الاغتصاب السياسي العربي

الاغتصاب هو أن تتصرف بمصالح الآخرين، وكأنهم لا وجود لهم، وأن تفعل ما تريده أنتَ، حتى لو كان الآخرون ضد ما تفعل. وفي المجال السياسي لم تبقَ على سطح الكوكب الأرضي، الذي نعيش فوقه، سلطة تفعل مثل ذلك بشعبها، غير السلطة العربية، التي تتقن فَنّ السَّلْب جيداً: تستولي، أولاً، على اللَّقب، ومن بعد على الشعب. وقد قامت، فعلاً، باغتصاب الألقاب الكبرى: ملوك، أمراء، رؤساء، قادة، من دون أن تستحق أي لقب منها.
واليوم، بدأت هذه السلطة تدوس على أرادة شعبها وتتجاهله، مع أنه العتبة الأساسية التي تستمد منه مقوِّمات وجودها، وهيبتها. وبدلاً من أن تمجّده، صارت تستخدمه لتقوم بما تقوم به من أعمال لا شرعية لها، ولا يسندها قانون. وهو ما يعني الاغتصاب السياسي بأدقّ معانيه. وما يجري، الآن، أمام أبصارنا، من تطبيع الإمارات والبحرين المتسارع مع الصهاينة المستعمرين، من دون حيثيات شعبية، أو وطنية ولو شكلية، يثير اليأس والعجب. لكن لا مجال للعجب، فأصغر السلطات أكثرها اغتصاباً لإرادة الشعوب.
في أي عصر نعيش نحن العرب؟ لم نعد ندري، زمن السلطة العربية ليس هو زمن الإنسان العربي. فهذه السلطة تقبع خارج التاريخ. وكل إمارات الحداثة التي تحيط نفسها بها لا تعني شيئاً أمام احتكارها للقانون والأخلاق والأدب والفن وتقرير مصير البشر، الذين تدعي أنها مسؤولة عنهم، احتكاراً مباشراً من قِبلها، أو من قِبل مَنْ يمثلونها. زمنها، في الحقيقة، هو زمن اغتصاب قرار الوجود بالنسبة لمن ينضوون تحت إمرتها، وكأنهم «أثاث إنساني» فارغ لا وزن له في ميزانها الخبيث، ولا دور لهم سوى الطاعة والصمت. وليس ثمّة مَنْ يردعها عن ارتكاب الهفوات المميتة، لأنها متوحّدة، وبلا شريك. وأخطر ما في الأمر أن هذه السلطة، كما رأينا في التطبيعين الأخيرين، تتحكّم بالأرض والتاريخ، والماضي والحاضر والمستقبل. تفعل ما تريد من دون أن تستشير أحداً في ما تفعله، وإن فعلت فهي استشارة رمزية، لا تقدم ولا تؤخر شيئاً.

أن الأمر يبدو مربكاً من أي زاوية نظرنا إلى هذا التطبيع المصطنع، اللاديمقراطي، واللامبرر، والمريب، الذي يستحق التساؤل والحذر، نجد أنه من الضروري أن نشير إلى الخلل العظيم في الحياة السياسية العربية المعاصرة.

تعادي أصدقاءها بلا سبب، وتصالح أعداءها المغتصبين، وكأنها تدعوهم إلى حفل ترفيهي. وهو ما ينزع عنها قناع المسؤولية أمام شعبها ومواطنيها. وفي ما يتعلّق بالتطبيع الصاروخي الملتبس الذي «حققته» أخيراً، نتوقف بدهشة أمام هجومها الكاسح على اتخاذ قرار التطبيع الأرعن، والمؤسف والمثير للجدل من دون رأي وطنيّ، أو برلماني، وبالخصوص من دون استفتاء شعبي يقرر فيه الشعب مصيره، ومصير السلطة التي تتحكّم به، أيضاً. ولنا أن نتساءل: من أين استمدت هذه السلطة الحق في اتخاذ قرار خطير وحيوي مثل هذا يخص البلاد، وسيؤثّر على مصير الوطن والمواطنين والجيران، أيضاً، من دون أن تهتم بالعواقب التي قد تكون كارثية؟
ولأن الأمر يبدو مربكاً من أي زاوية نظرنا إلى هذا التطبيع المصطنع، اللاديمقراطي، واللامبرر، والمريب، الذي يستحق التساؤل والحذر، نجد أنه من الضروري أن نشير إلى الخلل العظيم في الحياة السياسية العربية المعاصرة، أعني «اغتصاب قرار الشعب السياسي» من قبل سلطة لا شرعية حقيقية لها. وأيا يكن الأمر، فإن هذا التطبيع المتهافت، الذي يكاد أن يكون مأساة تاريخية، بالإضافة إلى مساوئه الكثيرة، سيشلّ قضية التحرير الفلسطينية، الغارقة في المآسي منذ عقود. وهو يذكِّرنا بأمثلة التاريخ التي نعرفها جيداً: المغتصِب السياسي الذي يدّعي الوطنية، سيتحالف في النهاية مع العدوّ مغتصِب الأرض. لا أحد يحق له أن يقول هذا أكثر مني، أنا الفرد العربي المعزول، أقوله وأؤكّد: لا يساوي اغتصاب الأرض من قبل الأعداء، إلاّ اغتصاب إرادة الشعب سياسياً من قبل السلطة التي تدّعي السيادة عليه. وهو ما يمكن تلخيصه بجملة واحدة: لا يعادل اغتصاب الأرض إلاّ اغتصاب السياسة.

روائي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمود سعيد:

    صدقت، ليتنا جميعاً نعي كيف نطفو على مياه الفيضان دون وعي

إشترك في قائمتنا البريدية