■ في أربع محاضرات مشهودة في جامعة كامبريدج في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 كان مدرج كلية الكلاسيكيات يغص بالحضور، أساتذة وطلبة ومن خارج الجامعة، للاستماع إلى إدوارد سعيد. كان سعيد زميلاً غير مقيم في كلية «كنغز كوليج» في الجامعة، التي استضافته في إطلاق سلسلة محاضرات «أمبسون» تخليدا للكتاب والناقد وليام أمبسون، الذي تخرج من الجامعة نفسها ومثل كتابه «سبعة اصناف من الالتباس» الصادر عام 1930 التأسيس لاتجاه النقد الجديد في الشعر والنص.
قبل عقد تقريبا من محاضراته الأربع في كامبريدج، كان سعيد ضيف سلسلة محاضرات «ريث» الإذاعية الشهيرة على «بي بي سي» التي تحدث فيها عن تمثلات المثقف، وصدرت لاحقاً في كتاب بعنوان «تمثلات المثقف». محاضرات كامبريدج إلى جانب محاضرات أولية حول الثيمات نفسها، ألقيت في جامعة كولومبيا، شكلت جوهر كتاب سعيد اللاحق بعنوان: «الإنسانوية والنقد الديمقراطي»، ترجمه إلى العربية فواز طرابلسي.
آنذاك كنتُ وزملاء آخرون كُثر كانوا ضمن جمهور المحاضرات الأربع، ننتظر أن نسمع سعيد المُسيس، لاسيما والنقاش حول كتابه «الثقافة والإمبريالية» كان حاضرا بشدة في الدوائر الأكاديمية. اختار سعيد أن يبحر في، ويطرح منظوره الخاص حول، مسألة الإنسانوية في الأدب، وهو ما كان دوماً مُلتبساً ومُستبطناً في ادعائوية غربية تُماهي بين الإنسانوية والأدب الغربي. تمثل هذا التماهي في أكثر صورة تبجحاً والمنطلق من مركزية غربية وأوروبية في أشد صوره المُستعلية في كتاب هارولد بلوم The Western Canon: The Books and School of Ages، الذي تصعب إلى حد ما ترجمة الجزء الأول من عنوانه بدقة تلتقط مقصده الإنكليزي، ويمكن أن تكون: «النصوص المعيارية في الأدب الغربي: الكتب ومدرسة الأجيال»1، أو «المُعتمد الغربي: الكتب ومدرسة الأجيال» الصادر سنة 1994.*
استدعاء هذا النقاش يأتي في سياق الكتابات التبجيلية التي نُشرت مؤخرا حول بلوم، الذي توفي قبل أسابيع وقد قارب التسعين من عمره. بلوم الأمريكي، يُعتبر من أشهر النقاد الغربيين في القرن العشرين وما تلاه، وظل حتى آخر أيامه محاضراً منهمكاً في جامعة ييل، رغم المرض الذي أقعده وهده. لا يستطيع أحد التقليل من علو كعبه في ميدان النقد الأدبي، وقد أدهش أجيالا من الكتاب والطلبة والمتابعين بقدرته الفائقة على متابعة السرديات الروائية والشعرية الغربية، ووُصف بأن رأسه كان مكتبة هائلة احتوت وحفظت آلاف الكتب. بطله الأول والأخير كان شكسبير، ووصفه ذات مرة بالقول: «شكسبير هو الله»، إمعاناً في إعلاء قدره. ترك بلوم إرثا نقديا كبيراً، وأثار نقاشات ما تزال مستعرة حتى الآن. كتب عن «القارئ العادي»، وعن «قلق التأثير» الذي يسيطر على أي كاتب ما إزاء من سبقه وتأثر بهم، ولم يتمكن من التحرر من ذلك التأثير (الأبوي، الفرويدي) حسب بلوم.
بيد أن أكثر جوانب طروحاته خلافيه وإثارة للنقاش (والحنق) تمثل في احتقاره لتيارات الأدب، التي تمردت على نمط الكلاسيكيات الغربية، والتي اعتبرها المعيار الأساس في الحكم على قيمة الأدب. وانتقد بشراسة آداب وإنتاج ما بعد الكولونيالية، والفوكوية، والنسوية، والتعددية الثقافية، والتاريخيانية، والتفكيكية، وغيرها. وقاد حملة ضد هذه الآداب وتصعيدها في مناهج الجامعات وأقسام النقد الأدبي، وكان ذلك جوهر كتابه الأشهر، الذي صنّم فيه كلاسيكيات الأدب الغربي، واعتبرها «المعيار» الإنسانوي الحقيقي في الآداب. في كتابه ذاك ضمّن بلوم وحلل آداب وإنتاج 26 كاتبا غربيا، اعتبرهم واعتبر ما أنتجوه «القانون» والمعيار الأساسي، الذي رسم حدود ومعالم الأدب في العالم.
نقد بلوم ونظرته رجعية وتبني حدودا صارمة للأدب، وتشترط على من يدخلها أن يدق الباب بطرقات أدوات النقد «البلومية» التي تستدعي شرعية إبداعها من قدرتها على الاقتراب من «النصوص المعيارية» وتمثلها واستبطانها.
تصدر تلك القائمة بطبيعة الحال وليام شكسبير، تلاه دانتي، ثم جفري تشوسير، وميغيل دي سيرفانتس، وتضمنت قائمته أيضا موليير، وصامويل جاكسون، وغوته، وجين أوستن، وتشارلز ديكنز، وتولستوي، وفرويد، وبروست، وجيمس جويس، وفرجيينا وولف، وكافكا، ونيرودا، وختمها مع صامويل بيكيت. المعيار الاساس الذي اعلى من قيمة هؤلاء، وضمن لهم مقعدا في هذا النادي الحصري هو المعيار الجمالي «الإنسانوي» وحسب، تبعاً لبلوم. أي معايير اخرى تتمدد باتجاه المجال الثقافي أو الدلالي، أو السياق السياسي والاجتماعي، أو الكولونيالي للكاتب أو الكاتبة، أو ما انتهت إنتاجاتهم إليه ليس له قيمة ولا صلة بقيمة العمل الأدبي، بل إن العمل الأدبي يفقد كثيرا من قيمته إذا تجلت فيه، مثلا، مواقف اجتماعية أو سياسية معينة، تعبر عن أشواق ثقافية أو قيمية أو نضالية.
ولهذا فإن بلوم يرفض ويزدري كل ما يندرج تحت عنوان «النقد الثقافي» وهو المساحة التي اتسعت في فضاء النقد ووسعته، وهشمت الحدود الصارمة التي كانت قد أرستها آداب المركزية الأوروبية. يقول في كتابه إن توجهات الأدب والنقد التي انحرفت عن «المقياس» الحقيقي للأدب، حسب ما يراه، وهي التوجهات التي أشير إليها أعلاه، ويُجملها تحت عنوان «مدرسة النقمة» أو School of Resentment، لم تقدم أي جماليات في العمل الأدبي، بل قامت بتدميره باسم العدالة الاجتماعية والسياسية! وأن الأدب يجب أن لا يكون مُثقلا بالأخلاقيات والقيم، ولا يحمل أي رسائل، وليس من مهماته المناداة بالقيم.
أطروحة إدوارد سعيد في الإنسانوية، في محاضرات كامبريدج ثم في كتابه، تفكك إنسانوية بلوم وسواه، ممن خطفوا المفهوم واستعمرره غربيا. لكن سعيد في نقضه لهذه الإنسانوية الأحادية لا يلغي عبقرية الكثير من الأدب الغربي وأثره وإنسانويته، بل يقر بها ويحتفل بها. ويفرق، وهنا الأهم، بين الإنسانوية المُتحرره من أي مركزيات والإنسانوية التي خضعت لخدمة المركزية الغربية واشتغلت بوعي أو بدونه، كملحق للاستعمار ومنظوره وتراتبيته. سعيد الذي اتهم كثيرا بالتطرف في تفكيكه للاستشراق ولعلاقة الثقافة الغربية بالإمبريالية، يعيد ترتيب المواقع بوضوح في نظريته الإنسانوية، ويطرح «النقد الديمقراطي» بديلا عن النقد الجامد المُتأسس على معايير مُسبقة لا تنفك عن المنتج الغربي القديم والمعاصر. يستدخل «النقد الديمقراطي» معايير وعناصر جديدة، ويُبقي الباب مفتوحاً على ما يستجد في فضاء الأدب والنقد، ويحرره من الانهماك الخفي بربط أدواته مع المعايير الغربية التي كرسها بلوم.
نقد بلوم ونظرته رجعية وتبني حدودا صارمة للأدب، وتشترط على من يدخلها أن يدق الباب بطرقات أدوات النقد «البلومية» التي تستدعي شرعية إبداعها من قدرتها على الاقتراب من «النصوص المعيارية» وتمثلها واستبطانها. لا يلفظ سعيد المعايير الغربية كلها، لكنه في المقابل يرفض فكرة الجدران الحصرية، التي تنصبها في وجه المعايير الأخرى. عندما تصطف المعايير الغربية إلى جانب المعايير الأخرى التي تقدمها فضاءات الآداب غير الغربية نتجه حقاً نحو الإنسانوية الديمقراطية، التي تنتج تعددية خصبة مفتوحة على كل الآفاق، وليس لها معبد حصري له باب واحد، ولا يقف عليه حراس وكهنة يمنحون الشرعيات وفق أي مركزية كانت.
٭ الشكر للناقد فخري صالح على النقاش حول ترجمة عنوان الكتاب، وكنت قد اقترحت «المذهب الغربي الادبي»، الذي رأى أن الأدق هو «النصوص المعيارية في الادب الغربي».
هذا تأمُّلٌ رزين، ومتبصر، وجدير بكل التقدير.