الاقتصاد المصري: متى تتمكن العربة الطائشة من مغادرة الأحراش؟

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

الاقتصاد المصري مثل عربة طائشة تتخبط في كل اتجاه، تضربها يد من هناك مرة، وتتلقفها بالمساعدة يد أخرى قبل الوقوع في حفرة، فتكتب لها النجاة! وقد تعرض خلال شهر واحد لثلاث صدمات كبيرة، الأولى هي صدمة تعويم سعر الصرف في 6 اذار/مارس التي أسفرت عن تخفيض فعلي لسعر الصرف الرسمي للجنيه بنسبة 60 في المئة تقريبا، والثانية ترافقت مع رفع سعر الفائدة بمقدار 600 نقطة أساس مرة واحدة، والثالثة هي صدمة «السيولة الإيجابية» التي نتجت عن تدفقات مالية وتعهدات بتقديم تمويل لسلطات الدولة بما يعادل 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، منها 35 مليار دولار في صفقة عاجلة هي صفقة «رأس الحكمة» من المفترض أن مصر تسلمت قيمتها الكاملة بنهاية شهر نيسان/أبريل. ويرتبط بهذه الصدمات الثلاث اثنتين من الظواهر السلبية الممتدة، الأولى هي ظاهرة التضخم الهيكلي، والثانية هي ركود النشاط الاقتصادي في القطاعات غير النفطية للعام الرابع على التوالي. وجاءت الصدمات الثلاث بينما كانت العربة الطائشة على وشك السقوط من حافة هاوية، لتساعدها على تغيير الاتجاه والنجاة. ومع ذلك فإن تأثير تلك الصدمات لا يضمن في حد ذاته خروج العربة الطائشة من الأحراش إلى درب سالم يؤدي إلى نمو مستقر. ونظرا لأن صندوق النقد الدولي أصبح هو المسؤول بقوة الأمر الواقع عن وضع السياسة الاقتصادية التي تضمن حصول العربة الطائشة على الوقود الكافي للحركة، وحماية مصالح الدائنين الذين يدفعون ثمن ذلك الوقود، فقد تعين عليه أن يضع للحكومة «مانفيستو» للسياسة الاقتصادية يتعين عليها الالتزام به في المرحلة اللاحقة للصدمات، على أمل الخروج من الأحراش الاقتصادية التي حشرت نفسها فيها نتيجة خيارات اقتصادية حمقاء.
ومع ذلك فإن البرنامج الجديد الذي قدمه صندوق النقد الدولي للإصلاح الاقتصادي في مصر يشبه إلى حد كبير ذلك الذي وضعه عام 2016 وحصلت مصر بمقتضاه على 12 مليار دولار على مدى 3 سنوات. البرنامج السابق فشل عمليا في تحقيق أي مزايا فعلية للاقتصاد الحقيقي، كما فشل أيضا في إصلاح المالية الخاصة بالدولة، وهو ما أدى إلى تداعيات سلبية تمثلت في اتساع فجوة التمويل، وتراجع النمو، وفرض قيود على الواردات، وانفجار معدل التضخم، وتردي قيمة العملة المحلية، واتساع نطاق المعاملات في السوق السوداء. ومع تفاقم ملامح الأزمة الاقتصادية لجأت مصر إلى الصندوق مرة أخرى، رغم حصولها على أكثر من حزمة من المساعدات من الصندوق وغيره لمواجهة تداعيات أزمة كورونا. وبمقتضى حزمة من الإصلاحات التي اعتبرها الصندوق ضرورية، تم عقد اتفاق جديد للتمويل بواسطة قرض للتسهيلات الائتمانية الممتدة على 4 سنوات بقيمة 3 مليارات دولار في كانون الأول/ديسمبر عام 2022 حصلت مصر على الدفعة الأولى منه فقط بقيمة 347 مليون دولار، لكنها فشلت بعد ذلك في مقابلة التزاماتها المنصوص عليها في اتفاق التمويل؛ فأعلن الصندوق تعليق القرض ووقف صرف أي مبالغ للسلطات المصرية حتى الوفاء بشروط الاتفاق.
هذا الموقف الذي تمسك به الصندوق كان بمثابة ضربة قوية لأحلام سلطات الدولة في مصر، للحصول على تمويل واسع النطاق من مصادر متعددة، في الوقت الذي كان عجز صافي الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفي يتفاقم أسبوعا بعد أسبوع. ومع ضغوط التوتر الجيوسياسي في الشرق الأوسط وتداعياتها الاقتصادية لم يكن أمامها غير العودة مرة أخرى إلى صندوق النقد للحصول على شهادة تؤهلها للاقتراض من جديد سواء من الصندوق أو من غيره. العودة للمفاوضات بعد ما يقرب من سنة من اتفاق قرض التسهيلات الائتمانية الممددة لم تكن سهلة هذه المرة، واشترط الصندوق أولا أن تدفع السلطات المصرية مقدما ما يمكن تسميته «عربون حسن نية» يتمثل في عدد من الإجراءات المرتبطة بتنفيذ قرض كانون الأول/ديسمبر 2022 وأهمها مرونة سعر الصرف بشكل دائم، وضبط مالية الدولة بوضع معايير للعجز المالي وإدارة الديون وتخفيض التضخم، وإثبات الجدية في تنفيذ برنامج «تخارج الدولة من الاستثمار» وتوسيع نطاق شبكة الحماية الاجتماعية، لتقليل الأضرار الناتجة عن البرنامج على الفقراء وغير القادرين وأصحاب الدخول الثابتة.

