يقول الأديب عبد الوهاب عزام في إحدى روائع كتابه المسمى بـ»الشوارد»: «الإنسان- بفطرته- نفورٌ من الذل، آبٍ على الحيْف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيُراضون على الخضوع حينا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالا بعد حال، حتى يُدربوا عليه، كما يُستأنس السبع، ويُؤلف الوحش».
إن مخاطر الاستبداد لا تنحصر في سلب حقوق الشعوب، ونهب ثرواتهم، وقمع حرياتهم، وإنما الاستبداد يعيد صياغة الشخصية وفق منظومة مهلهلة من القيم السلبية بطول الأمد، ومن خلال المسار التراكمي لآثار ذلك الاستبداد تنشأ الأمراض الاجتماعية، التي تكون شاذة عن المجتمع في بداية نشوئها، حتى يعتاد الناس عليها وتصبح هي السمات الشائعة.
ولئن كانت هناك علاقة طردية بين الحكام والرعية، إلا أنه من الظلم البيّن، أن يصر فئام من الناس على تحميل الشعوب مسؤولية فساد حكامهم واستبدادهم، في حين يتجاهلون مسؤولية الحكام عن الكوارث الاجتماعية، التي خلّفها استبدادهم وتعسفهم، كنوع من التكريس للظلم الاجتماعي.
الشعوب ضحية الاستبداد، وتلزمها الثورة على أمراضها قبل الثورة على مستبديها
أول ما يغرسه الاستبداد في نفوس الرعية، أخلاق العبيد، الناشئة من طول أمد الطغيان وتحطيمه فضائل النفس البشرية، وأبرز أخلاق العبيد، كما عبر بعض الأدباء هي الاستخذاء تحت سوط الجلاد، والتمرد حين يُرفع عنهم السوط، والتبطر حين يتاح لهم شيء من النعمة والقوة. لذلك حين يقول المستبدون إن الشعوب العربية ليست مؤهلة لإطلاق الحريات، فإن في هذا وجها من الحقيقة، ليس من جهة قلة الوعي، والتخلف الثقافي لدى تلك الشعوب، وإنما من جهة القيم السلبية، والأمراض الاجتماعية التي استوطنت نفوسهم بسبب طول أمد الاستبداد، فهذه الشعوب المظلومة التي حُكمت بالحديد والنار، ودأبت على العيش داخل القفص، ما إن تتاح لها مساحة من الحرية، حتى يختلط في سلوكياتها مفهوم الحريات والانفلات، لذلك انعكس هذا الخلط على آراء المصلحين، الذين أكدوا على لزوم الحزم والشدة مع الشعوب الإسلامية والعربية، ومن ذلك ما قاله الإمام محمد عبده «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل»، وهي عبارة تحمل التناقض المتمثل في الجمع بين الاستبداد والعدل، فيُمكن أن يحمل كلامه على الشدة والحزم، فالاستبداد نقيض العدل، ولا يوجد مستبد وعادل في الوقت ذاته، فهما نقيضان لا يجتمعان في واقع الأمم أبدا. لذلك فالشعوب هي ضحية الاستبداد، وتلزمها الثورة على أمراضها قبل الثورة على مستبديها.
وما رُؤيَ مثل الطغيان منبتًا للرياء والتملق، فمتى وُجد الحاكم المستبد، أحيط بمن يتزلف إليه بالقول الفاسد، الذي يبارك الباطل ويشرعن الظلم، بدافع الخوف أو الطمع، وهو بدوره يشجعهم على ذلك، ويدني إليه منهم أكثرهم رياءً وتملقًا، حتى يغدو التملق هو العملة المتداولة بين الجماهير، وبمثل هذه الأمراض تولى الخليفة العباسي المنتصر بالله، بعد أن تآمر المنتصر بالله العباسي على قتل أبيه المتوكل، فصعد إلى سدة الحكم بدلا من أن يُزج به في السجن. ومع وجود المرائين والمتملقين الذين يستفيدون من شرعنة باطل المستبدين، تحدث مشكلة قيمية واجتماعية أخرى، إذ تنقلب الحقائق في أذهان الناس، فتصير الطاعة العمياء، وترك المطالبة بالحقوق، والسكوت عن الظلم، والنفاق، والمداهنة، تصير كلها من ضروب الحكمة والفطنة والذكاء، بينما أهل الإنصاف والتواقون إلى الحرية والكرامة والعدالة يُنعتون بالتمرد والحماقة والتهور والفساد.
ومع الاستبداد يكثر القلق والخوف بسبب فقدان الأمن النفسي والغذائي، فمن ثم تطغى الـ(أنا)، ويصبح الشعار السائد «أنا، ومن بعدي الطوفان»، فيقل العطاء والبذل، ويكثر الشح والبخل، والإمساك عن العمل من أجل الآخرين، وهي أمراض لها تأثيرها العام، بلا شك على نهوض المجتمع، لأن المجد منوط بالبذل في سبيل المجموع، والتخلص من أسر العمل المطلق لأجل المنفعة الخاصة، والتجربة الألمانية خير مثال على ذلك، فبعد الدمار الذي لحق بألمانيا، مع خسارتها الفادحة في الحرب العالمية الثانية، لم يكن في الشوارع سوى النساء والشيوخ والأطفال، واستطاعوا أن يبنوا ألمانيا من جديد في غضون سنوات، وعبَّرت الشعارات التي كتبت على الجدران عن الطاقة الإيجابية التي تحلى بها المجتمع، وروح البذل والعمل من أجل الصالح العام، حيث انتشرت على الجدران عبارة «لا تنتظر حقك، إفعل ما تستطيع، إزرع الأمل قبل القمح».
الاستبداد كذلك يصبغ كل عناصر الحكومة بالصبغة ذاتها، حتى يغدو الاستبداد والتنمر سمة لكل من تولى أمرًا، أو حاز سلطة، تراه يمارس الاستبداد مع من هو أضعف وأفقر وأقل منه، فيكون الاستبداد صبغة عامة، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كنّاس الشوارع، كما يعبر الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، حتى إنك لترى ذلك الاستبداد في مديري الشركات، وأساتذة الجامعات والمدرسين، وضباط الشرطة وعساكرها، بل حتى في رب الأسرة مع زوجته وأبنائه.
ومع الاستبداد يكون خمول الفكر وكسل الجوارح، لأن الاستبداد يسد أفق الطموحات، خاصة أن المستبد لا يعبأ بمعيار (القوي الأمين)، بل يدني من يمرر له استبداده، ويبعد الكفاءات والثقات، طالما أنه لا يستطيع توظيفهم لخدمة سياساته وتوجهاته، فمن ثَم لا يجد كثير من الناس في أنفسهم رغبة في الإنتاج، ولا قدرة على الإبداع، وذلك من تأثير طغيان الحكام، يسلبهم تلك الفضائل، كما قال الشاعر محمد إقبال:
يسلب السروَ جميل الميلِ …. ويردّ الصقر مثل الحجلِ
وإن الاستبداد ليوجِد سوء الظن بين الناس، ويخلق العداوة بينهم، ويجعل الفرد يعيش في قلق دائم ومأسورا بنظرية المؤامرة، لِما يرى من فساد الراعي وبعض أو كثير من رعيته، فينشأ لديه الطمع، وتضيع من نفسه القناعة، لأنه يرى الأموال مكدسة في أيدي ثلة من أعوان المستبد، ويحقد على الأغنياء، لأنه ارتبط في ذهنه أن الثراء مرادف للفساد، ونتيجة له، بل يؤول في النهاية إلى كراهية وطنه ويفقد انتماءه له. ومع الاستبداد دائما علماء السلطان الذين يخلعون مسؤوليتهم الدينية على أعتاب القصور، ويُفصّلون الفتاوى للحاكم بِليّ أعناق النصوص وما أكثرهم، وينتج عن ذلك شيوع منطق التعميم لدى الجماهير، فيغدو في أذهانهم أن كل عالم أو داعية يتقاضى راتبه من الدولة إنما هو مأجور ومرتزق وبائع للدين بالدنيا، لذلك يُحكى أن أحد الظرفاء، أرسل إلى لجنة الفتوى في أحد البلدان التي أجريت فيها الانتخابات، يستفتي في أمر رجل حلف بالطلاق، أن الانتخابات أجريت في أحد الأعوام كانت مزورة، فهل تطلق امرأته أم لا، أراد من ذلك أن يحرجهم ويثبت بصمتهم عن الجواب أنهم علماء سلطة، لأنه تأصل في حسّه أن الجهات الدينية الرسمية لابد أن تكون ممالئة للحاكم المستبد.
