‘الارهاب’

حجم الخط
3

ولقد نجحوا في جعل الخوف من الإرهاب حياة جديدة. كل تفاصيل حياتنا صارت مفصّلة على قياس الإرهاب الجديد. إيقاعات الحياة مضبوطة بإيقاعات الإرهاب وتواقيته. من العراق واليمن مررا بتونس وليبيا وصولا إلى لبنان وسوريا وخصوصا في العراق واللائحة تطول. لقد صار وكأن المطلوب منا أن نتفادى بعض الشوارع والأحياء وبعض الساعات والأيام وبعض العمل وبعض الراحة وبعض الظهر وقبله وأيام الأعياد المأمورة والأعياد غير المأمورة.
المطلوب ربما أن نعيش بتوتر وقلق كبيرين جداً. المطلوب وضعنا بشروط حياة الحد الأقصى. المطلوب ربما ترويضنا لقبول كل ما سوف يعرض علينا. وأن نكون ربما على استعداد لتقبل الآتي المفروض أيا كان وبأي ثمن. من الطبيعي أن نصل إلى ما وصلنا إليه. فمن بعد العمل العقلي الذي أقنعنا بأن ‘دود الخل منه وفيه’ وان العلّة موجودة فينا لا في المتحكم فينا والفارض علينا حكامنا بقوة الحضارة والتكنولوجيا والعلم الحديث.
فمن بعد أن استنفذت أدوار من فٌرض علينا حاكماً خلال عقود جاء من يقنعنا بضرورة تغييره والإنقلاب عليه. ثم حين خُربت أرورشليم قيل لنا أن هناك من ‘سرق’ الثورة على حين غرّة. ثم قالوا لنا أنكم لا تصلحون للديمقراطية لأنكم مسلمون. ثم تحوّلت الثورات إلى حروب أهلية بين مكوّنات المجتمع التي لم تكن درجة تطورها قد وصلت أصلاً إلى الحاجة للديمقراطية. وههنا قيل إننا دول فاشلة ، ثم أرسل لنا مندوب سام فعمل على مواجهة هذه المعضلة القاتلة بمشاريع فدرالية وكونفدرالية وولايات تحترم ‘خصائص’ كل جماعة منا.
الإرهاب الشللي في التاريخ لم يكن يوما عمل عصابات منفردة. واليوم وفي ظل صراعات الدول الكبرى على الثروات والمواقع الإستراتيجية لا يمكن أن يكون الإرهاب صدفة أو عمل مجموعة صغيرة بالخفاء عن الجميع. فهذا الإرهاب، وكما يدل إسمه، هدفه الترويع وهو بحاجة إلى تمويل وسلاح ورجال وتدريب ووسائط لوجستية من نقل وأماكن للعملاء النائمين ونصف الواعين والمراقبين والراصدين والمنفذين ومشتري الضمائر والمهربين وقواعد التراجع والتقدم. الأمر الذي يعني أنه مكلف إلى حد من الصعب معه الإعتقاد بأنه يمكن أن يكون من عمل أفراد معزولين. الإرهاب لم يكن يوما سياسة استراتيجية تتيح لصاحبه فرض سياسة أو التوصل لقلب الحكم أو السلطة. الإرهاب كان ولا يزال وسيلة تفصيلية مساعدة من وسائل الحرب التي يستخدمها الخصم لكي يصل إلى النيل من معنويات الخصم وجنوده وبيئته الشعبية الحاضنة، لكي يثبط عزائم ناس عدوه ولكي يزرع فيهم الفوضى ويحضرهم لقبول النتائج التي تحضر له من خلف الحدود.
الإرهاب الشللي جزء من الحرب لا كلها. الهدف منه بالضبط أن يعمي أبصار الناس عن كل الحرب، عن أهدافها الحقيقية. فهو إذ يجعل من كل شيء حي هدفا من أهدافه يوحي بأنه موجود في كل مكان وانه قادر على إعداد الحرب وتنفيذها والظفر بأهدافها. بينما الوقائع التاريخية تقول بأن الإرهابيين لم يربحوا حرباً ولم يصلوا بوسائلهم العنيفة إلى تحقيق نقلة من العنف العسكري إلى السياسة. ذلك ان قوة كل عمل عسكري هو في ترجمته إلى السياسة وإلا لبقي بدون معنى. فالحرب ليست إلا استمرارا للسياسة بوسائل أخرى.
الإرهاب الشللي، بصفته عمل يطال الخطوط الخلفية للعدو، لا يمكنه بذاته إذن أن يغير موازين القوى العسكرية على جبهات القتال. كل ما يفعله لا يتعدى خض الجبهة الداخلية، هذا اذا نحج في مسعاه وكانت الجبهة الداخلية قليلة التماسك. أما في مجتمعات تتميّز بنسيج اجتماعي فسيفسائي كالنسيج الذي نعيش فيه فممّا لا شك فيه أن الإرهاب يستهدف القناعات المشتركة التي يقوم عليها تاريخ البلاد الطويل وجماعاتها أكثر ما يستهدف النيل من المعنويات. خطر هذا النوع من الحروب في هذه الحالة ينطلق من قدرته على زعزعة الثقة بالعيش المشترك مع الشقيق واستثارة رد فعل ثأري منه تجعل من التعايش امراً مستحيلاً.
في ظل هذه الأوضاع التي يتصارع بها الجبابرة في العالم، الصاعد والمنكفئ، يأتي الإرهاب عندنا لكي يندرج، شئنا ام أبينا، في منحنيات هذا الصراع العالمي الكبير. فهو إرهابٌ لا أهداف خاصة به، كما هو الأمر مثلاً مع حرب العصابات الوطنية التحررية، التي تحارب المحتل وتسعى لهدف واضح يتمثل بإخراجه من الأرض. ما يشي بذلك هو استعمال هذا النوع من الإرهاب لشعارات، هي من العمومية والشمولية والمثالية، بحيث لا يمكن تحويلها إلى سياسة أو مشروع سياسي قابل للتطبيق.
أما أن يكون للدول الخارجية العظمى مصالح ومطامح وأطماع في بلادنا الغنية فمسألة لا تحتمل التأويل ولا البرهنة. فنحن نعيش المرحلة منذ عقود وعدة قرون كذلك. ويكفي المتابع متابعة اهتمام الدول الخارجية وممثليها بأطراف الصراع ودعمهم بكل ما يتوجب لكي نفهم بأن ما يجري يتعدى مصالح شعوبنا في نقلة ديمقراطية تضعنا في مصاف الدول ‘المتحضرة’. واضح من كل ما نقرأه حالياً من تصريحات لمسؤولين دوليين غربيين بأننا ‘دول فاشلة’. وواضح كذلك من تصرف بعض المبعوثين ‘الدوليين’ بأننا ‘ولايات’ وأن علينا أن نحترم ‘خصائص’ هذه الولايات.
أيا يكن الأمر، المظنون أن الثمن الذي سنبقى ندفعه، إذا لم نقتنع بالتقسيم والتفتيت حسب ‘الخصائص’، هو الحروب الأهلية والإرهاب. في هذا الأجواء يمكن ربما فهم ما يجري ووضع الأحداث في سياق سياسي نستطيع مجابهته او الإستجابة له. أما سياسة الخوف والتخويف فليسا سياسة قائمة بذاتها وإن استندت إلى قوى شبابية يائسة جعل منها البركان الديمغرافي يداً عاملة رخيصة في مصانع إرهاب الرأسمالية الدولية. تخويف الناس ليس الهدف النهائي لأي طرف. أما التخويف من أجل فرض أهداف محددة وجعل الجميع مستعد لتجرّعها بكل ترحاب فهو أغلب الظن الهدف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Dr. abufahd UK:

    السيدة الكاتبة تقول فى نهاية المقال ” تخويف الناس ليس الهدف النهائي لأي طرف. أما التخويف من أجل فرض أهداف محددة وجعل الجميع مستعد لتجرّعها بكل ترحاب فهو أغلب الظن الهدف. ” . والسؤال هو : إذا ما كنا نحن العرب بمثل هذا الذكاء الخارق الذى يكتشف كل هذة المعطيات . فهل نحن على هذة الدرجة من الغباء لكي نتفادي كل ما هو مطلوب منا أن نفعله ترضية لحكامنا الخانعين لهذة القوي العظمي التى تحركهم و تحرك شعوبهم كما يريدون عن طريق التخويف عن طريق إبتلاع السم مع العسل ؟؟.

  2. يقول محمد محمود *فلسطين*48:

    عندما نتحدث عن الارهاب علينا نحن امه عربيه واسلاميه وحكام ان نلوم انفسنا نحن من مولنا وارسلنا وشجعنا الارهاب بحجة الجهاد في افغانستان خدمه مجانيه لاميركا وحسب طلبها واليوم التاريخ يعيد نفسه نحن حكام وشعوب نشجع الارهاب في سوريا خدمه لعيون اميركا – وهؤلاء (المجاهدين) يعودون الى اوطانهم يمارسون القتل والارهاب ضد شعوبهم اذا لا نلوم الا انفسنا نحن من شجع ومول الارهاب وما زلنا فتبا لنا شعوب وحكام

  3. يقول رائد دحبور. ... فلسطين.:

    يُقَدِّمُ المقال تشخيصاً واقعياً لظاهرة الإرهاب، كظاهرةٍ إبتليت بها المجتمعات العربية بفعل تاثُّرها بمجريات السياسة الدولية وخضوعها لضرورات السياسات الخاصَّة بالقوى الكبرى، وهو يطرح أسئلة ذات اهميَّة كبيرة، هي في الحقيقة برسم إجابة النخب العربية، وبرسم إجابة المسؤولين عن نشاة ونمو هذه الظَّاهرة، ولكن تحميل مسؤولية ذلك كله للقوى الخارجية ليس صحيحاً، إذ لم يكن بمقدور تلك القوى أن تمررفكرة وادوات ألغرهاب لولا توفُّر البيئة والشُّروط الذَّاتية في بنية وتركيبة تلك المجتمعات على صعيد الوجدان والوعي والثقافة، وهذا هو ألأهم.

إشترك في قائمتنا البريدية