الاقتصاد السياسي للعلاقات الخليجية-التركية وآفاق نمو التجارة والاستثمار

ابراهيم نوار
حجم الخط
0

تتميز منطقة الشرق الأوسط، خصوصا دول الخليج العربية، بأن علاقاتها الاقتصادية تجري في قناة ذات طابع سياسي، ما يترك أثره عليها، فيكون الاقتصاد هو المتغير التابع والسياسة هي المتغير المستقل. غير أن ما جرى على صعيد العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا خلال السنوات الخمس الأخيرة يشير إلى أن تأثير الخلافات السياسية على العلاقات الاقتصادية كان محدودا، حيث لم تؤد القطيعة السياسية بين ثلاث من دول المجلس ومصر مع تركيا إلى قطيعة اقتصادية، وإنما كانت محدودة الأثر. هذه الملاحظة تقودنا إلى طرح سؤالين: الأول، هو لماذا كانت القطيعة السياسية محدودة الأثر اقتصاديا. السؤال الثاني هو: ما هي آفاق نمو العلاقات الاقتصادية بين الطرفين على ضوء التغيرات السياسية الدرامية الجارية في المنطقة، ومنها عودة الدفء إلى العلاقات بينهما؟
دقة الإجابة على أي من السؤالين، تتطلب مقاربة سياسية ضرورية، لفهم مفاتيح أو محركات السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي وتركيا.

الأمن القومي الخليجي

هذا هو المفتاح الأول والأهم للسياسات الأمنية والخارجية لدول الخليج. وربما تختلف بعض الدول الست في طبيعة إدراكها لمفهوم الأمن القومي، لكنها عموما، تتفق على هدف أساسي للأمن القومي والسياسة الخارجية، ألا وهو المحافظة على بقاء واستقرار أنظمة الحكم القائمة، ليس في دول الخليج فقط، ولكن في المنطقة العربية ككل. ومن ثم فإن أي محاولة لزعزعة نظم الحكم القائمة، أو طريقة تداول السلطة، تعتبر تهديدا للأمن القومي الخليجي. ومن هنا كان الموقف الشرس لكل من السعودية والإمارات على وجه الخصوص ضد رياح التغيير التي صاحبت «الربيع العربي». وألقت الدولتان بثقلهما وراء استعادة الأوضاع التي كانت قائمة قبل كانون الثاني/يناير 2011 ومحاصرة أي احتمالات للتغيير. وربما يكون ذلك هو أساس العداء لتركيا وقطر في آن واحد، حيث أظهرت الدولتان تعاطفا كبيرا مع التغيير، بل إن هذا التعاطف وصل إلى حد المساندة المادية والمعنوية، لطرف من أطراف الربيع العربي وهو حركة الإخوان المسلمين.

التحول الجيوستراتيجي في تركيا

الموقف التركي في تأييد الإخوان المسلمين في مصر وفي بقية دول الربيع العربي، كان مشتقا من محركين أساسيين، الأول أيديولوجي، يعود إلى طبيعة العلاقة بين الحزب الحاكم في تركيا وبين حركة الإخوان، والثاني جيوسياسي، حيث ترى تركيا أن العالم العربي، يمثل نطاقا للمصالح التركية ولممارسة نفوذ سياسي، يعيد تركيا إلى زعامة «العالم السني» الخالي من الزعامة في الوقت الحاضر. كما أن من شأن ذلك تعويض تركيا عما فقدته من طموحها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد تعليق المفاوضات بين الطرفين في هذا الخصوص. وسجلت الأشهر الأخيرة تحولا هائلا في موازين القوى الإقليمية، أدركتها دول الخليج وتركيا معا، وهو ما يشكل المحرك القوي في الوقت الراهن لإعادة هيكلة العلاقات السياسية، بما يتضمن «هيراركية» إقليمية جديدة، تجهز لنقل المنطقة إلى مرحلة ما بعد الهيمنة الأمريكية. ومع استمرار التنافس الإقليمي، فإن عودة الدفء إلى العلاقات السياسية الخليجية-التركية هو أحد ملامح اصطفاف إقليمي جديد، يضع الطرفين معا في حال تعاون، بدلا من الخصومة.

الأهمية الجيوقتصادية
من القواعد الشائعة في أهمية الموقع الجيوسياسي والجيوقتصادي لتركيا أنها جسر الاتصال البري بين العالم العربي وأوروبا وبالعكس. وخلال الفترة السابقة لصعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كانت تركيا كلها تعمل على تحقيق حلم واحد عنوانه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أدى هذا بشكل غير مباشر إلى انتعاش اقتصادي في سوريا على خلفية نمو صناعات مثل الأحذية والملبوسات الجلدية والملابس الجاهزة. وعلى الرغم من أن التجارة بين العراق وتركيا ترتكز على مقومات التخصص التقليدي: العراق يصدر الوقود لتركيا، بينما هي تصدر السلع المصنعة إلى العراق، إلا أن هذا النمط للتخصص ليس حتميا مع تطور المعاملات واستقرار الأوضاع في العراق. الأمر بالنسبة لدول الخليج لا يختلف كثيرا، فتركيا هي الجسر البري للوصول إلى أوروبا، خصوصا مع التوجه الحالي إلى تنويع هياكل الإنتاج والاستعداد للانتقال إلى عصر ما بعد النفط. كما يمثل الخليج بالنسبة لتركيا سوقا كبيرة لصادراتها الصناعية، إضافة إلى أسواق إعادة التصدير عن طريق الموانئ المطلة على بحر العرب والمحيط الهندي. انطلاقا من هذه الأهمية الجيوقتصادية كان حرصا من كل من الطرفين المتخاصمين على عدم إطلاق العنان للخصومة السياسية، ومحاولة استخدام أسلحة التجارة والاستثمار والسياحة لتعديل السياسات، وليس لتعميق القطيعة.

العلاقات القطرية-التركية

بعد عام 2017 تم تعزيز العلاقات القطرية – التركية حول مجموعة من المجالات المحورية تتضمن الأمن والتعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي الإقليمي، وذلك من خلال اللجنة العليا للتعاون الاستراتيجي التي عقدت 7 لقاءات حتى الآن. وفي اجتماعها الأخير في الدوحة برئاسة أمير قطر والرئيس التركي، تم التوقيع على اتفاقيات جديدة في مجالات التجارة والاستثمار والتنمية والثقافة والإعلام والشباب والرياضة والصحة والدبلوماسية والشؤون الدينية. ولا يقتصر التنسيق بواسطة اللجنة العليا على العلاقات الثنائية فقط، وإنما يغطي مجالات متنوعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، تشمل أيضا تعزيز التعاون العسكري والأمني. وقد أسفر التعاون بين البلدين خلال العقدين الأخيرين عن توقيع أكثر من 90 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبروتوكول، يتم تفعيلها من خلال الوزارات والأجهزة المعنية. وتعتبر قطر حاليا أكبر مستثمر خليجي في تركيا، إذ زاد نصيبها من جملة الاستثمارات الخليجية هناك من 8.3 في المئة عام 2015 إلى 70 في المئة عام 2019 وهو ما رفع نصيبها من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا من 0.5 في المئة إلى 14.6 في المئة خلال الفترة المذكورة. وطبقا للإحصاءات التركية بلغت قيمة الاستثمارات القطرية عام 2018 حوالي 6.3 مليار دولار بزيادة نسبتها 13 في المئة، وهي تعادل أكثر من خمسين في المئة من القيمة الكلية للاستثمارات الخليجية المباشرة في تركيا. بينما انخفضت الاستثمارات السعودية في العام نفسه بنسبة 30 في المئة إلى 625 مليون دولار، كما تراجعت قيمة استثمارات دولة الإمارات بنسبة 27 في المئة إلى حوالي 3 مليارات دولار أي أقل من نصف قيمة الاستثمارات القطرية.

التداعيات الاقتصادية للقطيعة السياسية

عند الحديث عن العلاقات الاقتصادية والسياسية الخليجية- التركية فاننا نستبعد الكويت وعُمان، لأنهما لم تكونا في نزاع مع تركيا. وقد أشرنا إلى ازدهار علاقات تركيا مع قطر، التي حققت نموا غير مسبوق، واتساعا في مجالات التعاون لتصل إلى حد التعاون العسكري والأمني الثنائي والإقليمي. وتشمل مجالات المصالح الاقتصادية المشتركة لتركيا مع دول مجلس التعاون، التجارة والاستثمار والسياحة وشراء المواطنين الخليجيين للمساكن في تركيا. وقد تعرضت العلاقات التركية مع كل من السعودية والإمارات للتوتر اعتبارا من عام 2014 ثم تحول التوتر إلى ما يشبه القطيعة السياسية عام 2017 واستمر الوضع كذلك حتى بداية النصف الثاني من العام الحالي، حين أسفر توظيف قنوات الدبلوماسية الخفية والعلنية، عن خلق ظروف ملائمة لتحسين العلاقات.
وخلال فترة التوتر والقطيعة (2015- 2020) انخفض مستوى المعاملات الاقتصادية بين تركيا وكل من السعودية والإمارات في مجالات التجارة والاستثمار والسياحة بنسبة كبيرة. على سبيل المثال كان حجم التجارة المتبادلة بين تركيا والسعودية عام 2015 حوالي 5.6 مليار دولار، يحقق فائضا لصالح الأولى بقيمة 1.35 مليار دولار، لكن التجارة تراجعت لتبلغ 4.9 مليار دولار في العام 2018 وحققت فائضا لتركيا بقيمة 320 مليون دولار فقط. كما تعرضت علاقات تركيا مع الإمارات لهبوط حاد، حيث انخفض حجم التجارة المشتركة من 14.7 مليار دولار في عام 2017 إلى 6.9 مليار في العام التالي. ومع ذلك فإنه يلاحظ أن حركة السياحة وشراء المساكن في تركيا بواسطة مواطني الدولتين قد تعرضت لأضرار أقل.

