في الوقت الذي كان نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس ومعه وزير الخارجية مايك بومبيو يجمعان نحو ستين دولة في مدينة وارسو البولندية، في تظاهرة تحت عنوان محاربة الإرهاب وأزمة الشرق الأوسط ومحاصرة إيران، كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يشارك إلى جانب وزير خارجيته محمد جواد ظريف في قمة ثلاثية في مدينة سوتشي الروسية، إلى جانب الرئيسين فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان لبحث تطورات الأزمة السورية، ومحاربة الإرهاب والتطورات الشرق أوسطية.
قمتان بأهداف شبه متقاربة في موضوعي محاربة الإرهاب وأزمة الشرق الأوسط، لكنهما تفترقان في تحميل المسؤوليات عن مسببي وتداعيات هذه الأزمات. ففي وارسو، عمل الأمريكي على حشد الحلفاء والأصدقاء وراء هدف مباشر عنوانه محاصرة إيران، التي تشكل «أكبر تهديد للسلم والأمن في الشرق الاوسط»، وغير المباشر عنوانه محاصرة دور التنسيق الإيراني الروسي، وإلى حد ما التركي في هذه المنطقة، التي تشهد تمددا واتساعا للدور والنفوذ الإيراني والروسي على حد سواء، من بوابة الأزمة السورية، وما يليها من أزمات في العراق واليمن، مرورا بالقضية الفلسطينية التي تشكل العبء الأكبر للتحرك الأمريكي الساعي إلى الانتهاء من ملف العلاقة بين اسرائيل والمحيط العربي والإسلامي.
وفي سوتشي وقف الرئيس الإيراني ليوجه اتهامه للولايات المتحدة بلعب دور تخريبي في المنطقة، خصوصا في الأزمة السورية، بهدف عرقلة الحلول السياسية، معتبرا أن التدخلات غير القانونية لاسرائيل في سوريا تبعث على القلق لدى «شعوب المنطقة» – المشاركين في وارسو؟!» والتشديد على أن الهدف المشترك لهذه الشعوب هو المواجهة الحاسمة للإرهاب وعودة الاستقرار والأمن إلى سوريا. مؤتمر وارسو حدد الأوليات المطلوبة في منطقة الشرق الاوسط وتتخلص:
محاصرة الدور والنفوذ الإيراني، انطلاقا من كون إيران هي الراعية الأولى للارهاب في العالم.
التأكيد على أمن إسرائيل وحقها في بناء علاقات جيدة ومنفتحة مع محيطها العربي والإسلامي.
الدفع باتجاه حل الازمة الفلسطينية، بناء على الوضع القائم والرؤية الأمريكية التي يعبر عنها بـ»صفقة العصر».
إخراج إيران من سوريا وإبعاد التهديد الأمني الذي يشكل مصدر قلق إسرائيلي.
إبعاد إيران عن القضية الفلسطينية والتدخل مع الفصائل والقوى السياسية المعنية.
الحد من الطموحات الروسية في التحول إلى لاعب أساسي ومقرر منفرد بالازمة السورية.
عدم ترك الساحة لموسكو للعب دور الوسيط غير المباشر بين طهران وتل أبيب.
وهي أهداف تعبر عن جانب من أسباب الحشد في المواقف، التي تقف واشنطن خلفها، والتي يمكن إضافة موضوع البرنامج الصاروخي الباليستي والطموحات النووية والتمدد الإيراني عبر القوى الحليفة والأذرع العسكرية والسياسية في بعض العواصم العربية، من أهم الأهداف التي تقلق تل أبيب والتي تصيب واشنطن والدول المحيطة بإيران بعدوى هذا القلق.
في المقابل، ظهر الرئيس الإيراني في قمة سوتشي بصورة المتشدد والواثق من الخطوات التي يقوم بها والنتائج التي حققها، من دون أن يخفي القلق من الخطوات التي قد تقوم بها واشنطن، على الرغم من إعلان انسحابها من سوريا، وقد بلغ مستوى الثقة الايرانية بالنفس أن أعرب روحاني عن استعداد بلاده للعب دور الوسيط بين الحكومتين التركية والسورية، من أجل إعادة العلاقات، وبناء الثقة من جديد بينهما. ومن خلال الرؤية التي وضعها روحاني على طاولة المباحثات أمام نظيريه الروسي والتركي، فقد رسم خريطة الطريق لحل الأزمة السورية، التي على الشريكين الموجودين والمجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل التسليم والسير بها، عندما حدد معالم الحل بالنقاط التي سبق أن حددها مطلع عام 2013، في اللقاء الثلاثي الذي ضم وزيري الخارجية الإيراني والمصري وممثلا عن وزير الخارجية السعودي في القاهرة، مع بعض التعديلات الطفيفة في الشكل وليس في المضمون، وهي الشروط التي لم تكن طهران قد توصلت إلى تفاهم حولها مع موسكو التي لم تكن تبدي تمسكا ببقاء الرئيس الاسد، أو حتى وحدة الاراضي السورية. وقد وضع روحاني أفق الحل السوري في إطار..
مواجهة حاسمة مع الإرهاب وعودة الأمن والاستقرار إلى سوريا وكتابة دستور جديد تنشأ عنه حكومة ديمقراطية.
عودة النازحين وإعادة الإعمار.
وحدة الأراضي السورية، ورفض أي أشكال للتقسيم أو الأوضاع الخاصة.
اعتبار الأكراد جزءا لا يتجزأ من التركيبة السورية مع بعض الخصوصية ضمن التركيبة السورية الواحدة.
إجراء انتخابات رئاسية مع حق الرئيس الاسد بالمشاركة فيها، والاستمرار بالسلطة إذا ما تم انتخابه.
وما أرسته قمة سوتشي على صعيد الأزمة السورية هو حشر الشريك التركي في زاوية الوعود الأمريكية غير القابلة للتحقق، والتي لا يمكن لأي من الشريكين الروسي والإيراني الموافقة عليها، خاصة ما يتعلق باستمرار الوضع الأمني في إدلب من دون حسم وعودتها إلى حضن السيادة السورية في دمشق، إضافة إلى رفض إنشاء منطقة عازلة أو آمنة في منطقة شرق الفرات والعمل على تسريع عودة هذه المناطق إلى السيادة السورية، وبالتالي وضع أنقرة أمام واحد من خيارين، إما خسارة ما طمح إليه من لعب دور مؤثر في حل الأزمة السورية، وإما العودة إلى اتفاقية أضنة وما تسلتزمه من وجوب الانسحاب من جميع الاراضي السورية، وممارسة حقها في ملاحقة خصومها من الاكراد إلى عمق 5 كيلومترات فقط داخل الاراضي السورية، التي من المفترض أن تكون بكاملها خاضعة لسيادة الدولة في دمشق. الموافقة التركية المرغمة على شروط قمة الرابعة بين الدول الثلاثة في ما يتعلق بإدلب وشرق الفرات، قد يحمل واقعا ميدانيا قاسيا لانقرة، بصعوبة فرض شروطها في هذه المناطق، إضافة إلى الشعور بالخديعة الأمريكية بإطلاق يدها في هذه المناطق في ظل عدم وجود آليات واضحة، إلى جانب الشعور بعجز واشنطن على الوفاء بالوعود التي قدمتها لأنقرة في هذا السياق. ففي الوقت الذي تسعى واشنطن لحشد مواقف كلامية ضد إيران ودورها الإقليمي والصراخ في مواجهة تمددها ونفوذها في العديد من الدول والعواصم في المنطقة، من دون أن يكون هناك أفق واضح لترجمتها عمليا بإجبار طهران للتراجع أو تقديم تنازلات ما لم تدفع باتجاه حرب مباشرة معها، يبدو أن طهران تعطي الأذن الصماء لهذه المواقف والتصريحات والحشود الصوتية، وتعمل في المقابل على تعزيز سيطرتها وموقعها ودورها في المعادلات الاقليمية من خلال المشاركة الفاعلة في رسم مستقبل أزمات المنطقة، وتعلن تمسكها ببرنامجها الصاروخي، وتستخدمه أداة تصعيد في وجه التهديدات الامريكية والاسرائيلية في اي هجوم قد تتعرض له، من خلال الحديث عن استهداف كل القواعد التي قد تستخدم للاعتداء عليها في المنطقة، إضافة إلى استهداف إسرائيل وعمقها كرد طبيعي على واشنطن.
تصعيد كلامي ضد إيران في وارسو هدفه تحقيق تسوية بين اسرائيل والمحيطين العربي والاسلامي، في المقابل خطوات ايرانية ميدانية في قمة سوتشي لحل الأزمة السورية، وتهديد بالرد على أي اعتداء، مع إبقاء قناة الوساطة الروسية مع اسرائيل مفتوحة، ما يعني أن المرحلة تعبر عن مرحلة شد الحبال بين الطرفين يسعى كل منهما على تحقيق المزيد من النقاط على حساب الطرف الآخر، واستبعاد الحرب المباشرة ما أمكن، فهل سيحتكم الطرفان إلى منطق التفاوض؟ أم إلى منطق الحرب، ومن يتحمل تداعيات أي مواجهة؟
*كاتب لبناني