الاشتباك الهندي الباكستاني: عودة إلى وادي بالاكوت

حجم الخط
0

وادي بالاكوت الواقع شرق منطقة الباشتون الباكستانية، في محاذاة اقليم «ازاد كشمير»، والذي أغارت عليه فجر 26 شباط الماضي طائرات «الميراج 2000» الهندية ـ الفرنسية الصنع ـ هو الناحية التي سقط فيها إمام السلفية المقاتلة سيد أحمد بارلوي في معركة ضد المحاربين من طائفة السيخ ربيع العام 1831. على امتداد القرنين الماضين، لعب هذا الحدث المستعاد بشكل ملحمي بين قبائل الباشتون والجماعات الجهادية المقيمة في تلك النواحي دوراً أساسياً في تنشيط وتوجيه الذاكرة، بحيث تبدو هذه المعركة بين أحمد بن عرفان بارلوي وجنده، وبين أعدائه سواء كانوا انكليزا أو سيخا أو هندوسا، على أنّها معركة واحدة، دائمة، لا تنتهي. وبالفعل، ظلّت القلاقل في هذا «الإقليم الشمالي الغربي الحدودي» مسرحاً لقلاقل لا تنتهي طول فترة الإستعمار البريطاني للهند، وإن عرف الإقليم كذلك الأمر، ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، ظاهرة قيادية وشعبية تقدمية استثنائية، خان عبد الغفار خان الذي انتهج سبيل «اللاعنف» وعُرِفَ بـ«غاندي الحدود» و«الباشا خان»، وقاد حركة قوية بين المسلمين الباشتون (أو الباتان كما كانوا يعرفون في الفترة الكولونيالية) من أجل بقاء الهند موحدة، الأمر الذي جرّ عليه المتاعب بعد الإنفصال، وظلّ يثير حفيظة حكام اسلام اباد المتعاقبين الى أن فارق الحياة في جلال آباد الأفغانية عام 1988.
إنّها لمفارقة في تاريخ شبه القارة أن تكون أهم ظاهرة تصدّت لـ«الرابطة الإسلامية» ومحمد علي جناح ومشروع إقامة دولة قومية ـ دينية تدعى «باكستان» أتت من منطقة القبائل هذه. بيد أنّ الإنفصال عام 1947، لم يحدث على أساس استفتاء الناس في أي اقليم، بل على قاعدة بسيطة: الأقاليم من «الهند البريطانية» ذات الأكثرية المسلمة تصبح جزءاً من هذه الدولة، أما الممالك والإمارات في شبه القارة التي لا تتبع مباشرة تقسيمات «الراج البريطاني» في الهند، وهي محلياً مستقلة، فأعطى لها مشروع التقسيم الخيار بين أن تختار الهند أو أن تختار الباكستان. من هنا تولّدت «مسألة كشمير»، مركز الصراع بين الهند وباكستان من وقتها، وإحدى أخطر نقاط التوتر على الكوكب اليوم. فكشمير لم تتبع مباشرة «الراج البريطاني» بل كانت مملكة محلية وجب عليها الإختيار بين الهند وباكستان عام 1947. أغلب سكانها مسلمون، أما حاكمها هاري سينغ فكان هندوسياً، ولما انتفض مسلمو الهضبة عليه، وتسلّل محاربو منطقة القبائل من جهة باكستان للإطاحة بحكمه، وقّع قرار الإنضمام للهند عشية خسارته العاصمة الكشميرية، سرينغار، فكان أن دخل الجيش الهندي اليها ووقعت الحرب الهندية الباكستانية الأولى، التي لم توقف تماماً الا عام 1949، وانشطرت معها كشمير الى جزء يتبع ولاية جامو كشمير الهندية ويضم العاصمة التاريخية سرينغار، وجزء باكستاني هو «كشمير الحرة» أو «آزاد كشمير» عاصمته مظفر آباد، علما أنّ الجزء الباكستاني تغلب عليه قبائل غير «كشميرية» من الناحية الاثنية ـ اللغوية.
لم تتكفل أي من المواجهات الحربية بين الجارتين في حل «المسألة الكشميرية» بل زادت استفحالاً، وقد أظهرت انتفاضة 2016-2017 أنّ هذه القضية المنحاة تماماً عن الاهتمام العالمي إلا عندما يشتبك جيشا البلدين، هي قضية ملتهبة لم يعد من الممكن التعامل معها بالقبضة الأمنية الصرف هندياً، وبالاستثمار في الجماعات المتطرفة باكستانياً.

لم تتكفل أي من المواجهات الحربية بين الجارتين في حل «المسألة الكشميرية» بل زادت استفحالاً، وقد أظهرت انتفاضة 2016-2017 أنّ هذه القضية المنحاة تماماً عن الاهتمام العالمي إلا عندما يشتبك جيشا البلدين، هي قضية ملتهبة لم يعد من الممكن التعامل معها بالقبضة الأمنية الصرف هندياً

