لا ريب في كون الثورة الرقمية بوصفها ثورة العصر الراهن، ثورة القرن الواحد والعشرين، لها فضائل وامتيازات على بني البشر، في مختلف المجالات والمستويات والقطاعات، لا يسع المجال لذكرها والحالة هذه، وهي معروفة، وهناك الكثير من المؤلفات والدراسات والأبحاث تسوقها بالتفصيل.
لكن ينبغي أن لا يؤدي بنا ذلك إلى التغاضي والإغفال عن الوجه الآخر لعالم الرقمية، أوليس للتقدم دائما وجهاً آخر متستراً؟ إنه قناع الرقمية، ذلك الوجه الخفي منها: السلطوية المستترة للرقمية.
تلك السلطوية الناعمة التي سلبتنا أهم شيء؛ لقد سلبتنا إرادتنا الحرة كذوات فاعلة؛ سلبتنا حريتنا وحميميتنا بكل نعومة. إنها انتزعت منا خصيصتنا البشرية باسم التقدم والتطور التكنولوجي، بوعود زائفة تقول بتقديم حياة أفضل للبشرية. إننا أمام سيرورة لا تنفك عن تعرية الإنسان إلى أقصى درجة، حيث أضحى شفافاً أكثر من اللازم، من طرف جهات تعرف عنه كل شيء ولا يعرف عنها أي شيء. يتعلق الأمر بعالم «البيغ داتا» أو المدونة الكبرى للمعطيات. تلك المنظومة الرقمية التي تخزن وتعالج كل المعطيات التي يتركها المبحرون في العالم الافتراضي من خلال فيسبوك وغوغل وآبل وأمازون وتويتر. فهذه الشركات تبرم مع المبحر عقداً إذعانياً، يسمح بمقتضاه لهذه المؤسسات أن تستخدم بيانات حياته الخاصة جزئياً، أو كلياً، وتبيعها للمصالح الاستخباراتية وللمؤسسات التجارية، ماذا تركت «البيغ داتا» هذه للإنسان؟ ربما لم تترك له أي شيء؛ فقد عرته بشكل كامل. هذا ما دأب عليه الكتاب موضوع القراءة، الموسوم بـ»الإنسان العاري.. الديكتاتورية اللا مرئية للرقمية» لمارك دوغان وكريستوف لابي، الصادر في نسخته الفرنسية الأصلية عن منشورات Plon باريس 2016. ترجمه إلى العربية سعيد بنكراد، تحت عنوان «الإنسان العاري.. الديكتاتورية الخفية للرقمية»، عن المركز الثقافي للكتاب ـ الدار البيضاء 2020.
لم نعد نعيش في واقع يومي معيش ومحسوس، كما عاشه وألفه أجدادنا، بقدر ما أضحينا نعيش في عالم افتراضي، يُراد له أنْ يكون واقعاً بديلاً عن واقعنا الحقيقي. هل فعلاً يمكن لعالم الرقمية أنْ يحل محل الواقع الملموس، بوصفه بديلاً مكتملاً عن واقعنا البشري المعيب والناقص؟ يُجيبنا الكاتبان عن هذا السؤال بالنفي. فلا شيء في نهاية المطاف يُضاهي ذلك النقصان البشري المتمثل في الواقع المعيش، الذي يستمد منه الإنسان عظمته. مستشهدان في ذلك بأمثولة أفلاطون الشهيرة «أمثولة الكهف». لقد أصبح مصيرنا شبيها بمصير أولئك الرجال الذين وُضعوا في كهف منذ ولادتهم، فقد كان كل واحد منهم تحت مراقبة حارس يوهمه بأن الظلال المنعكسة على جدار الكهف، أو بالأحرى ظلال الأشياء هي الواقع، بل هي الحقيقة ذاتها. «وها هي نبوءة أفلاطون تتحقق الآن. فنحن مكبلون بالأوهام في العالم الذي تريده البيغ داتا، كما لم نكن أبداً من قبل».