آفاق التعاون

بذلت تركيا مجهودا ملحوظا من أجل إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع كل من السعودية والإمارات ومصر. وأسفرت الزيارة التي قام بها ولي عهد الإمارات في الشهر الماضي إلى تركيا عن توقيع عدد من اتفاقات التعاون الاقتصادي بين البلدين. وجاءت هذه الزيارة في وقت تحتاج فيه تركيا للمساندة الاقتصادية بسبب تدهور الليرة وتراجع الاستثمار الأجنبي. وفي إطار هذه الاتفاقات تقرر تأسيس صندوق لتعزيز الاستثمارات الاستراتيجية في تركيا من خلال الصندوق السيادي التركي وغيره بقيمة 10 مليارات دولار، وذلك ضمن حزمة الاتفاقات الاقتصادية التي تم توقيعها بهدف تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والموانئ والخدمات اللوجستية والبنية الأساسية الاجتماعية، خصوصا مشروعات الرعاية الصحية. ومن المرجح أيضا ان تكون المحادثات بين القيادتين التركية والإماراتية قد تطرقت إلى تسوية المدفوعات بالعملتين المحليتين، من خلال اتفاق لتبادل العملات، مثل ذلك الذي وقعته تركيا مع قطر عام 2018 بقيمة 15 مليار دولار. وتسعى تركيا إلى تخفيف حدة الضغوط عن الليرة التركية التي هبطت قيمتها بنسبة 45 في المئة في العام الحالي، من خلال اتفاقات لمبادلة العملات المحلية وقعتها مع شركائها التجاريين، مثل الصين بقيمة 6 مليارات دولار وكوريا الجنوبية بقيمة 2 مليار دولار. كما تسعى تركيا إلى مضاعفة حجم التجارة مع الإمارات التي هبطت هبوطا حادا في عام 2018 إلى 6.9 مليار دولار مقابل 14.7 مليار في عام 2017. وكانت تركيا تطمح إلى رفع قيمة تجارتها مع دول مجلس التعاون الخليجي إلى أكثر من 100 مليار دولار بحلول العام 2023. ولكنها على ضوء الظروف الراهنة ستحتاج إلى سنوات لتحقيق ذلك الرقم.
وتطرح علاقات تركيا مع الخليج، اقتصاديا وسياسيا فرصا أوسع للتعاون التركي-العربي الذي يطمح إليه الطرفان، ويتضمن ربط الاقتصاد التركي مع الدول العربية من خلال اتفاقات لإقامة مناطق تجارية مشتركة، مثل تلك المقترحة مع العراق وإيران، أو من خلال اتفاقيات للتعاون الثنائي في قطاعات النفط والغاز والكهرباء، مثل تلك الموقعة مع الحكومة الليبية في طرابلس، وتحويل منطقة شرق البحر المتوسط إلى ساحة للتعاون المثمر وليس للصراعات، وكذلك من خلال اتفاقيات الاستثمار المشترك وتسهيلات العبور بغرض تسهيل التجارة مثل تلك الموقعة بين تركيا وكل من مصر والسعودية، كما يمكن للتعاون العربي-التركي أن يفتح مجالات واسعة للتكامل الاقتصادي الإقليمي بتطوير مشروعات البنية الأساسية المشتركة في قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والطرق والسكك الحديد والنقل البحري والجوي، إضافة إلى ربط غرب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا بأوروبا.
إن العوامل الجيوقتصادية، وطبيعة هياكل الإنتاج في الدول العربية، وملامح التكامل التجاري بين تركيا المتقدمة صناعيا قياسا بالدول العربية، الفقيرة في مصادر الطاقة المتوفرة في الدول العربية، تقدم إطارا لإقامة علاقات اقتصادية ناجحة بين الطرفين. كذلك فإن هذه المقومات الجيوقتصادية إضافة إلى غيرها من العوامل المساعدة التاريخية والثقافية تحمي العلاقات الخليجية – التركية من نتائج الصدمات الحادة المفاجئة، وتوفر مناخا إيجابيا لنمو الاستثمارات المشتركة، حيث توجد لتركيا شركات كبرى تعمل في مجالات متنوعة، ظلت محتفظة بمواقعها بعيدا عن النزاعات السياسية خلال الأعوام القليلة الماضية. ولا يتوقف نمو واتساع نطاق التعاون الاقتصادي بين الطرفين العربي والتركي على إبعاد السياسة عن الاقتصاد ولكنه يتوقف على إقامة تناغم سياسي يوفر ظروف الاستقرار للعلاقات الإقليمية، على أسس التعايش السلمي، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون المشترك لتحقيق المنافع المشتركة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية