أحد العوامل الأساسية التي جعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي تنجح في ترويج نفسها كدولة «ديمقراطية» ودولة «مهددة» من العرب، ودولة إذا ارتكبت مجازر، وفظائع، فهي «للدفاع عن نفسها» ودولة «حضارية» جعلت من فلسطين «الصحراء» جنة غناء، ودولة تقيم على أرض الميعاد مشروعا لتهجير اليهود المضطهدين إليها ليعيشوا في أمان، وهذه «الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض» هي هبة الرب لليهود.
هذه الشعارات الكاذبة جعلت الصهيونية العالمية شعوب العالم وخاصة في أوروبا وأمريكا ينخدعون بها ويصدقونها بفضل امتلاكهم المبكر لوسائل الإعلام وتوظيفها لخدمة إسرائيل. وشيطنة الطرف المقابل من فلسطينيين وعرب قاوموا الاحتلال ووصمهم «بالإرهاب» و«معاداة السامية».
بدايات الخداع
بدايات الخداع ظهرت أولا في الصحافة الغربية التي كانت متقدمة جدا مقارنة بوضع الصحافة في العالم العربي، وروجت للمشروع الصهيوني كمشروع لعودة اليهود إلى «أرض الميعاد» التي طردوا منها منذ ألفي عام، واستعادة «مقدسات المسيحيين» وقد عبر عنها رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج بالقول عندما سقطت القدس في 11 كانون الأول/ديسمبر 1917 ونهاية الحكم العثماني لها، كتب في مذكراته أنه استطاع «تحرير» أقدس مدينة في العالم، و»أنه بتحريرها تمكن العالم المسيحي من استرداد أماكنه المقدسة».
وهنري غورو المندوب السامي الفرنسي في سوريا وضع قدمه على قبر صلاح الدين الأيوبي وقال:» ها قد عدنا يا صلاح الدين» وهذا تذكير بالحملات الصليبية واحتلال القدس في نهاية القرن الحادي عشر.
وهذه التصريحات مع كل الكتابات للصحافيين والكتاب في الصحف الغربية وخاصة في بريطانيا وفرنسا وأمريكا فعلت فعلها في غسيل الأدمغة، وهذه الدول كانت تمتلك لأكبر وكالات أنباء، خاصة وأن الطرف المقابل أي العرب بشكل عام لم تكن صحافتهم سوى صحافة محدودة النشر والقراء نظرا للأمية المتفشية وعدم القدرة على التوزيع لمسافات بعيدة وجلها كان يخاطب العقل العربي وليس العقل الغربي لأن العرب لم يمتلكوا الإمكانية لنشر صحف باللغة الفرنسية والإنكليزية. وهذه المشكلة مستمرة حتى اليوم.
إذاعة «بي بي سي»
ومع اختراع الإذاعة في عشرينيات القرن الماض وانطلاق إذاعة «بي بي سي» أنشأت أول إذاعة ناطقة باللغة العربي في كانون الثاني/ يناير 1938 «هنا لندن» والمذيع الأول كمال سرور، وقد لعبت هذه الإذاعة دورا كبيرا في العالم العربي حيث اكتسبت شهرة كبيرة وانتشارا منقطع النظير، وساهمت في بث خطاب منحاز للمشروع الصهيوني (وحتى اليوم أظهرت الإذاعة تحيزها لإسرائيل في حربها على غزة ).
في المقابل فإن الإذاعات العربية التي انطلقت بداية في مصر والجزائر مع بداية العام 1925 لم تكن سوى إذاعات محلية ومحدودة البث ومعظمها إذاعات خاصة (راديو القاهرة، وراديو مصر الملكية وسواها) وفي الجزائر كانت فرنسا تسيطر على كل وسائل الإعلام، وأول إذاعة رسمية انطلقت بعد الاستقلال 1963.
أما باقي الدول العربية فبعضها لم تعرف الإذاعات إلا قبل الحرب العالمية الثانية، وأخرى في الخمسينيات والستينيات، وبالتالي فإن دور الإذاعة كانت لبث خطاب الدولة. بل أن هذه الإذاعات فقدت مصداقيتها فيما يخص الحروب العربية الإسرائيلية لبثها الكثير من الأخبار غير الصحيحة، (وخاصة في حرب النكسة التي خدعت هذه الإذاعات الشعوب العربية قبل أن تكتشف الهزيمة الكبرى كإذاعة صوت العرب). بينما كانت الإذاعات الغربية التي تبنت الخطاب الإسرائيلي، تبث خطابا معاديا للمشروع القومي الذي كان يتزعمه الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي حسب زعمها أنه مشروع «لرمي اليهود في البحر».