سياسة غير مستدامة

كنت قد وصفت الاقتصاد المصري قبل أكثر من عقد من الزمان بأنه مثل عربة طائشة تجري في كل اتجاه بلا كوابح ولا عجلة قيادة، لن يوقفها إلا نفاد الوقود. وبعد أكثر من عشر سنوات من السياسات الحكومية المتماثلة، أصبح من الضروري إعادة زيارة موقع العربة، وتحديد موقعها على خريطة الأحراش، وتقدير مدى قدرتها أو جهوزيتها للخروج إلى فضاء النمو المستقر بعيدا عن الغابة الموحشة التي وقعت فيها، للأسف ليس وحدها ولكن معها ركابها أيضا. سبب آخر لإعادة الزيارة هو أنها حصلت على دفعة هائلة بواسطة وقود تمويلي وسياسي جديد قد يؤهلها للخروج من الأحراش إلى فضاء صحي آمن. السؤال الكبير الذي يحير العالم هو: هل تستطيع عربة الاقتصاد المصري الخروج فعلا من الأحراش لفترة طويلة أم أنها تبقى حبيسة التخبط وتهديد السقوط في حفرة بعد حفرة، طالما أنها في كل مرة تجد أيدي العون ممدودة لها، حتى وصل الأمر إلى مد الأيادي من جديد لتوفير التمويل اللازم لاستيراد الغذاء! ليس هكذا يجب أن يبقى الاقتصاد المصري، وليس هكذا يليق بركاب العربة الطائشة. السبب الثالث لضرورة إعادة زيارة العربة الطائرة هو أن قائد العربة، ولا أقصد هنا شخصا بعينه، وإنما أقصد سياسة القيادة ومؤسساتها قد بدأت فعلا تشغيل المحرك، وأمسكت بعجلة القيادة لتحديد الاتجاه، تحت ضغوط مقدمي المساعدات، وهو ما يمكننا من تحديد مجال للرؤية بشأن المسار المقبل، وهل سيكون هذا المسار طريقا للخروج من متاهة الأحراش، أم سيكون عودة للدوران فيها بلا هدف، فتعود العربة إلى التخبط والسقوط في حفرة بعد حفرة، حتى ينفد وقودها، ويتقدم آخرون بالوقود لها وبالغذاء لركابها. مصر، هذه المرة حصلت في أسابيع قليلة على تعهدات بتقديم المساعدة، وعلى تدفقات فعلية تعادل ما يقرب من 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، جاءت من دولة الإمارات وصندوق النقد والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي إضافة إلى حصيلة متوقعة من بيع أصول استثمارية و قروض ومساعدات من أطراف أخرى مثل بنك التنمية الأفريقي والمؤسسة الدولية للتمويل الإسلامي وغيرها، وهي بذلك تعتبر أكبر وأقوى دفعة استثمارية في تاريخ مصر، ومن ثم يتحتم تحقيق الحد الأقصى من الاستفادة بها وعدم إهدارها ومنع تحويلها إلى مجرد التزامات مستقبلية مستحقة على الأجيال القادمة من المصريين.