في أول الصراع بين دولتي الانفصال على كشمير، كان لا يزال هناك تيار تقدمي فيها يفضّل البقاء ضمن الإتحاد الهندي، ويقوده «الشيخ عبد الله»، الذي فضل المخاطرة بالانضمام لدولة ذات اكثرية هندوسية، كونه لا يريد دولة مبنية على تحويل رابطة الدين الى رابطة قومية، كالباكستان. لكن رئيس وزراء الهند بعد الاستقلال، جواهرلال نهرو، لم يجد من أسلوب للتعامل مع صديقه الكشميري القديم غير تجاوز الدستور والقوانين، واقالته من منصبه كحاكم لكشمير وايداعه في السجن عشر سنوات.
هذا والهند اليوم لم تعد بلاد نهرو، الذي له ما له وعليه ما عليه، أصرّ على قومية ذات طابع جمهوري تعددي، وان ظلّ يكابر على الهيمنة الهندوسية الضمنية في الدولة. فما يرمز اليه نارندره مودي وحزبه «بهاراتيا جاناتا» الذي يعتنق عقيدة الهندوتفا ويناضل من اجل تكريس «سنسكرتة» الأمة (ربطها بمرجعية التراث الرمزي للحضارة القديمة بما يظهر العصور السلطانية الاسلامية استعمارا والاسلام دينا اجنبيا دخيلا – ما يتفتق مثلا عن دعوات «لاعادة» تحويل تاج محل الى معبد لراما، على غرار تدمير مسجد بابري 1992 في ايوديا مسقط رأس الإله راما، وهي اللحظة الاكثر خرافية في تاريخ جنوب اسيا، حيث قام عشرات الآلاف بهدم هذا المسجد التاريخي المبني عام 1528) وهندوسية الدولة (الهندو راشترا). وفقاً لهذا التوجه القومي ـ الديني المحموم يصبح أمام المسلمين اما الولاء للرموز الهندوسية في ثوبها القومي، واما التوبة الى الهندوسية (مناسك اعادة الاعتناق القسرية) واما التعرض لخطاب يشكك في هنديتهم («لماذا لا تهاجرون الى باكستان؟»). وجود 150 مليون مسلم لا يغير ابدا من هذا، بالعكس. بخاصة انه ليس هناك اي ولاية في الهند المسلمون فيها اكثرية، بما في ذلك في كشمير ما دامت كشمير جزء من ولاية جامو كشمير وجامو باكثرية هندوسية. وبخاصة ان كثيرا من هؤلاء يعاني الامرين من المتطوعين في المنظمات المتطرفة القومية الهندوسية مثل «الراشترا سوايام سافاك» أو «باجرانغ دال» أو «الشيف سينا».
هذا المسار الذي سلكته الهند مع اليمين القومي ـ الديني لعب دوراً أساسياً في الغاء ما كان يميّزها عن باكستان، الدولة التي بنيت على أساس قومي ـ ديني. بخلاف باكستان، تقبلت الهند بعد الاستقلال ليس فقط التعددية الدينية بل التعددية اللغوية وبنت فدراليتها على أساسها، رغم ممانعة نهرو من هذا الأمر في البدء. أما باكستان، فبنت نفسها على أساس هيمنة عنصر لغوي، لغة الأردو. والمفارقة أن الأقاليم التي تشكلت منها باكستان لم يكن أي منها يتكلم الأردو فعليا، لغة المهاجرين المسلمين الى أراضي هذه الدولة من المناطق التي صارت جزءاً من الهند، والذين تركوا وراءهم أقلية اسلامية كبيرة في الهند أيضاً. هؤلاء فقط كانوا يتكلمون الأردو، لكن الدولة الباكستانية أرادت فرض هذه اللغة على البنجابيين والسندييين والبلوش، والأخطر كان فرضها على باكستان الشرقية، بنغلادش بعد الانفصال. في البنغال تحول الأمر الى سياسة استعمارية لغوية، تحولت الى قمع دموي للبنغاليين مطلع السبعينيات، فكان التدخل الهندي في حرب 1971 التي كانت أكبر هزيمة تمنى بها باكستان، مع أنّه في الهند لا يزال هناك لوم لانديرا غاندي انها لم تستثمر هذه الهزيمة الباكستانية لارغام جارتها اللدود على التسليم نهائياً بالأمر الواقع في كشمير.
اليوم، هذه السياسة التغليبية لعنصر لغوي ولعنصر ديني تحدث في الهند، فالحزب الحاكم ينادي بثلاثية «هندي (اللغة)، هندو (الدين)، هندوستان (وان كان يفضل التعبير السنسكريتي «بهارات» كاسم للوطن). يبقى أنّ نموذج الدولة أكثر رسوخاً في الهند، والإحتكام الى صناديق الاقتراع أكثر انتظاماً، لكن العقد الاجتماعي فيها يتعرض لاهتزاز حقيقي بسبب سياسات اليمين القومي ـ الديني. أما في باكستان، فالرسوخ ليس من صفات الدولة، والعقد الاجتماعي ليس من صفات الواقع، وعمران خان، الرئيس المنتخب في الصيف الماضي، فيبدو أنّه متقدم في النقاط على نارندره مودي في المواجهة الحالية، حتى الآن، وهو ينتمي الى منطقة الباشتون نفسها الى ضربها الطيران الهندي. طرح لاعب الكريكيت الشهير نفسه كرئيس تفاوضي، سواء تجاه حركة طالبان، بحيث لقّب بأنّه «طالبان خان»، أو تجاه الهند. لكن، في جنوب آسيا أيضاً، عقيدة «صفر مشاكل» لا تنفع. يبقى أنّه في اللحظة الحالية، استطاع عمران خان أن يجمع بين لحظة حزم وبين بادرة سلام، عبر تسهيله ارجاع الطيار الهندي الى المقلب الثاني من الحدود. اللحظة التالية تبقى الانتخابات الهندية الموشكة بعد أسابيع، والى حد كبير ستكون لحظة معرفة الى أي حد اقتنع الرأي العام في الهند بالتصعيد مع باكستان الذي اختاره مودي وبنتيجة هذا التصعيد.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية