الإضراب عن الطعام… من غاندي إلى السنكيس

الإضراب عن الطعام ظاهرة جديدة ـ قديمة يلجأ إليها من يعدم أية وسيلة أخرى للمطالبة بحقه أو التعبير عن رأيه أو الدفاع عن نفسه. وتتوسع هذه الظاهرة في السجون، من قبل المعتقلين الذين يشعرون بالظلامة من جهة والعجز عن التأثير على الأوضاع التي يعيشونها خصوصا إذا كانت لديهم مطالب إجرائية أو معيشية من جهة أخرى. فهناك من يضرب احتجاجا على أوضاع السجن من حيث النظافة أو العناية الصحية أو نوع الطعام أو أعداد السجناء في الزنزانات.
وقد يكون الإضراب احتجاجا على معاملة مسؤولي السجن، أو مصادرة الممتلكات الشخصية أو الكتب التي يقرأها السجين أو يؤلفها. ويعتبر الإضراب عن الطعام الأخطر والأقسى بين الأساليب التي يلجأ إليها المعتقلون لما يترتب عليها من مخاطر جسيمة، جسدية ونفسية. ويعتبر المهاتما غاندي من أوائل من اتبعوا منهج الإضراب للمطالبة بالحقوق، ورفع مطلب استقلال بلاده وخروج الاحتلال منها عبر إضرابه لفترات متتالية. قدّم غاندي إضرابه كشكل من أشكال المقاومة السلمية للاحتلال، التي من شأنها إحراج السلطات البريطانية أمام الرأي العام. فتزايد عدد المضربين عن الطعام من أعضاء المقاومة الهندية الذين تم سجنهم، ومنهم من توفي جراء إضرابه الذي كان يستمر لمدة تتجاوز 100 يوم. كما يُذكر إضراب الناشطة الهندية تشانو إيروم شارميلا من إقليم مانيبور، كأحد أبرز الإضرابات عن الطعام في العالم، كونه واحدا من أطولها في القرن الحالي، وكان احتجاجًا على قوانين عسكرية تسمح للقوات المسلحة بإلقاء القبض على أي مشتبه به في المناطق التي تشهد عنفًا واضطرابات. بدأت الإضراب في 2 نوفمبر 2000 ولم توقفه إلا في 9 اغسطس 2016 بعد 16 سنة من الصيام.
كما أن الأيرلنديين أصحاب إرث واسع في الإضراب عن الطعام لهدف احتجاجي فردي، ثم حولوه من احتجاج فردي ضد ظلامة مجتمعية أو شخصية، إلى احتجاج سياسي بهدف الضغط على الوجود البريطاني الذي منع لوقت طويل قيام الجمهورية الأيرلندية، وقام بسجن أعضاءٍ من المقاومة في السجون البريطانية على أنهم مجرمون ومخربون. ولقي العديد من المضربين حتفهم في السجون بسبب التعذيب فضلاعن الإضراب نفسه. ففي الأول من مارس 1981 بدأت مجموعة من السجناء بسجن «ميز» الإضراب عن الطعام في مواجهة مع رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر، وقد انتخب أحد المُضربين «بوبي ساندز» عضوًا في البرلمان من داخل السجن عن دائرة فيرمانا وجنوب تيرون؛ مما جذب اهتمام وسائل الإعلام في أنحاء العالم. وقد توقف الإضراب بعد وفاة عشرة معتقلين جوعًا، بمن فيهم ساندز الذي شيع جنازته 100000 شخص. شكل الإضراب نواة السياسات الجمهورية الأيرلندية، ويعد القوة الدافعة التي جعلت من «شين فين» حزبًا سياسيًّا قويا. قرر ساندز ضرورة انضمام السجناء الآخرين إلى الإضراب على فترات متتالية لتحقيق أقصى قدر من الدعاية، وتدهورت حالة السجناء بشكل مستمر على مدار عدة أشهر. تركز إضراب الطعام على خمسة مطالب: الحق في عدم ارتداء زي السجن، الحق في عدم القيام بأعمال السجن، الحق في الصداقة الحرة مع السجناء الآخرين، وفي تنظيم أنشطة تعليمية وترفيهية، الحق في زيارة واحدة وخطاب واحد وطرد واحد كل أسبوع، استعادة كافة حقوق العفو التي فُقدت خلال الاحتجاج. تم إنهاء الإضراب تحديدًا في الساعة الثالثة والنصف مساء بتاريخ 3 أكتوبر 1981. وبعد ثلاثة أيام حصل المعتقلون على تنازلات جزئية تتعلق بمطالبهم بخصوص ارتداء ملابسهم الخاصة، وظل المطلب الوحيد المعلق هو عدم القيام بأعمال السجن، ولكن تم تنفيذه وإغلاق ورش العمل بالسجون بعد الهروب الكبير من سجن ميز عام 1983؛ ومن ثم تم تنفيذ المطالب الخمسة بدون اعتراف رسمي من الحكومة بذلك.

