالحياة، وابتكارا للواقع. هذا الواقع الذي يريده مناقضا للخلق التشكيلي، يقول: «أنا اعتقد أن العمل الفني يجب أن يترك حيرة في المتلقي وان يثير فيه التأمل». يتميز العالم المادي وغير الرسمي لأنطوني طابييس، المتأثر بالسيرياليين وفكر الدادا، وبالأسلوب الوحشي إلى جانب دوبوفيه وفاوترير وميارس، إلى الحركة اللاشكلية التي ظهرت في الخمسينيات، يبحث عن لغة تشكيلية عديمة الصلة بالميول الأدبية التي شوهت أعمال الرسامين السيرياليين، وكذا بحثه عن لون باطني يتجاوز المعنى، ويترجم بركانيا بصمة الحياة والموت لجسم «الأسمدة المخصبة للأرض»، وعن كيفية خدشها الغريزي للطبقات المتتالية من المواد التي تنشرها. أن المتتبع لكل أعمال طابييس يجدها تمنحنا الإحساس باللامتناهي، أي الصور التي تمر على الذاكرة التحليلية، وتترك بصمة من الحيرة والتأويلات في دواخلنا، لإدراك مفتوح للواقع. مواد مشكلة من الجزء المجزئ لي يقينيات محسوسة، تدفع بديناميكيتها الحية إلى صراع الأضداد في البعد الفكري المفاهيمي. وهذا ما يؤكد عليه «الفن هو عبارة عن مصدر للمعرفة والفلسفة، فإذا الأشكال لم تستطع لمس جرح المجتمع وإثارته وإمالته إلى التأمل… فهو ليس بفن». هذا التوجه الفني والفكري أيضا هو ما أنقذ طابييس، إنه مثل بروسبر ميريميه ومارسيل بروست وريموند كوينو، عاش صراع التواري والعدم، أصابه مرض رئوي في منتصف عمره، واحتاج إلى عامين من الحبس الانفرادي والتعافي، قبل الالتحاق بكلية الحقوق. كما عاش تناقضات أسرية، أب علماني ذو اتجاه يساري وأم متدينة يمينية متعصبة لمذهبها الكاثوليكي. سوف يستخدم هذه الفسحة المرضية، ليغمر نفسه في تاريخ الفن والفلسفة والموسيقى الرومانسية. ولم يكن أمام طابييس سوى الارتفاع على هذه التناقضات إلى مستوى التجريد، الذي يذوب فيه كل شيء أي تحقيقه للمعادلة الصعبة بالمزج بين التجريد والرمزية، يقول أدركت: «خلال سنوات أن هذا البحث عن الصعوبات (ويتعلق الأمر بصعوبات تقنية) كان يرمي إلى حصر كل رقابة عقلية، وترك إلهام اللاوعي يسري بكل حرية، إن إرغام العمل بسرعة لا يسمح لي بالمبالغة في التفكير، وعندما ألج معملي، أنسى تماما كل مصادري النظرية، وحتى نظرياتي الخاصة. قد تظل موجودة كمحصلة وشحنة، لكنني أفقد الوعي بها أثناء العمل. من المحتمل أن تتسرب تلك المعارف إلى عملي بصورة غير واعية. لكنني لا أضع في اعتباري إلا المسائل التقنية: الصور التي يجب عدم إدراجها، أو التي يجب تصحيحها، وبما أن ذلك يقتضي التصرف بسرعة فإن غريزة الإنجاز تعمل بدون حسيب».
المتتبع لكل أعمال طابييس يجدها تمنحنا الإحساس باللامتناهي، أي الصور التي تمر على الذاكرة التحليلية، وتترك بصمة من الحيرة والتأويلات في دواخلنا، لإدراك مفتوح للواقع.
رمزية الجدار:
كان الجدار دائمًا الملاذ الأخير للمهمشين والمضطهدين في العالم. وكان طابييس يحتج برسوماته على هذه الجدران الجرحى، التي عاش فيها أبان الحرب الأهلية الإسبانية. وللجدار رمزية فنيّة خاصة عند طابييس حيث يقول: «أما المفاجأة المذهلة فكانت اكتشافي ذات يوم، وللمرة الأولى في التاريخ، أن لوحاتي تحولت إلى جدران». ويضيف «فأي خيالات، يمكن أن تنبعث من رسم جدار، ومن مشتقاته». وقد كتب في ذلك نصّا مثيرا تحت عنوان «بلاغ حول الجدار»، يعبّر فيه كيف حوّلت لوحاته برسمها للجدران « كلّ ما كان غليانا مشتعلا إلى صوت قارّ». يقول مضيفا: «عندما يطلب مني إيضاحات لما يسمى الجدران أو النوافذ أو الأبواب الخاصة بي، أقول على الفور إنني صنعت بالفعل جدران أو نوافذ أو أبواب أقل مما فعلت. تخيل». ومن غريب الصدف أن كلمة طابييس Tàpies باللغة الكتالانية تعني الجدار، يقول «جميع الجدران تشهد على استشهاد شعبنا». كان يخاف أن يبني حائطا بينه وبين العالم، لأن الذاكرة الإنسانية خالدة بجدران فرقت بين البشر أكثر ما جمعت بينهم، كجدار برلين أبان الحرب الباردة، أو جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين المحتلة. وكانت وسيلته للدفاع عن نفسه رسما لامتناهيا، يقول طابييس: «حاولت في إحدى المرات أن أصل إلى الصمت.. لكن كل تلك الخدوش تحولت إلى ملايين من الحبيبات، حبيبات من غبار أو رمل.. منظر جديد كلية تفتح أمامي وكأنني أتواصل مع الدواخل السرية للأشياء.. لكنني اكتشفت بعد سنوات أنه ليس هناك أمامي سوى جدران». وعلى هذه الجدران نقشت معاناة أبناء جيله، الذين عانوا أهوال وعواقب الحرب العالمية، والحرب الأهلية الإسبانية، ومجازر الفاشية والنازية. إنه كما يقول، لا يبصر سوى هذه الجدران حوله، ولا يرى غير هذه الجدران في بلده. كان يرشدنا إلى تعلم اختراق الجدار والانغماس في شظاياه الغبارية، باحثين عن أوجاع الجرح المشترك. والانتصار على هزائمنا الجماعية، بإحداث ثقوب ونوافذ في الجدران.
