لم تكن الكتابة الموضوعية عن تلك الاحتفالية، قبيل أو إبان انعقادها ممكنة، فالدعاية القوية من طرف الجهات الرسمية والشعبية المقربة من الحكومة الانتقالية السودانية، التي كانت ترفض أي تشكيك في نجاح «مؤتمر باريس» وفي تحقيقه للعبور المنشود، كانت ذات صوت عالٍ وقادر على التشويش على أي صوت آخر.
رفع سقف التوقعات أمر جيد على المدى القصير، وقد يقلل من الاحتقان الشعبي، ويعطي جرعات من الأمل للكثيرين ممن فقدوه، وهم يرون أنه لا معالم واضحة للطريق الذي يمشون فيه، ولا خطط علمية واقعية للانتصار المنتظر.
المشكلة الوحيدة هي حين ينتهي هذا الأمل بسرعة ويجف مفعول هذه الجرعة، ما يحدث أثراً انتكاسياً شبيها بأثر زوال تأثير المخدر، فبعد النشوة القصيرة يجد المتعاطي نفسه وجهاً لوجه في مواجهة الواقع القاتم، ما يدخله في حالة مضاعفة من الإحباط واليأس. وعلى الرغم من أن هذا هو من المعلومات بالضرورة، إلا أن الحكام الجدد ظلوا يتبعون سياسة التخدير هذه، كلما أحسوا بانفضاض الناس، رغم أنها كانت تقود في كل مرة لحالات من الانتكاس، تبلغ في بعض الأحيان درجات خطيرة ومهددة لتماسك الوضع القائم. حالات من قبيل التحركات الشعبية والتظاهرات، التي تجد السلطة نفسها مجبرة في أغلب الأحيان على التصدي بعنف لها وملاحقة من يقودها.
ركز المتحمسون لهذه الاحتفالية على أن مجرد دعوة القيادة السياسية السودانية ووصولها إلى العاصمة الفرنسية، ولقائها بالرئيس الفرنسي وبغيره من المسؤولين، هو انتصار ونجاح. لا يمكن إنكار أن في هذا بعض الحقيقة، فالرئيس المعزول لم يكن بمقدوره أن يتوجه إلى فرنسا، أو إلى أي بلد غربي آخر، بسبب التضييق الذي كانت تمارسه محكمة الجنايات الدولية، لكن هنا يجب أن نأخذ في الاعتبار مع هذه النقطة أيضاً نقاطاً أخرى أهمها، أن هدف المؤتمر لم يكن الحصول على الاعتراف أو منح الشرعية للنظام السياسي القائم، فالواقع أن هذا النظام، على ما فيه من تشوهات، معترف به من قبل الأمم المتحدة و»المجتمع الدولي» وهو لا يحتاج لاعتراف جديد، أو لتثبيت شرعية، بل يعتبر من الطبيعي أن تزور قيادته جميع الدول المؤثرة، حيث لا يعيقها منع أو حظر، ولا يلزمها من أجل هذا إلا التنسيق والترتيبات الدبلوماسية المعتادة. النقطة الثانية هي المتعلقة بمعنى «العودة لأحضان المجتمع الدولي» وهي جملة رومانسية محببة لكثير من المسؤولين والسياسيين، على ما فيها من بعد عن الموضوعية، إذ تختصر المجتمع الدولي في الدول الغربية والمؤسسات المالية المرتبطة به. صحيح أن الرئيس السابق لم يكن بمقدوره إلا أن يزور مجموعة قليلة من العواصم، أغلبها في الإطار الإقليمي، إلا أن السودان ظل يتمتع بعلاقات استراتيجية مع عدد كبير من الدول، في مقدمتها الدول العربية والافريقية والصين وروسيا وتركيا، وعدد من دول أمريكا اللاتينية وغيرها من بلدان العالم الثالث، بل إن وجود البشير على هرم السلطة، لم يكن يعيق تعاطي البلاد مع وكالات الأمم المتحدة المختلفة، ولا مع المنظمات غير الحكومية الدولية. لم تكن هذه المنظمات هي من يرفض التعامل مع السودان، بل كانت المفارقة، أن السودان كان كثيراً ما يتعامل بصرامة مع الممثلين الدوليين، ما يصل حد الطرد في حالة الاشتباه بتجاوز الأدوار المتفق عليها. سردية «العودة لأحضان المجتمع الدولي» تعتمد على نظرية غير واقعية مفادها، أن الدول الغربية لا تحظى بعلاقة طيبة مع الأنظمة العسكرية، أو غير الديمقراطية، وأنها تنفتح بشكل أكبر على الأنظمة الديمقراطية، التي تشاركها قيمها. من دون محاولة نقض هذا الادعاء من خلال التذكير بأمثلة معاصرة، يمكن تفكيك هذه السردية من خلال مراجعة سجل علاقة سودان البشير نفسه بالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، حيث نكتشف أن «المجتمع الدولي» المزعوم، لم يكتف فقط بإعطاء الشرعية للنظام في عام 2005 ثم في عام 2010 ، حيث أشاد بالانتخابات الرئاسية، وإنما قدّم دعومات غير محدودة له، من خلال بوابات العمل الإنساني والتنموي كان من بينها ما تعلق بالاتفاق الدولي لتنظيم الهجرة، الذي دخلت فيه البلاد في شراكة مهمة مع الاتحاد الأوروبي: «مسار الخرطوم».