يعود الفضل في ذلك بشكل أساسي إلى النظام المعلوماتي الضخم المسمى «البيغ داتا» الذي يُعتبر بدون منازع أحد أهم منجزات الثورة الرقمية. كيف لا، وهو الذي جردنا من ملابسنا، وجعلنا عراة عن طواعية وبكامل إرادتنا. ينتزع منا معطياتنا الشخصية بكل يسر ونعومة. لقد غدونا عراة أمام فئة قليلة من الشركات المتعددة الجنسية، أغلبها أمريكية، كما هو شأن غوغل وفيسبوك وتويتر وآبل وأمازون، كما أسلفنا الذكر. التي لا تنظر إلى الأفراد المبحرين وغير المبحرين إلا بوصفهم كتلة من المعطيات أو كموضوع للأم الكبيرة «البيغ داتا» أو كمشروع لكائنات رقمية بهويات رقمية، قد تحل حل هوياتهم الذاتية كأشخاص. إنهم يعرفون عنا كل شيء، أما نحن فلا نعرف عنهم أي شيء: يعرفون عاداتنا الغذائية، ونمط لباسنا، وعاداتنا الاستهلاكية، وميولنا الجنسية، ومواقفنا السياسية، وعلاقاتنا الاجتماعية، ونمط عيشنا… وَهَلُمَّ جَرّاً. إننا أمام منجم ضخم من المعلومات، التي يباع جزء كبير منها في واضحة النهار إلى الشركات التجارية، ووكالات الاستخبارات في مجمل بقاع العالم. هذا إنْ لم تكن «البيغ داتا» نفسها الابن غير الشرعي للزواج الشرعي بين جهاز الاستخبارات والشركات الآنفة الذكر. أولم تكن البداية في منتصف الثمانينيات بمخابر الجيش الأمريكي؟
كيف يُمكننا الإبحار في العالم الرقمي والاستفادة من خيراته ومنافعه قدر الإمكان، بدون أنْ نكون محط مراقبة شاملة واستغلال تجاري كامل، بدون أنْ نفقد حميميتنا وحياتنا الشخصية، بدون أن نتحول إلى كائنات رقمية.
لقد غيرت هذه الشبكة الرقمية كل شيء في الشرط البشري المعاصر، في علاقتنا مع أنفسنا، وفي علاقتنا مع الأغيار، وأهم من هذا علاقتنا بالواقع الملموس الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ منا.. إلى أين؟ إلى الأسوأ: «إنها تسير بنا إلى عالم حيث يكون الإنسان مفصولاً عن نفسه وينتهي بأن يكون كائناً قابلاً للمراقبة المطلقة، بدون إكراه وبدون عنف جسدي. والحقيقة الوحيدة ضمن هذا التطور الهائل هي حدود التبادل.. شفافية وأمنا وعمرا طويلا، مقابل الشفافية المطلقة واختفاء الحياة الخاصة والروح النقدية». يا له من تطور هائل! لقد جعلت منا الثورة الرقمية كائنات مطواعة بحق؛ كائنات تعيش تحت طائلة الاستعباد الإرادي لنظام من المعلومات واللوغاريتميات الدقيقة.. وهل هناك سُلطويّة أكثر من هذه؟ إنها سُلطويّة ناعمة؛ سلطوية اللوغاريتم؛ سلطوية 0 و1.
إننا أمام خطر فعلي محدق بالإنسان، يهدد مكانته المركزية في الكوكب. إنه خطر الرقمية والافتراضية بوصفها سيرورة سُلطويّة تسعى إلى رقمنة العالم بعامة والإنسان بخاصة. تلك السيرورة التي تهدد إحدى أكثر الخصائص البشرية فعالية وأصالة، ألا وهي: اللغة، الزمان التاريخي، الوعي الخلاق، الحس النقدي، التفاعل الاجتماعي وجهاً لوجه. أولم تنجح في ذلك؟ بلى.. ما العمل؟ أو بالأحرى ما السبيل إلى التحرر من هذه السُلطويّة الرقمية؟ إننا لا نملك غير المقاومة ولا شيء غير المقاومة: «سيكون مُنطلق المقاومة هو إعادة الإنسان إلى مركز الاهتمام. يتعلق الأمر بحماية الحساسية، والحدس والذكاء الفوضوي، فذاك هو شرط البقاء. وبهذا الشرط يمكننا الحفاظ على جزء من إنسانيتنا في عالم 0 و1. وبدون ذلك سنعيش عراة إلى الأبد، سنعيش بذلك الإحساس المزيف للتحرر الذي يحدثه العري».
وعلى هذا النحو فإن السؤال الجوهري للمقاومة والحالة هذه هو: كيف يُمكننا الإبحار في العالم الرقمي والاستفادة من خيراته ومنافعه قدر الإمكان، بدون أنْ نكون محط مراقبة شاملة واستغلال تجاري كامل، بدون أنْ نفقد حميميتنا وحياتنا الشخصية، بدون أن نتحول إلى كائنات رقمية، بدون نخضع لاستعباد «البيغ داتا» والسلطوية الرقمية، بدون أنْ نتعرى؟ هذا هو الرهان البشري المعاصر: كيف نستفيد من الحد الأقصى من الرقمية من دون أنْ تبتلع بشريتنا وإنسانيتنا؟ فالرقمية: إما أنْ تكون إنسانية أو لا تكون.
٭ كاتب مغربي