الصور الكاذبة
مع اختراع التلفزيون في نهاية الأربعينيات وانتشاره في أوروبا وأمريكا استغلت الصهيونية الوسيلة الإعلامية الجديدة التي أبهرت الناس لأنها تتعامل مع الصوت والصورة، لبث كل ما هو مسيء للعرب بشكل عام، بتصويرهم يجلسون في المقاهي، ويركبون الجمال والحمير وهم في تخلف مخيف، وتجميل صورة إسرائيل الفتية التي نجحت بسرعة الصوت تحويل «صحراء» فلسطين إلى جنة بيارات البرتقال والزيتون والفواكه والخضار بفضل «الكيبوتسات» الزراعية، (مع العلم أن أشجار الزيتون والبرتقال بعد زراعتها لا تصل إلى مرحلة الإنتاج إلا بعد ست سنوات على أقل تقدير وهذا يعني أنها كانت موجودة منذ آلاف السنين) وقد ارتفعت الحملات ضد العرب بعد حرب السويس في العام 1956 خاصة في أوروبا (فرنسا وبريطانيا اللتان خسرتا أسهمهما في قناة السويس بعد التأميم) وكذلك إسرائيل التي شاركت في الحرب مع أنها لم تكن معنية بقناة السويس لكن الهدف كان إسقاط التيار القومي الذي كان يتزعمه جمال عبد الناصر، لكن المسألة جاءت عكسية فهذه الحرب أعطت زخما كبيرا للتيار القومي. خاصة وأن الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي كانت قد انطلقت، وحركة التحرر في تونس والمغرب أيضا.
الوسيلة الجديدة
في المقابل فإن الوسيلة الإعلامية الجديدة لم تر النور في العالم العربي، فكانت العراق أول من أنشا قناة تلفزيونية في العام 1956، وباقي الدول العربية قامت بإنشاء محطاتها ما بين 1960 و1975 وجميعها بالطبع تخضع كالإذاعات للدولة التي سخرتها لتمجيد الأنظمة وتلميع صورتها، ولم يكن لها أي حضور خارج إطار الوطن، فبقيت إسرائيل تسرح وتمرح في وسائل الإعلام الغربية من صحافة وإذاعات وتلفزيونات، بعدما عملت بكل الوسائل عبر عملائها للسيطرة على الإعلام الغربي بشكل عام، وبالتالي السيطرة على عقول الناس التي انطلت عليها الأكاذيب واتخذت مواقف مؤيدة لإسرائيل ومعادية للعرب وخاصة بعد حرب 67 التي أظهر الإعلام الغربي إسرائيل كدولة لا تقهر وتمكنت من الانتصار على الجيوش العربية في ستة أيام واحتلت كل أراضي فلسطين والجولان وسيناء. وفي هذه الفترة (ما بين حرب 67 وحرب 73) كان الهجوم الإعلامي الصهيوني في حده الأعظمي، واستمر فيما بعد مع عمليات التطبيع، ثم الحروب المتتالية على الفلسطينيين في لبنان وغزة.
ولم تستطع أي وسيلة إعلامية عربية أن تقدم خطابا مغايرا للخطاب الصهيوني، وحدها الجزيرة الإنكليزية استطاعت مع بداية القرن من اختراق الإعلام الغربي، وتمكنت من الدخول إلى ملايين المنازل في أوربا وأمريكا.
انقلاب السحر على الساحر
مع ظهور الإنترنيت وتطبيقاتها كوسائل للتواصل الاجتماعي، لم تتمكن الدول العربية من إنشاء شبكاتها إلا متأخرا (مع نهايات القرن العشرين) ومع ذلك لعبت دورا في التواصل مع الآخر الغربي في نطاق محدود، لكن عملية طوفان الأقصى وما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم يومية بحق الشعب الفلسطيني قلبت الموازين وغيرت المفاهيم القديمة الكاذبة، وجعلت شعوبا ودولا تقف مع الضحية، ومنها من يطالب بتحرير فلسطين من الماء إلى الماء، ومئات الآلاف تجوب شوارع المدن الغربية تردد شعارا على جميع الألسن: «حرروا فلسطين» وهذا أكبر انتصار إعلامي على الإطلاق، خاصة وأن «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم» وضعته الأمم المتحدة في اللائحة السوداء كقاتل للأطفال، ومتهم بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وزعماؤه ملاحقون من قبل محكمة الجنايات الدولية.
ويحاول صهاينة الولايات المتحدة تغطية هذه الشمس التي سطعت في عقول عشرات الملايين بغربال لكن هيهات فالفأس دخلت في الرأس.
كاتب سوري