القيادة السياسية بدل النظر في إمكانيات السودان، وفي سبل تفجير طاقات شبابه، ظلت تراهن على الآخرين وعلى مساندتهم وشراكاتهم
بغض النظر عن كل هذا، وبالتسليم جدلاً بأن السودان كان خارج التاريخ، حتى عزل البشير في 2019، فإن الواقع يجعل من كل هذا بلا فائدة، فما جدوى العلاقة الطيبة والانفتاح على العالم، بما فيها المساعي الحثيثة لتحقيق شراكة مع الكيان، إذا ما كان الاقتصاد وعموم الخدمات أفضل حالاً، إبان النظام المكروه المحاصر؟ بل ما جدوى مثل هذه الاحتفالية بما حوته من تمنيات وتعهدات، إذا كانت لم تستطع حتى أن توقف التدهور الاقتصادي، أو تسيطر على انفلات سعر الدولار أو معدلات التضخم التي وصلت نسباً غير مسبوقة على الصعيد الوطني أو الدولي؟
سنتجاوز هنا أيضاً الحديث عن دور فرنسا وتاريخ علاقتها مع الدول الافريقية، الذي يوضح بجلاء أنها لا تقدم خدمات اجتماعية مجانية، وأنها ليست معنية بشكل جاد بمسائل حقوق الإنسان، إلا على سبيل استخدامها كذريعة للتدخل في بلد لديها فيه مصالح. سنتجاوز كل ذلك للتركيز على الجانب الوطني، فالمشكلة ليست في «المجتمع الدولي» الذي يتمدد لتثبيت مصالحه، وخلق شبكة من المرتبطين به متى ما وجد فرصة لذلك، وإنما في القيادة السياسية التي، عوضاً عن النظر في إمكانيات السودان، وفي سبل تفجير طاقات شبابه، ظلت تراهن على الآخرين وعلى وقوفهم ومساندتهم وشراكاتهم. توجد الآن تعهدات مالية من بعض الدول، وعلى الرغم من أن لا شيء يضمن وصول هذه التعهدات، أو أي ضمان لعدم تحول ذلك «القرض التجسيري» المنتظر لمجرد دين جديد معقد السداد، إلا أن السؤال الأكبر يبقى حول أوجه صرف هذه المبالغ، وما إذا كان المواطن البسيط الذي ينتظر فرجاً سيحس بأي فارق بعد وصولها؟ أم أنها ستذوب كما غيرها من المبالغ والموارد في غيابة الجب؟
غيابة الجب التي ابتلعت بشكل غامض حزمات مليارية من الودائع والمساعدات التي قدمت بسخاء، لتثبيت الوضع القائم، ثم لتعزيز مناعته إبان أزمة جائحة كورونا، التي غابت في قعرها موارد البلاد وثرواتها جنباً إلى جنب مع ريع المشاريع الوطنية الكثيرة المصادرة، والمؤسسات الاقتصادية الناجحة التي تم التحفظ عليها بذريعة علاقتها بالنظام السابق، هذه الغيابة لا يوجد ما يضمن أن لا تتسع للهبات الجديدة، إن هي وصلت فعلاً للبلاد.
مرة أخرى يجدر التذكير بأن الأزمة الاقتصادية الخانقة كانت المحفز الأكبر لخروج الناس على حكم البشير، حينها كانت ثمة قناعة بأن السودان، بموارده وإمكاناته البشرية والمادية، يستحق ما هو أفضل، وأن الفساد وسوء الإدارة هو الذي تسبب في تلك الأزمة. اليوم تبدو السلطة القائمة أكثر عجزاً من سابقتها عن إدارة الشأن الاقتصادي، رغم ما توفر لها من انفتاح دولي. تحليل أسباب هذا العجز لن يكتمل إلا في إطار النظر إليه من خلال الصورة الكاملة التي تستصحب الإطار السياسي والتي ترى هذا الفشل الاقتصادي جزءاً من اللوحة الكبيرة القاتمة، التي تشمل الأمن والصحة والتعليم والكهرباء وغيرها من أوجه الحياة التي أصابها العجز ولحقها الفشل.
كاتب سوداني