الشبه بين الليلة والبارحة!

تثق مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني أن مسار عربة الاقتصاد هذه المرة لن يكون شبيها بالمرات السابقة، لكن خبراء فيتش لم يقدموا لنا في شهادتهم يوم 3 أيار/مايو الحالي أدلة قوية تساعدنا على أن نصطف معهم في الشعور بكثير من الثقة تجاه المسار الاقتصادي المقبل. وعلى العكس مما يقال بأن الأفراد يتعلمون من أخطائهم، فإن الشائع هو أن المؤسسات والأفراد يكررون أخطاءهم ولا يتعلموا منها. ومع ذلك فإن منطق الحكم على الأشياء لا يجب أن تقوده نتائج مسبقة، لكن يبقى من الضروري تطوير معايير واضحة قابلة للقياس للاسترشاد بها في تتبع المسار وتقييمه، وتنبيه السائق في حال كانت العربة «ترجع للوراء» أو على حافة السقوط إلى هاوية تنتظرها في الأمام. هذه المعايير القابلة للقياس يجب أيضا أن تكون موضوعية وفي إطار رؤية مستقبلية تتفق مع طموحات الشعوب، خصوصا إذا كنا نتعامل مع حالة تواجه كثيرا من التحديات، للصعود من منحدر التخلف إلى طريق سليم آمن لتحقيق التقدم. ولا أظن أن شعبا واحدا في العالم يفخر بأنه باق في مكان لا يبرحه، على اعتبار أن شعوبا أخرى تتأخر. ولا أظن أن شعبا واحدا في العالم يفخر وسط غيره من الشعوب بأن غايته في الحياة هي أن يحصل أفراده على «حد الكفاف» اللازم لتوفير احتياجات البقاء من يوم إلى اليوم التالي. وتفقد الشعوب قدرتها على التجديد والإبداع والمنافسة عندما يقتصر هدفها في الحياة على النضال من أجل استيفاء مستلزمات توفير «حد الكفاف»، خصوصا في عالم يغلي بالصراعات على النفوذ والانتصار في ساحات المنافسة المتعددة والمتنوعة.
وحتى نقارن الليلة بالبارحة فإننا نقيم مقارنة سريعة وسهلة بين أهداف برنامج قرض الـ 12 مليار دولار الذي حصلت عليه مصر من صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2016 على مدى ثلاث سنوات، والقرض الأخير بعد التعديلات التي تمت الموافقة عليها في اذار/مارس 2024 وزيادته إلى 8 مليارات دولار من 3 مليارات فقط. بين القرضين مدة زمنية تبلغ 7 سنوات تقريبا جرت فيها أحداث كثيرة، معظمها سلبية الأثر. سوف نرصد في المقارنة «أهداف البرنامج الإصلاحي» لكل منهما، و«حزمة أدوات الإصلاح» المقترحة. ولن نقارن الماء بالماء، ولكننا سنلقي بالسبّاح إلى الماء حتى نختبر مدى قدرته على السباحة. بمعنى آخر فإننا سننتقل من حيز مقارنة الأرقام بالأرقام والنقود بالنقود إلى عالم الاقتصاد الحقيقي، عالم أسواق السلع والخدمات الذي يتفاعل فيه الطلب والعرض، والعمل ورأس المال، والاستهلاك والإنتاج. وبإمكاننا القول دون أي تردد بأن برنامج الإصلاح الاقتصادي الجديد طبقا لاتفاقات اذار/مارس 2024 لا يختلف جوهريا عن برنامج الإصلاح لعام 2016 وهو ما يجعل أي صاحب عقل يعقل أن يتساءل: إذا كان برنامج 2016 قد فشل بالأمس، فما الذي يضمن لنا أنه سينجح اليوم ويحقق أهدافه؟ السياسة الاقتصادية كما هي، وقدرة الاقتصاد على التحمل اعتمادا على الموارد الذاتية أقل مما كانت عليه، وقدرته على الوفاء باحتياجات الاستهلاك المحلي أقل، كما أن قدرته على المنافسة أسوأ بكثير عن ذي قبل. وعلى صعيد المديونية الخارجية أصبح الوضع أسوأ بكثير بعدما قفزت قيمة الدين الخارجي للسلطات المصرية، وهو دين يدفعه الشعب بكل طبقاته، إلى 164 مليار دولار بنهاية عام 2023 أي ضعف ما كان عليه في عام 2016 وأربعة أضعاف ما كان عليه عام 2014! وطبقا لتقديرات مؤسسة موديز فإن قيمة التزامات خدمة الدين في العام الحالي تصل إلى 32.8 مليار دولار. وعلى الرغم من كل ما حصلت عليه السلطات المصرية من تمويل أو تعهدات بالتمويل منذ مارس الماضي فإن ميزانية الدولة الرسمية لا تزال تعاني من فجوة تمويلية بقيمة 28.5 مليار دولار حتى نهاية عام 2026 حسب تقدير صندوق النقد الدولي نفسه. فكيف تستطيع سلطات الدولة المصرية تقليص فجوة التمويل؟ وكيف تستطيع تحقيق تنمية حقيقية؟ وكيف تستطيع بناء اقتصاد تنافسي؟