ثورة طابييس الفنية، تتجلى في مساعدته في تغيير مفهوم الفن الأوروبي والعالمي، بدمجه كل ما تم رفضه من قبل الفن التشكيلي الأوروبي، بما في ذلك الوقت والزمان السريع الزوال. في حين كان المفهوم الكلاسيكي للجمال من اليونان إلى هيغل، يؤكد على وجوب هروب الفن من المادة والوقت. فقد كتب يوما قائلا: «يجب على الفنان أن يخترع كل شيء، يجب أن يرمي نفسه في المجهول، ويرفض كل التحيزات، بما في ذلك دراسة التقنيات واستخدام المواد التي تعتبر تقليدية». أعطى فكرا وحمولة عاطفية للمادة (المواد سابقة التصنيع) كانت خاملة مسبقا، واحيا وظيفتها الجمالية بمعزل عن ما كانت عليه، من قبل، اختفت الشخصيات لصالح البحث عن المواد (الغراء، الرمال، الجص، مسحوق الطين، مسحوق الرخام). كانت هناك تهم سياسية عميقة في لوحاته تحت حكم فرانكو، تميزت ببعد من الاضطهاد، والاستبداد وغياب الحرية والموت. وكان الصليب علامة تتكرر في كل لوحاته، كرمز لمقاومة الشعب للفاشية. أعطانا مفاتيح نبوءة الجدران، بأعمال تتجسد في الأزمنة الراهنة والمستقبل، فاتحة ممرات داخل هذه الحكمة، لاستحضار هشاشة الإنسان أمام جدران الاضطهاد والصدمة والهزيمة. قائلا «قبل أي عمل فني حقيقي، يجب على المشاهد أن يشعر بالحاجة إلى فحص الضمير، ومراجعة مجاله المفاهيمي. ويجب على الفنان أن يجعله يلمس حدود كونه، ويفتحه إنها مؤسسة إنسانية حقًا».
٭ ناقد مغربي
كلمة شبه قصيرة ادا سمح لنا المنبر عرش اللغة العربية ممدود غير محدود وعالم الفن اوسع كدالك التشكيل بدوره عالم غير محدود يعني الشيء الكثير لايقتصر على اللوحة او الورقة يتجاوز هده وتلك فاكلمة الرسم وهي من اسرة التشكيل تعني الكثير ادا سألنا المعجم عنها فاسيجيب رسم يرسم رسما فاكل واحدة بحر لاحدود ونقول ايضا يُعرف الرسم على أنّه فن مرئي وتشكيلي يتم فيه التعبير عن الأحاسيس والأفكار والأشياء والمواضيع بوساطة الأشكال، والخطوط، والألون، وهو فن عُرف منذ القدم، ويكون على عدة أشكال بتسجيل لبعض الملاحظات أو الخواطر أو المشاهد لشكل معين في لحظة ما، أو على شكل عمل تحضيري لوسيلة ما من وسائل وأساليب التعبير الفني، لكنه يكون في بعض الأحيان عملاً فنياً قائماً بذاته تفننت فيه وجوها متميزة ولوج عالمه ليس بالهين شروط وقواعد ولا تسأل عن التجربة
مادة تحليلية شتملة لفنان مغمور لم يأخذ حقه برأيي . تحية للكاتب .
مقال ممتاز من حبث القدرة على تجسير التواصل بين عالم أنطوني طابيس والقارئ. ومن حيث المنهج التخليلي الذي ارتآه الناقد عبد الله الحيمر..
لنؤمن أن فضل الفنان على العوام تحويل معوقات الحياة إلى ثمات تهب الحياة سوقها للمنتهى… ذاك الذي يعيد ترتيب الأسياء ليكون القدر وجودا للذات فيه الحدّ بين العدم و نقيضه… بماعون الحباة كان الفن والتشكيل و الفلسفة الخاصة ما يهزم عدوّ الحياة مرضا كان او حربا…. فنعم النوافذ ونعم الجدران. شكرا عبد الله الحيمر.