برغم الجهود الدولية لتحسين أوضاع السجون بشكل عام فإن المعتقلات في بلدان الشرق الأوسط لا تلتزم بالمعايير الدولية. ولدى الأمم المتحدة آليات لمنع التجاوزات التي تجري وراء القضبان، ولكنها تفتقر للإمكانات التي تمكنها من مراقبة أوضاع السجون

وماذا عن فلسطين؟ جرت أول تجربة فلسطينية لخوض الإضراب عن الطعام في السجون الإسرائيلية بسجن نابلس في أوائل عام 1968، حيث خاض المعتقلون إضراباً عن الطعام استمر ثلاثة أيام احتجاجاً على سياسة الضرب والإذلال التي كانوا يتعرضون لها على أيدي الجنود الإسرائيليين، وللمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية. ثم توالت بعد ذلك الإضرابات عن الطعام حتى وصلت في بعض الأحيان إلى استشهاد بعض المضربين. ففي 11 نوفمبر 1970 استشهد عبد القادر أبو الفحم خلال إضراب سجن عسقلان، فكان بذلك أول شهداء هذا الأسلوب من المقاومة المدنية. وفي 24 يوليو 1980 استشهد كل من راسم حلاوة وعلي الجعفري خلال إضراب سجن نفحة. واستشهد محمود فريتخ في إضراب سجن جنيد عام 1984، كما استشهد حسين نمر عبيدات بتاريخ 14/10/1992 في إضراب سجن عسقلان. وتدريجيا تحول الإضراب من معارك جماعية إلى إضرابات فردية خاصة في العقدين الأخيرين، وكان من أشهر المضربين: خضر عدنان، محمد القيق، أيمن اطبيش، سامر العيساوي، ووصل إضراب الأخير عام 2013 إلى 265 يوما. وفي 2019 أضرب الأسير الفلسطيني ماهر الأخرس (49 عاما) عن الطعام لمدة 103 أيام احتجاجا على اعتقاله، فأذعنت سلطات الأحتلال وأفرجت عنه بعد اربعة شهور.
وبرغم الجهود الدولية لتحسين أوضاع السجون بشكل عام فإن المعتقلات في بلدان الشرق الأوسط لا تلتزم بالمعايير الدولية. ولدى الأمم المتحدة آليات لمنع التجاوزات التي تجري وراء القضبان، ولكنها تفتقر للإمكانات التي تمكنها من مراقبة أوضاع السجون ومعاملة المعتقلين، خصوصا السياسيين منهم.
وهناك الآن معتقل سياسي كبير في سجون البحرين، قضى حتى الآن أكثرمن مائة يوم مضربا عن الطعام مطالبا بأمور بسيطة. فمنذ الثامن من يوليو بدأ الأكاديمي البارز الدكتور عبد الجليل السنكيس الذي بلغ عمره الستين، إضرابا عن الطعام مطالبا ببضعة أمور في مقدمتها إعادة كتاب ثقافي قضى أربع سنوات في تأليفه. الكتاب يتحدث عن لهجات سكان البحرين وتطورها عبر التاريخ. وتعود جذور السكان الأصليين في هذه الجزيرة إلى قبائل بكر بن وائل وعبد القيس وأسد وربيعة، ولديهم لهجات خاصة ورثوها عن أجدادهم. هذا الكتاب له قيمته التاريخية والثقافية وليس معنيا بالأوضاع السياسية التي سجن المؤلف بسببها. فكانت مصادرته ضربة موجعة له. يضاف إلى ذلك أن هذا الأكاديمي الذي قضى حتى الآن عشرة أعوام ونصفا لدوره في «ثورة 14 فبراير» التي انطلقت في اجواء الربيع العربي في العام 2011. شخص معوّق منذ الولادة، وكان قد أصيب في طفولته بالشلل، الأمر الذي جعله معوّقا وفاقدا القدرة على المشي ويستخدم عكازتين للحركة. كما أنه كان معتقلا عندما اندلعت تلك الثورة بسبب نشاطه المعارض وكتاباته ومدوّناته ومحاضراته.
وهناك الآن مطالبات دولية بالإفراج عنه لأسباب عديدة: أولها أنه سجين رأي ولم يرتكب جرما يعاقب عليه القانون، ثانيا: أنه أمضى أكثرمن عشرة أعوام بعد أن حكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن مدى الحياة. وقد أمضى فترة طويلة من عمره بدون مبرر قانوني، ثالثأ: انه معوّق ويعاني من أمراض عديدة ذات صلة بالقلب والضغط والمفاصل. وقد تداعت صحته كثيرا منذ بدء الإضراب، خصوصا انه معزول عن العالم تماما، حيث نقل قبل شهور إلى مركز الصحي لعزله عن السجناء السياسيين. وانطلقت دعوات من البرلمان الاوروبي وبرلمانات أوروبية عديدة للإفراج عنه. كما دعت منظمات حقوقية ومهنية كثيرة لإطلاق سراحه، واهتمت إدارة جامعة مانشستر التي أكمل دراسة الدكتوراه فيها بقضيته وتواصلت مع الحكومة البريطانية من أجل ذلك. ولكن سلطات البحرين ترفض الإفراج عن الدكتور السنكيس وبقية الرموز المعتقلين منذ أكثرمن عشرة أعوام.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية