يعتقد كثيرون أن المؤلفات الخيالية تستهوي المتلقي أكثر من الأعمال الواقعية والسير الذاتية. فهي فضاء يسبح في أجوائه المتلقي المتعطش إلى الهروب من واقعه الدرامي المفعم بالهموم والمآسي والصراعات والأخبار الحزينة. غير أنّ السنوات الأخيرة كشفت عن إقبال متزايد على الأعمال الوثائقية أو غير الخيالية، والمذكرات الشخصية، وسير حياة المشاهير، لاسيما في المجتمعات الغربية. ويمكننا بلا ريب تفسير هذا التحول بضجر الإنسان المعاصر من الأعمال الخيالية، التي صار ينظر إليها على أنها مصطنعة ومستهلكة، لا تعبّر سوى عن أفكار وتوجهات صاحبها، الراوي العليم، الذي يوظف فيها شخصيات وهمية، يتحكم في لغة حوارها، ويحدد بدايتها ونهايتها، ويتدخل في مجريات أحداثها.
صار المتلقي ينجذب بشكل متزايد نحو أعمال واقعية تلعب أدوارها شخصيات حقيقية، لا يحدد المؤلف أفعالها، ولا يملي عليها أقوالها، ولا يتدخل في سير وقائعها. من جملة ذلك المذكرات الشخصية وسير المشاهير، التي عادة ما يتم تسجيلها من خلال مخطوطات وكتب. والسؤال الذي يطرحه كثيرون الآن هو، ما إذا كان يمكننا أن ننظر أيضا إلى الفيلم السينمائي على أنه وثيقة تاريخية في وسع المؤرخ اللجوء إليها واعتمادها مصدراً موثوقاً؟
الإمبراطورية الرومانية
الإجابة على هذا السؤال تكمن بلا ريب في السلسلة الدرامية التاريخية في موسمها الثالث بعنوان «الإمبراطورية الرومانية: كاليغولا الإمبراطور المجنون» التي تُعرض حلقاتها في هذه الأوقات في الشبكة الأمريكية (نتفليكس) Netflix. السلسلة تصوير دقيق، ووصف صادق لأحداث حقبة في سجل تاريخ الإمبراطورية الرومانية الحافل بالبطولات والأحداث. وهي منبثقة من أحداث واقعية، اعتمادا على حقائق تاريخية متفق عليها. ورغم الكم الهائل للأفلام والمسلسلات التي يجود بها موقع نتفليكس، فقد استطاعت هذه السلسلة أن تخطف كل الأنظار، لترتقي إلى قائمة أفضل عشرة أفلام في هذا الموقع الترفيهي العالمي.
البنية والموضوع
تطبع هذه السلسلة حوارات قصيرة، يتخللها صوت الراوي، الذي لعب دورا كبيرا في تقديم حبكة مشوقة وتعميق البعد الدرامي، فضلا عن الصور الغنية بعناصرها السينوغرافية والمصحوبة بموسيقى تصويرية، أضفت على أطوار السلسلة الإثارة والرعب.
السلسلة ترحل بنا إلى بدايات الإمبراطورية الرومانية، وإلى عهد تيبيريوس، الإمبراطور الثاني، الذي خلف القائد الكبير أغسطس، حيث كانت الإمبراطورية في أوج توسعها، تمتد حدودها إلى هيسبانيا وسوريا ومصر وشمال افريقيا. يسلط الفيلم الضوء على سيرة كاليغولا، أحد الشخصيات الشهيرة الأكثر غرابة وجدلا في التاريخ. الفيلم في حد ذاته لم يخل من الجدل والنقد، لما تضمنه من مشاهد جنسية صادمة في فيلم تاريخي بالدرجة الأولى.
اعتلاء العرش
ولد كاليغولا عام 12 ميلادية، وكان الابن الثالث لأغريبينا الكبرى حفيدة أغسطس؛ وجرمانيكوس يوليوس قيصر، الجنرال الشهير في الجيش الروماني. بعد وفاة جرمانيكوس في أنطاكية عام 19 ميلادية، عادت أغريبينا وأطفالها إلى روما، حيث تورطت في صراع مرير مع تيبيريوس أدى إلى نفي بعض أفراد الأسرة، وقتل بعضهم الآخر بتهمة الخيانة ولم ينجُ من الأولاد إلا كاليغولا، الذي اعتلى عرش الإمبراطورية لاحقا بعد وفاة تيبيريوس عام 37 ميلادية، واستطاع بعد ذلك استعادة الاتصال بشقيقاته الثلاث العائدات من المنفى.
استطاع كاليغولا أن يكسب قلوب الجماهير في بداية حكمه، حيث أطلق سلسلة من المشاريع مشيدا الموانئ والمسارح والمعابد، وقنوات المياه وغير ذلك، ليصدمهم بعد ذلك بتصرفات غريبة. شعوره بالخوف على مكانه في السلطة، دفعه إلى التفكير في إنجاب طفل يكون يوما خليفته. وفي محاولاته اليائسة لتحقيق ذلك ارتكب المحرم مع شقيقاته الثلاث، إلى أن حملت منه أخته جوليا دروسيلا، حيث أذاع خبر الحمل وأعلنها زوجة له. فأثار الخبر الصادم سخط الشعب الروماني الذي صار الآن ينظر إليه على أنه طاغية منحرف أخلاقيا. كان زنا المحارم يُعد أسوأ محرم وأكبر فضيحة في روما.
;كان رده على انتقادات مجلس الشيوخ عنيفا، حيث أمر بمحاكمة عشرات الأعضاء وإعدامهم بتهمة الخيانة. فتخلّص الإمبراطور من خصومه، ولم تتخلص الإمبراطورية من الديون.
كاليغولا المجنون
الخبر أثار أيضا حسد شقيقته أغريبينا الصغرى، التي كانت تطمح إلى التربع على عرش الإمبراطورية الرومانية، ونظرت إلى الخليفة المقبل على أنه خطر عليها. فاشتركت أغريبينا وشقيقتها ليفيلا، وابن خالتها ليبيدوس في مؤامرة لاغتياله عام 39 للميلاد. لكن المحاولة باءت بالفشل، فأمر كاليغولا بإعدام ليبيدوس ونفي شقيقتيه إلى جزيرة بعيدة في المتوسط.
حلم كاليغولا بإنجاب الخليفة، لم يتحقق حيث مرضت دروسيلا وعجز الأطباء عن إنقاذها وإنقاذ الجنين.
تأثر كاليغولا بوفاة دروسيلا فأصيب بالاكتئاب، وساءت أحواله العقلية وتغيّر سلوكه، فكان على الشعب الروماني أن يتحمل عبء ذلك. أعلن الحداد معاقبا كل من خالف قواعده. وعمل على رفع زوجته الفقيدة إلى مقام الإلهة تماما مثل فينوس، إلهَةُ الحب والجمال والرغبة والجنس والخصوبة والرخاء والنصر؛ أو جونو، أخت الإله جوبيتر وزوجته. وفرض على شعبه أن يقْسِم بـ«الإلهة دروسيلا»! تصرفاته الصادمة لم تتوقف عند حد الزواج من شقيقته. فبعد وفاتها صدم مرة أخرى روما بزواجه من امرأة كانت حاملا من رجل آخر، تدعى ميلونيا كايسونيا، في بحثه اليائس عن خليفة. ومرة أخرى لم يدم فرحه طويلا حيث أنجبت له بنتا، كانت خيبة أمله كبيرة. فهذه البنت – مثلما كان يشعر – سيتزوجها يوما رجلٌ ما، وهو من سيتولى الحكم من بعده.
حياة بذخ ولهو
راح بعد ذلك يحيا حياة عبث ومجون وشرب وجنس. وطفق يأمر ببناء التماثيل له في مختلف البنايات الشهيرة والمعابد غير مكترث بما كان يبذر من أموال الخزينة العامة. وبعدما سعى في الأول لتحويل زوجته إلى إلهة صار اليوم يرغب في تحويل نفسه إلى إله، وهذا ما يجسده إقامة ما لا يحصى من التماثيل له في كل الأماكن، ما لم يحدث أبدا في تاريخ الإمبراطورية الرومانية. تبذير الأموال تعدى كل الحدود حيث بلغ 13 بليون سسترس في أقل من سنة واحدة، ما أحدث عجزا في ميزانية الدولة وأغضب مجلس شيوخ الإمبراطورية. رده على انتقادات مجلس الشيوخ كان عنيفا، حيث أمر بمحاكمة عشرات الأعضاء وإعدامهم بتهمة الخيانة. فتخلّص الإمبراطور من خصومه، ولم تتخلص الإمبراطورية من الديون. ولمواجهة الأزمة المالية، فرض كاليغولا المفلس ضرائب جديدة على المواطنين الرومان، ما أثار سخطهم واحتجاجهم.
المخاطرة بغزو بريطانيا
ومن أفعاله الغريبة قراره المفاجئ غزو بريطانيا. لم يكن هذا القرار وليد الصدفة، ولا رغبة منه في المساهمة في توسيع حدود الإمبراطورية الرومانية، وإنما بحثا عن مخرج من الظروف الحرجة التي كان يمرّ بها. فبعد تدني شعبيته نتيجة إسرافه في تبذير الأموال العمومية ورفع الضرائب، خطرت بباله فكرة شن حملة عسكرية على بريطانيا، وضمها إلى الإمبراطورية. لقد أدرك الآن أنه، بعد مرور سنتين من اعتلائه عرش أكبر إمبراطورية في العالم، لم يقدم شيئا مما قدمه القادة الرومانيون السابقون للمواطنين. ففي عهده لم تحقق الإمبراطورية الرومانية، أي فتوحات جديدة، ولم يشهد المواطنون منه غير التعسف والرعب والموت. فكل ما أحسن فعله هو تبذير الأموال لأغراض شخصية، وإفلاس خزينة أعظم دولة وإثقال كاهل هؤلاء المواطنين بالضرائب لسد العجز المالي الرهيب. فحتى يستعيد ثقة المواطنين، ويثبت لهم أنه جدير بالحكم، وأنه لا يقل عظمة عن الأباطرة السابقين، فكر في شن حملة لاحتلال بريطانيا سنة41 بعد الميلاد. وإذا بالغزو ينتهي قبل انطلاقه، نتيجة استبداده في الرأي، وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة وهبوط معنويات أفراد جيشه، وعدم استعدادهم المجازفة باجتياز البحر، ومهاجمة بلاد محصنة خلف جروف دوفر البيضاء، في فصل الشتاء القاسي. وأمام تردد جيشه والخوف من تمرده عليه، اضطر في الأخير إلى التخلي عن مخططه والعودة إلى روما منكلا بأعداد من جنوده، المكبلين بسلاسل، في شوارع المدينة كما لو كانوا أسرى حرب!
سقوط كاليغولا
ازداد قلق مجلس الشيوخ على حال زعيمهم المجنون، الذي لم يعد يفرق بين أصدقائه وأعدائه، فقد اقتنعوا الآن بضرورة تنحيته من السلطة، لأنّ بقاءه سيضر بمصالح الإمبراطورية. فاشتركوا في مؤامرة بمساعدة الحرس الإمبراطوري، أدت إلى اغتياله رفقة زوجته وابنته في أواخر يناير/كانون الثاني عام 41 . وبموته، انتهت أسطورة كاليغولا الإله الجبار الذي لا يقهر.
واليوم، بعد مرور قرون طويلة على رحيله، ما زال اسم كاليغولا يقرن بالجنون والمجون، وما زال يذكر على أنه ذلك الإمبراطور المستبد والمنحرف الذي حوّل قصره إلى بيت للمجون واستغرق في اللهو والبذخ وارتكب المحرمات، وأوقع أكبر إمبراطورية في الدنيا في فخ الديون. لكن رغم كل الآثار السلبية التي طبعت حكمه، ورغم فشله في ضم بريطانيا، لا يمكننا أن ننكر فضل هذا الرجل في امتداد حدود الإمبراطورية الرومانية غربا إلى الجزر البريطانية، حيث استفاد خليفته الإمبراطور كلوديوس من تحضيراته السابقة لتحقيق الفوز وغزو بريطانيا عام 43 ميلادي.
٭ كاتب جزائري
مقالممتاز يا استذنا الغالي نتمنى لك المزيد من النجاح.
يسألونك عن السينما فقل واقع وخيال تجمع بينهما ادا شاءت وتفرق بينهما كدالك فامثل هده الصور التاريخية القديمة تهيئ لها الوجوه التي شابت في التمثيل لا الكل انه التاريخ لقد شاهدنا افلاما تاريخية رومانية نالت أعجابنا ايما أعجاب فما قاله الكاتب المحترم عن هدا الفيلم كفاية فالنقد غالبا مايكون في مصلحة الفيلم ومخرجيه خاصة ادا كان من التاريخ