لذا لا مناص من القول إن الجماهير بحاجة إلى ثورة على الأمراض الاجتماعية والقيم السلبية التي هي سلاح الطغاة والمستبدين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
مقال مُبدع وأكثر من رائع, ويجب أن يقرأه أساتذة وأطباء علم النفس, وخاصة من يسجد منهم تحت أحذية مغتصبى السلطة السفاحين العرب
.
وقد قمت فور الإنتهاء من قراءته بإرساله إلى طبيب نفسى مصرى يعيش فى كندا, لأنه يُحب المُتنازل الأكبر, السفاح الصنافيرى, شفَّاط الأرز السيسى …
المعروف أن المستبد هو شخص ﻻيري اﻻ رأيه ولست أدري كيف يكون من ﻻ يري وﻻ يسمع اﻻ نفسه عادل إن اﻷحكام القضائية تبني علي درجات عدة حتي تتمتع بالعدل ومع ذلك قد ﻻ تكون عادلة فكيف للرأي الواحد أن يكون عادﻷ ؟ ومن ثم فمقولة المستبد العادل مقولة قالها المستبدون لكي يبرروا ﻷنفسهم اﻹستبداد
تحية للسيدة احسان وللجميع
من خلال التجربة في العراق ووصول حزب البعث الى السلطة في العراق وقد لا يكون تعميم تجربة العراقيين على الشعوب الاخرى صحيحا فالعراقيين كشعب تحكمه منذ حكم العثمانيين البداوة متمثلة بقيم العشيرة وثقافتها اكثر من التحضر الا في بعض المدن كبغداد والبصرة والموصل وكانت العشائر متمردة على الحكم العثماني بحسب الظروف ولما حكم البريطانيون كانت هناك ثورة ضدهم ولما جاء البريطانيون بالملكية حدث نفس الشيء الى ان تم اسقاطها وجاء الحكم الجمهوري وحدثت الانقلابات بعدها الى ان وصلنا لمرحلة حزب البعث,اي ان العراقيين لم يقبلوا او يستكينوا لامر الحاكم وقد يبدو الامر كذلك ولكنه برايي ليس صحيحا فالذي حصل ان اختفاء دور العشيرة ورجال الدين هو العامل الرئيسي في الاحداث ,يتبع
جزاكم الله خيرا
تحية مرة اخرى
اي ان من يحرك الجماهير بالعراق هم رجل الدين وشيخ العشيرة والان عدنا الى الوراء فالاثنان من يحرك جماهيرنا بالعراق فرغم خروج الجماهير مؤخرا للشوارع وهم امر جيد ويبشر بالخير الا ان الامور لا زالت بيد رجل الدين وشيخ العشيرة ولو عدنا الى سنوات السبعينات من القرن الماضي وكيف استطاع البعث مع الشيوعيين انهاء دور العشيرة ورجل الدين واصبحت المكتبات متنوعة بكتبها والاعلام عموما كذلك والاهم من ذلك ان الناس في الشوارع والمدارس متنوعي الملبس وكلها دلائل على تنوع افكارهم ولكن لقصر الفترة ووصول صدام للحكم الذي اعاد دور العشيرة للحكم ومن خلال فترة الحرب مع ايران اعاد دور رجال الدين واستفحل الامر بعد اعوام التسعينات الى يومنا هذا فبرايي امران مهمان هما لخلاص شعوبنا من الاستبداد ثقافة العشيرة والتدين الاعمى والتدين السياسي وباختصار ان تحجيم دور رجل الدين وشيخ العشيرة يؤدي الى التخلص من حكم العسكر وبالتالي نستطيع ان نضع مناهج دراسية يتعلم فيها التلميذ من الصغر حرية الفكر وابداء رايه بكل الامور دون خوف او تحفظ
المشكله لا تكمن في تجار الدين ودراويشه بل تكمن ايضا في تجار العلمانيه ودرويشها .. فعامة الجماهير ضاعت بينهما .. يا اخي لا يمكن ان توجد حركة سياسيه بدون بشر وبدون منظومة قيم .. الان .. من قيم القران ان امر المؤمنين شورى بينهم .. وهذه القيمه يبدا القران وينتهي بها بقول ان رب وملك الناس هو الههم لا الاحبار ولا المشايخ ولا ابن علان و علنتان
جاء في المقال (لذا لا مناص من القول إن الجماهير بحاجة إلى ثورة على الأمراض الاجتماعية والقيم السلبية التي هي سلاح الطغاة والمستبدين) .. اقول اولا انه لا بد من توفر نخبه وطليعه تقود الجماهير .
