الانتخابات لن تحسم في صناديق الاقتراع في “بني براك” ولا في “أوفكيم”، كما يقول أحد السياسيين الكبار في جبهة مناهضة بيبي. بل ستحسم في الأحياء الجديدة في أسدود، وفي الأبراج التي نبتت في السنوات الأخيرة في شرقي “بيتح تكفا”، وفي “كريوت” خليج حيفا، وعين هيام، وحي في الأبراج جنوبي نتانيا، في أبراج أور عكيفا، و”ريشون لتسيون”. القاسم المشترك هو الطبقة الوسطى، أو ما اعتبر طبقة وسطى حتى كورونا – أبناء وبنات 30، 40، 50، وعائلات. في السنوات الطيبة، انتقل هؤلاء الناخبون من ثلاث غرف إلى أربع. من شقة إسكان الى شقة مقاول، من سيارة يد ثالثة إلى سيارة يد أولى.
هناك قاسم مشترك لهؤلاء الناخبين، شيء ما يصعب على الأجنبي فهمه: من شبه المؤكد أن سيكون في أحيائهم شارع أو مدرسة على اسم نوعامي شيمر؛ وقد يكون شارع على اسم اريك آنشتاين، أو إيهود مانور، أو عوزي حوتمان، شوشانا دماري، يافه يركوني، عوفرا حازا. إن لم يكونوا يغنون في القاعات، فيغنون في الشوارع، باسماء الشوارع. كل الفنانين الذين ذكروا هم إجماع وطني صلب، محبوبون من الجميع، وهناك مكان للقبلية: ميدان زوهر ارغوف في الرملة، شارع ساشا ارغوف في شمال رعنانا.
كل السياسة محلية، هكذا يقول الأمريكيون، والفعل السياسي يبدأ وينتهي في الميدان، في الاتصال الإنساني، على المستوى المحلي. وسيطرة الشبكات الاجتماعية على المجال العام تستوجب تغييراً في التعبير، وليس بالضرورة تغييراً في الفكر. كل مجموعة “واتساب” هي نوع من المكان؛ حملة الانتخابات تكون فاعلة إذا ما بدأت كعمل بالمفرق، وليس بالجملة.
حالة ابتسام مراعنة – مينوحين هي مثال في هذا الشأن. مراعنة، مخرجة أفلام في مهنتها تنافست في الانتخابات التمهيدية في حزب العمل وانتخبت للمكان السابع – مكان واقعي في يوم جيد على نحو خاص. في حياتها القصيرة كتبت بضعة بوستات صبيانية، غبية، في الشبكة. انتخابها ولد حملة مضادة من الناطقين بلسان اليمين. مراعنة لا تهمهم بالفعل، ولا الحزب الذي انتخبت فيه. فهي بالإجمال المنظف الذي مهمته تبييض دخول بن غبير إلى الائتلاف القادم. على كتفيها الضيقين يجلس بن غبير، ونتنياهو أيضًا، الذي عقد حلف إخاء مع ورثة الحاخام كهانا.
قرر حزب العمل معانقة المرشحة التي جاءت لتوها. أولا، ليس له مفر: فقد رفعت القوائم؛ ثانياً، الضجيج حول انتخابها يفتح شقاً لمخزون الأصوات الذي تخلى العمل عنه في الحملات الانتخابية السابقة – الوسط العربي. يدور الحديث عن بضع عشرات آلاف الأصوات التي تتردد بين “العمل”، و”ميرتس”، المشتركة والجلوس في البيت. كله بالمفرق.
يجلب بن غبير معه، ولو على الورق، 70 ألف صوت، مقعدين. لو تنافس وحده، لضاعت هذه الأصوات هباء. كله بالمفرق.
كله بالمفرق أيضاً في مغازلات نتنياهو للوسط العربي. في المقابلات، يشرح بانفعال عن الشبان العرب الذين يرافقون قافلته المصفحة بهتافات “أبو يئير، أبو يئير”، يعتقد أنه مديح. بشكل عام، يحصل الليكود في الوسط العربي على مقعد واحد. ليس نتنياهو هو الذي يجلب هذه الأصوات، بل رائحة الحكم، ومقاولو الأصوات، والامتيازات التي تحت الطاولة. إن حملته الحالية إلى بلدات الوسط العربي ستولد في أقصى الأحوال مقعداً واحداً آخر: كثير من الضجيج، قليل من الأصوات.
وهذا هو ما يميز جدول أعمال “يوجد مستقبل”. جواب الحزب على انتخاب ميراف ميخائيلي رئيسة للعمل هو بيان عن انضمام سكرتير الحركة الكيبوتسية وسكرتير حركة الموشافات. إن انضماماً كهذا يوماً ما كان يحدث هزة أرضية في الاستيطان العامل، أما اليوم فقد مر دون رمشة عين. كل شخص يأتي بنفسه، وأحيانا، مثلما في حالة اورلي ليفي، لا يكون حتى هذا. كله بالمفرق.
الكل يترنح
بضعة أمور تميز جولة الانتخابات الحالية. أهمها اكتظاظ عدد استثنائي من الأحزاب التي ليست في كتلة نتنياهو في منطقة نسبة الحسم. غانتس، ميرتس، زليخا، عباس. حسب الاستطلاعات، كلهم يترنحون. المحطة التالية في الطريق إلى صندوق الاقتراع ستأتي في منتصف آذار، قبل أسبوع من الانتخابات تقريباً. وسيتعين على غانتس أن يقرر هل سيواصل حتى النهاية ويأخذ المسؤولية عن انتخاب نتنياهو لولاية أخرى أم كبديل، أم يطوي الحزب ويهجر السياسة بذيل مقطوع. أما الآن فهو يقوم بعمل مقدس إذ يمنع خطوات مشكوكاً فيها ويقوم بها نتنياهو وشركاؤه. ثمة شك بأنه قادر على فعل ذلك لو أنه أعلن مسبقاً عن الانسحاب، ولكن الناخبين يرفضون التأثر: غانتس عالق في الاستطلاعات في النقطة ذاتها، على حافة الفناء. إذا ما أغلق البسطة، فستوزع أصواته بين لبيد والعمل، ولعل شيئاً ما يصل إلى ساعر.
بدأ “ميرتس” كما كان متوقعاً، حملة النجدة. مقعد واحد يتنقل بينه وبين العمل. هذا المقعد الواحد يفصل من ناحيته، وربما أيضاً من ناحية كل الكتلة، بين الحياة والموت. سأتفاجأ إذا ما قرر رؤساء القائمة التراجع.
منصور عباس سيسير كما يبدو حتى النهاية. وحتى لو لم يجتز نسبة الحسم، فالضرر الذي يلحقه وسيلحقه برفاقه في القائمة المشتركة سيواسيه على الفقدان. وزليخا هو زليخا، ففي سنواته العظمى، كتعيين من نتنياهو في وزارة المالية، سنوات من الأنا الكبرى والعناوين الصاخبة، وبعد ذلك كمستشار ومروج في خدمة الشركات وكزامور شعبي العدو اللدود للشركات – لم يتوقف عن مفاجأتي. فهل سيتراجع زليخا؟ زليخا وحده يعرف.
قصة واحدة عن زليخا تسير معي منذئذ. كان المصدر فؤاد بن أليعزر الراحل، وزير الدفاع في حكومة شارون. كان فؤاد قريب عائلة لزليخا، عم أو عم بعيد. في قمة العاصفة حول الاتهامات التي نثرها زليخا في كل صوب، التقاه فؤاد، واختار أن يتحدث معه بأسلوبه، مثلما تحدث مع كثيرين آخرين. يا يرون، احذر، قال له. أحد ما سيزق لك رصاصة في الرأس. في الغداة، رفع زليخا شكوى ضد بن اليعيزر. ادعى أن فؤاد هدده بالقتل.
بخلاف الأب
الظاهرة المميزة الثانية هي مكانة يئير لبيد. بعد انهيار “أزرق أبيض” أصبح العنوان السياسي الرئيس في المجال الذي يمتد من الليكود يساراً. هذا هو التطور الطبيعي. ولكن الموجود أكثر من ذلك: أقام لبيد جسماً سياسياً متبلوراً، ينتشر في البلاد ويأتمر بإمرته. “يوجد مستقبل” والليكود: لا يوجد اليوم أحزاب أخرى. وهو يدير حملة انتخابات عاقلة، منضبطة، مهنية. فشل الجنرالات في السياسة أوضح أيضاً لمن اعتقد بخلاف ذلك أن السياسة مهنة. لبيد، مثل نتنياهو، تعلم المهنة بتفاصيلها. ولنتنياهو في هذه اللحظة مصلحة في أن يرفعه. وكما فهم من أقواله في المقابلة مع القناة 12، يريد أن يعزل لبيد، وعندها يعرض الانتخابات كصراع رأس برأس. نتنياهو يؤمن أنه سينتصر في هذه المعركة بفضل مكانته لدى الجمهور، وبفضل يمينيته.
يرفض لبيد الانجرار. فهو يريد أن ينتصر على نتنياهو في المكان الذي يمكن الانتصار فيه: قصورات الحكومة أمام كورونا، استسلامها للأصوليين، ميلها للتصريحات المتطرفة غير المقبولة. شعاره الانتخابي هو: “حكومة سوية”. في الماضي، كانت كلمة “سوية” جزءاً من قاموس اليسار. بلاد إسرائيل السوية مقابل بلاد إسرائيل الكاملة. أما لبيد فيأخذ هذا الشعار إلى مكان آخر، ويؤمن بأن معظم الناخبين راضون عن وضعهم. هذا صحيح في غربي أوروبا وصحيح في إسرائيل، ما يدفعهم إلى الانتخابات والتصويت هو الإحساس بأن الساحة السياسية خربة، عفنة، فاسدة، تستسلم للشاذين مثل بن غبير حفيد الحاخام كاينبسكي. يريدون سياسة رسمية، مدارة، سوية.
النبرة الملجومة التي اختارها كانت تنطوي على ثمن. والصراع ضد الأصوليين، وهو المجال الذي كان لبيد ناشطاً فيه، انتقل الى ليبرمان. فليبرمان يدير حملة فظة، مركزة، واضحة. أما لبيد فاختار حملة أقل تركيزاً وأكثر كياسة بكثير. كارهو الأصوليين يشتبهون به كأنه يرغب في التعاون معهم في اليوم التالي للانتخابات. يخيل لي أن لبيد يفكر بنفسه أكثر مما يفكر بالأصوليين: إذا كان يريد أن يكون بديلاً، فعليه أن لا يكون سياسي موضوع واحد. هو ليس أباه.
لنتنياهو مصلحة في إيقاظ معركة الانتخابات: المصوتون له يحتاجون إلى التشجيع كي يتوجهوا إلى الصندوق. إذا كان بوسع القناة 12 أن تساعد فستتفعل. ويمكن للبيد أن يتعايش مع انتخابات غافية؛ فالمصوتون له يأتون من شرائح تحرص على نسبة تصويت عالية. هذا يعود إلى تحليل الانتخابات كمصلحة بالمفرق: لو كان بوسعه لأيقظ كريات بيالك، وبلدة ميسورة، ولأنام كريات آتا المجاورة، البلدة المختلطة. ولكنه لا يستطيع.
له اليوم في الاستطلاعات 18 مقعداً، وسقفه 22. والمخزون الذي يأمل أن يأخذ منه المقاعد الأخرى موجود لدى غانتس (مقعدين ونصف)، ولدى ساعر (مقعدين)، واحد لدى بينيت، وأجزاء مقعد في الليكود، ولدى زليخا.
بقلم: ناحوم برنياع
يديعوت 19/2/2021