ملامح الصورة كما هي الآن

لم تقدم «الدولة المصرية» لدافعي الضرائب المصريين حتى الآن، نذرا يسيرا من عائد بيع أصول مملوكة للشعب، وديون جديدة حصلت عليها، وزيادات ضريبية صريحة أو مستترة سوف يدفع ثمنها كل مواطن في مصر. ليست هناك استثمارات حقيقية متوقعة تزيد عرض السلع للسوق المحلية وتوفر فرص عمل كريمة لخريجي المدارس والمعاهد والجامعات. الأسعار ما تزال مرتفعة، حتى وإن كانت هناك توقعات بأن تنخفض معدلات الزيادة عما كانت قبل صدمات اذار/مارس، فقد ارتفع المعدل الشهري للتضخم في الشهر الماضي بنسبة 1.1 في المئة، كما ارتفع المعدل السنوي بنسبة 32.5 في المئة. الكهرباء ما تزال تنقطع في كل أنحاء البلاد بمقتضى سياسة «تخفيف الأحمال» نظرا لنقص الوقود رغم ارتفاع أسعارها، كما ترتفع أسعار وقود السيارات وتكلفة نقل البضائع. والأسباب كثيرة يزداد الفقر انتشارا، ما أدى إلى أن كثيرين يبيعون مدخراتهم ليأكلوا منها. الغريب في ذلك أن «السلطات» كما يسميها صندوق النقد أو «الدولة المصرية» كما تسميها البيانات الرسمية، ما تزال هي الأخرى غارقة في جوانب مختلفة من أزمتها المالية، فهي تقترض من جديد لتمويل استيراد القمح والغذاء، كما أنها لم تتمكن حتى الآن من التوصل إلى تسوية مقبولة لسداد المتأخرات المستحقة عليها لشركات النفط والغاز والكهرباء التي تبلغ حوالي 5 مليارات دولار. ومع استمرار تعقيدات المشهد الجيوسياسي الإقليمي فإن نجاح برنامج الإصلاح تحيطه شكوك قوية، ما يستدعي مراجعة السياسة الاقتصادية بأكملها، لأن توفير الوقود اللازم لانطلاق «العربة الطائشة» ليس كافيا لوصولها إلى محطة أمان.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية