لسنين طويلة، كانت حشود جماهير كرة القدم، في نظر المسؤولين العرب عمومًا، مجرد وسيلة للإلهاء وتكريس سياسة الأمر الواقع وزرع العداء والمشاحنات بين أبناء البلد، بحيث تتخذ هذه الرياضة كأداة لتأليب أبناء مدينة ما ضد مدينة أخرى، أو حتى بين أبناء المدينة الواحدة التي تتوفر على فريقين اثنين، وذلك عملاً بمقولة “فرّق تَـسُـدْ”.
ولذلك، يلاحظ أن رؤساء الأندية غالبا ما يكونون منتمين إلى مربع السلطة، كما أن الوصول إلى قيادة تلك الأندية لا تتحكم فيها عوامل الأهلية والجدارة والاستحقاق بالدرجة الأولى، بقدر ما يتحكم فيها الولاء والقرب من الأجهزة السياسية والأمنية ومدى القدرة على التناغم مع التعليمات الواردة من الإدارات العليا.
وبالنظر إلى أهمية كرة القدم في توجيه الرأي العام والتأثير عليه، لا تكتفي القنوات التلفزيونية بنقل المباريات التي تجري بين الفرق المحلية أو المنتخبات القومية، بل تخصص لها العديد من البرامج الإخبارية والتحليلية. وحين ترافق المباريات تجاوزات ما لدى طائفة من الجمهور، إنْ من حيث التصادم بين المشجعين أو من حيث تخريب الملاعب والممتلكات العامة والخاصة، فإنه غالبا ما يجري الحديث عن وجود مندسّين ومراهقين وسط المشجعين، لكن تكرار حالات العنف يجعل من الأمر ظاهرة لافتة للانتباه، حتى وإن حاول الإعلام الرسمي “التطبيع” معها.
اليوم، سقطت مقولة أنه يمكن التحكم في جماهير كرة القدم و”تخديرها” وتوجيهها نحو الصراعات الضيقة بينها لشغلها عن قضايا الشأن العام والمعيش اليومي. ففي غفلة من المسؤولين، تنامى الوعي لدى الأجيال الجديدة، بفعل التطور المذهل لشبكات التواصل الاجتماعي وتيسيرها للتواصل السريع بين الأفراد والمجموعات. وصارت الجماهير لا تحضر إلى ملاعب كرة القدم لمشاهدة المباريات وتشجيع فرقها فقط، بل جعلت من وجودها هناك مناسبة للتنفيس عن ضغوط اجتماعية وتمرير خطابات قوية، لم تُجْدِ معها استراتيجية الإلهاء المتّبعة على المستوى الرسمي، عبر مجموعة من الأدوات: الإكثار من نوع معين من البرامج التلفزيونية، افتعال قضايا صغيرة وهامشية وتضخيمها، تنظيم مهرجانات للترفيه، إذكاء الطمع بالفوز بجوائز براقة… وهلم جرا.
نشيد لا كالأناشيد!
جماهير “نادي الرجاء البيضاوي” أعطت المثال القوي على شعلة الوعي المتقدة لدى الأجيال الجديدة، إذ ابتكرت نشيدا صدحت به وسط مدرجات ملعب لكرة القدم، فتحول إلى نشيد رسمي مجسد لآمال وآمال الشعوب العربية قاطبة، لأنه بمثابة صرخة ضد تخدير الشباب وقتل طموحاتهم وضد نهب ثروات البلاد والانصياع للأجانب. وسرعان ما انتشر هذا النشيد عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولم يقتصر الأمر على المغرب، بل انتقل أيضا إلى مختلف البلدان العربية، وصار موضوعا لعدد من التغريدات والتعليقات في برامج “توك شو” مثلما فعل الإعلامي معتز مطر الذي أثنى على النشيد، وأبدى إعجابه به، لكون ـ كما يقول ـ يتضمن كلمات عبقرية وموحية تلخص أزمة الحكومات العربية مع الشباب. وكذلك فعل زميل آخر له حين قال إن جماهير “الرجاء البيضاوي” هتفت بلسان كل الشعوب العربية المظلومة والمقهورة.
وغرّد عبد الصمد ناصر، الإعلامي المغربي في قناة “الجزيرة”، على صفحته الافتراضية بالكلمات التالية: “لم تعد مجرد فضاء رياضي للفرجة والتشجيع والمنافسة، بل تحولت إلى (ترمومتر) لقياس نبض الشعب، تصدح فيها حناجر المقهورين لتبعث رسائل مباشرة وواضحة للسلطات، وبصوت تقشعر له الأبدان، معبّرة عن ألم وغضب شديدين مما آلت إليه أحوال الوطن.”
بيد أن بعض مَن أخذتهم العزة بالإثم حاولوا تفسير نشيد جماهير “الرجاء البيضاوي” على هواهم الخاص، محاولين نزع أية أبعاد سياسية قومية عنه، حيث زعموا أن ذلك النشيد يرتبط بسياقات خاصة ذات طبيعة رياضية. ولكنهم، وهم يكتبون نيابة بمداد السلطة متحكمين بهاجس أمني، كانوا كمن يسعى إلى حجب أشعة الشمس بالغربال، فكلمات النشيد واضحة، ورسالته وصلت إلى الجميع. إنه الخوف من تحول النشيد إلى حالة عامة تشمل كل الملاعب الرياضية. ومن ثم، تنشأ معارضة سياسية من وسط هذه الفضاءات الرياضية، بعدما تخلت الأحزاب السياسية والنقابات المهنية عن القيام بأدوارها النضالية في الدفاع عن مطالب الشعب.
بلاد تسير بإيقاعين!
معارضة أخرى بدأت ملامحها تتشكل رويدا رويدا، يتعلق الأمر بالمظاهرات التي جاءت بمبادرة تلقائية من طلبة مجموعة من المؤسسات التعليمية الثانوية في عدد من المدن المغربية، احتجاجا على قيام الحكومة بإقرار ساعة إضافية للتوقيت المغربي طيلة العام.
صحيح أن شعلة تلك المظاهرات قد خبت، بعد حدوث تجاوزات وأخطاء، نتيجة عوامل عديدة: قلة التجربة لدى الطلبة، وجود عناصر بين المحتجين حاولت الركوب على المظاهرات، غياب الإشراف والتنظيم الجيد… ولكن، لا يمكن لعاقل أن يشكك في كون ذلك الحدث أحدث إحراجا قويا للحكومة المغربية التي ما فتئت تحاول إقناع الرأي العام بوجاهة قرارها الذي بررته بالرغبة في الاقتصاد في استعمال الكهرباء، في حين أن الكل يعلم أنه جاء رضوخا لإملاءات شركات فرنسية.
وحاولت الحكومة التغطية على فشلها الذريع في إدارة الملف، من خلال الإعلام الرسمي، حيث جرى بث تقارير تلفزيونية، عبّر فيها طلبة وأساتذة عن ابتهاجهم بالقرار (الحكيم)، معتبرين أن إضافة ساعة إلى التوقيت المعتمد في البلاد لم يؤثر عليهم ولا على أسرهم. ولكن أصواتا من داخل البرلمان المغربي احتجت على قرار الحكومة الذي لم يخضع لأية استشارة عامة، وقد تردد صدى الاحتجاج عبر النقل التلفزيوني لجلسات البرلمان. ولعل تلك الأصوات كانت تستحضر مقولة غاندي الشهيرة: “إذا كنت تريد أن تفعل شيئا من أجلي بدوني، فإنك تقوم به ضدي”.
من هنا، يتبين أن المغرب يسير بإيقاعين: إيقاع حكومي بطيء وتقليدي ومعاكس لتطلعات المواطنين، يواكبه الإعلام الرسمي بالتطبيل والتزمير. وإيقاع شعبي شبابي ساخط، يجد متنفسه في وسائط التواصل الحديثة، حيث تُتداول الأخبار والصور والتعليقات والمواد الساخرة بسرعة فائقة.
كاتب صحافي من المغرب