ممتاز
الناس غالبا ما يكونوا رافضين للمذله الا الذين يرضعونها رضاعه .. فهؤلاء ليس من السهل فطامهم .. فالاستبداد هو رضاعة المذله ودين العنعنه حليبها ..
المشكلة مشكلة نخب فشعوبنا تائهة تبحث عن قشة تمسك بها وكل نخبنا تخلت عن شعوبها تقريبا وإتبعت متاهات الحياة وهم لا يعلمون أن الله فضلهم بعلمه لينفعو عباده لا يتركوهم تائهين ونستشهد بقوله تعالى(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) {البقرة:159} وفي حديث صحيح “أيما رجل آتاه الله تعالى علما فكتمه ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نار” وفي حديث آخر “
الأستاذة إحسان، أعتقد أن كلام الإمام محمد عبده صحيح تماماً فكلمة إستبداد تحمل أيضاً معنى إيجابي كالإنحياز التام لشيء وفي كلام الإمام يعني المبالغة في العدل والإنحياز التام له وعدم التهاون في إقامته. وخير مثال على ذلك سيدنا عمر ،رضي الله عنه وأرضاه، كان مستبداً في إقامة العدل حتى أن بعض الصحابة انتقدوه على ذلك وقصته (ر) مع واليه على مصر عمرو ابن العاص (ر) خير دليل فقد كان بإمكانه إرسال رسالة توبيخ وردع لإبن العاص ولكنه أبى إلا أن يستدعيه إلى المدينة (والتي تبعد مسيرة شهر عن مصر) وإقامة القصاص العادل على رؤوس الأشهاد.
تتمة رجاءً- ولسيدنا عمر مقولة معروفة: لو أن دابة تعثرت على شاطئ الفرات لسُئل عنها عمر يوم القيامة لأنه لم يعبد لها الطريق ومع أن سيدنا عمر كان على قناعة بهذا الإعتقاد فقد يعفيه الكثيرون من المسؤولية لإنها مسؤولية حاكم تلك المنطقة. وقد قرأت في كتاب عبقرية عمر لعباس محمود العقاد أن الصحابة لم يرتاحوا إلا بعد موت سيدنا عمرلا كرهاً فيه لاسمح الله ولكنه كان يتعبهم بكثرة تدخله في كل شاردة حرصاً للعدل على عكس سيدنا عثمان الذي لم يكن بسطوة سيدنا عمر في التدقيق فدب الضعف في دولة الخلافة الراشدة في عهده رضي الله عنه وأرضاه مع أن هذا لا ينقص من مكانته في قلوبنا لإعتقادنا أن لكل اسلوبه في الحكم. ولكن بالفعل ما قاله الإمام هو عين الصواب فالحاكم العادل المستبد خير من الحاكم الورع الضعيف. وشكراً لك وللقدس العربي على هذه الموضوعات الجادة والجيدة التي تطرحونها.
تتمة أخرى رجاءً- لو ان رئيس الجمهورية أو الملك أو الأمير في دول العرب خصوصاً والمسلمين عموماً -اقتداءً بسيدنا عمر- يحاسب مرؤوسيه على كل تقصير وكل قرش يأخذونه بغير حق لكانت دولنا في مصاف الدول من غير ريب فالعدل أساس الحكم حقاً ولما كانت تلك الثورات. وللعلم لا يجب أن تؤخذ دول الغرب كمثال ُيحتذى ففيها من الفساد أكثر من دولنا ولكن فسادهم يغطيه القانون تارة وتارة يتم التستر عليه عن قصد أما ما نراه من محاكمات فهي قمة جبل الجليد. ولما نتخذهم مثالا وعندنا القرآن الكريم والسنة الشريفة وتراث هائل ضارب في التاريخ.