الانتخابات الايرانية والمهمة الرئاسية الصعبة

حجم الخط
1

قبل نهاية الشهر الحالي يتوقع ان يُعرف من هو الرئيس الجديد لايران بعد ثماني سنوات من رئاسة الدكتور احمدي نجاد المثيرة للجدل. وتأمل طهران ان تبدأ صفحة جديدة مع فترة رئاسية غير محددة الملامح حتى الآن برغم تكهنات المراقبين والسياسيين.
وقد ازدادت تلك الملامح غموضا بعد استبعاد غالبية المرشحين الذين بلغ عددهم 666، ولم يبق منهم سوى ثمانية. وسيستطيع الشعب الايراني ان يفتخر بنظامه الانتخابي، برغم ما يواجهه من انتقادات، خصوصا انتظامه وعدم خضوعه للظروف السياسية المحلية او الاقليمية، وانه تواصل طوال ثلث قرن بدون انقطاع حتى في ظروف الحرب التي امتدت ثمانية اعوام، وبرغم الحصار المفروض عليه. اما الرئيس الجديد فسيرث ملفات عديدة لم يستطع سابقوه غلقها، وان عليه ان يظهر براعته السياسية ليقنع شعبه باعادة انتخابه مرة اخرى بعد اربعة اعوام، وليكون محل رضا السلطات السياسية والدينية المتعددة في ايران. سيكون امام الرئيس الجديد تجارب ستة رؤساء يختلف كل منهم عن الآخر في شخصيته وخلفيته وأدائه وإرثه. تلك التجارب وفرت خبرات تراكمية، ولكنها قد تثقل كاهل الرئيس الجديد نظرا لتنوعها وتناقضاتها احيانا.
وسيكون الرئيس الايراني الجديد مكبلا ببعضها كالملفين النووي والاقتصادي. فقد دخل المشروع النووي الحملة الانتخابية بقوة، فاصبح الاعلاميون والسياسيون يحرجون مرشح التيار الاصلاحي، الشيخ حسن روحاني، حول مواقفه عندما كان المفاورض الرئيس مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خلال رئاسة السيد محمد خاتمي. فقد وافق على تجميد تخصيب اليورانيوم، والابحاث المتعلقة بذلك، ومنها ابحاث طلبة الجامعات الايرانية. ومع ذلك فرض الغربيون على ايران عقوبات صارمة. ولما فاز احمدي نجاد بالرئاسة الغى كل ذلك متحديا الدول الغربية ومصمما على امتلاك ايران دورة تصنيع نووية كاملة. ولكن برغم صعود شعبية نجاد في السنوات الاولى من رئاسته فقد كانت نزعته في سنوات حكمه الاخيرة للتفرد في القرار وتراجع حكمته في السياسة والاقتصاد والعلاقات العامة، من اهم عوامل أفول نجمه مؤخرا. ويمكن اعتبار هذه الحقيقة من اكثر ما يؤلم مرشد الثورة واجهزة الامن والحرس، لانها وضعت ثقلها المرة السابقة وراء نجاد، وروجت له وعرضت له صورة الرئيس الانموذج، خصوصا بعد ما ظهر للعالم من بساطة في الحياة وتواصلا مع الجمهور. كان بامكان احمدي نجاد ان يكون قائدا تاريخيا لو لم يسمح بتضخم الذات وسرعة زلات اللسان، واستهداف مناوئيه باساليب غير مقبولة. فما فعله مثلا ضد رئيس مجلس الشورى، الدكتور علي لاريجاني، بالحديث علنا عما اسماه ‘فساد’ بعض اقرباء لاريجاني، واستخدام سجلات الدولة لدعم موقفه، كان مفاجئا للكثيرين. واعاد للذاركة ما فعله في مناظرته مع الشيخ هاشمي رفسنجاني خلال الحملة الانتخابية السابقة. كان يفترض منه ان يكون اكبر من ذلك واكثر حكمة من التورط في استهداف المناوئين. لقد ترك ذلك آثارا سيئة خصوصا بعد ان اصدر قرارا باقالة وزير الاستخبارات، برغم علمه بان ذلك لا ينسجم مع رغبة المرشد.
يعتبر منع المترشحين مسألة مثيرة للجدل، داخل ايران و خارجها. فقد كان قطاع شعبي واسع يتوقع السماح للرئيس السابق، هاشمي رفسنجاني، بدخول السباق الرئاسي ليعيد، في نظر هؤلاء، قدرا من التوازن السياسي للاجواء التي اصيبت بالاحتقان بعد انتخابات 2009، وقد صرح رفسنجاني بعد شطب اسمه من قائمة المترشحين بانه كان يأمل ان يساهم في اعادة التوازن واصلاح ما تم تخريبه في السنوات الاخيرة، على حد قوله. ولكن كان واضحا كذلك ان النظام السياسي الحاكم يعتبر رفسنجاني شريكا في ما يعتبره ‘مؤامرة’ ضد الجمهورية الاسلامية كشرت عن انيابها في الانتخابات السابقة، ضمن مشروع ‘أعداء الثورة’. ويقول بعض المحللين ان السماح بترشح رفسنجاني كان سيبعث رسائل عديدة:
اولها انه سيعيد ايران الى دائرة السياسة الدولية على حساب الانتماء الثوري،
وثانيها: انه سيبدو منتصرا في الصراع الايديولوجي مع المرشد آية الله خامنئي،
وثالثها: انه سيبعث رسالة خاطئة لمناوئي الثورة بانهم استطاعوا تحقيق انقلاب سياسي ناجح على حساب التيار الاصولي.
رابعها: انه سيؤدي الى تفاقم ظواهر الليبرالية والمساومات السياسية على حساب المشروع الاسلامي الذي يتعارض في الكثير من جوانبه مع المشروع الغربي في الشرق الاوسط.
خامسها: ان السماح بالترشح يفتح بابا واسعا للرئيس السابق للعودة للعالم السياسي بعد ان حكم عليه مناوئوه من الاصوليين بانتهاء حياته السياسية بسبب موقفه الذي كان داعما للاصلاحيين قبل اربعة اعوام.
سادسها ان مشاركته بالترشح ستوحي بتبرئة اثنين من اولاده: مهدي وفايزة اللذين اعتقلا بسبب نشاطهما الفاعل في المعسكر الآخر، الامر الذي اعتبره الاصوليون ‘تأليبا على النظام’. ايا كان الامر فقد حظى استبعاد رفسنجاني باهتمام لحظي سرعان ما تجاوزته العملية الانتخابية. ولكن ما تزال الاجواء في حالة ترقب لما قد يقوم به السيد مشائي، مستشار الرئيس احمدي نجاد، الذي شطب اسمه، هو الآخر من قائمة المترشحين. وبرغم ما نسب للرئيس نجاد من تهديدات باجراءات غير محددة في حال منع صهره من الترشح، الا ان الوضع السياسي ليس محتقنا في الوقت الحاضر، وليس متوقعا قيام الرئيس نجاد بما يزيد الوضع تعقيدا، وان كان ذلك غير مستبعد. فهناك قلق رسمي في الدهاليز السياسية والامنية من لجوء الرئيس لخطوات تثير الوضع تضره شخصيا ولا تفيد صهره.
ثمة اطراف عديدة تلعب في المسار الانتخابي علنا وفي السر. فالاعلام له دوره في توجيه اذهان الناخبين، ولكن في الحالة الايرانية هذه المرة، اصبح الاعلام ‘في خدمة الثورة’ على حد تعبير بعض المحللين، وانه يسعى لطرح مواقف متوازنة من المسار الانتخابي، ويحاول عدم الانتماء لاية فئة سياسية. ويمكن القول ان الاهتمام الاعلامي المحلي بشكل خاص بهذه الانتخابات غير مسبوق. فبرغم سخونة الوضع السياسي وغليان مسرح العمليات في سوريا ستظل الانتخابات الاهتمام الاصلي للشعب الايراني ووسائل اعلامه. وستظل الانتخابات الرئاسية طاغية على ما سواها حتى تعلن نتائجها. ويأمل الايرانيون كذلك عدم تكرر ما حدث قبل اربعة اعوام من اضطرابات دموية بعد اعلان نتائج الجولة الاولى وخسارة كل من حسين موسوي ومهدي كروبي. ويمكن القول ان اجهزة الامن والاستخبارات والحرس الثوري اصبحت معنية بشكل مباشر بالحملة الانتخابية وما قد يصاحبها من احتقانات، او ما تسعى له الدول المناوئة لايران من ‘فتنة’ حسب وصف وسائل الاعلام الايرانية. هذه الاجهزة اصبحت اكثر تأهبا وخبرة في التعاطي مع اية مستجدات امنية مرتبطة بالانتخابات، واكثر حيادا ازاء المرشحين. ومع ان هذه الاجهزة تميل بشكل طبيعي لمرشح التيار الاصولي المدعوم ضمنا من قبل مرشد الثورة، الا انها كذلك مطالبة بعدم التدخل للتأثير على المسار السياسي وان اطرها محصورة بحفظ الامن ومنع التدخلات الخارجية. فايران ليست حيادية ازاء ما يجري في العالم حولها. بل انها طرف في الصراعات الدولية والاقليمية، ومطلوب من الرئيس ان يمارس دورا يدير من خلاله دفة سفينة الحكومة بما ينسجم مع سياسات القوى الاخرى في البلاد. فلدى ايران مصالح في امريكا اللاتينية، من خلال علاقاتها مع انظمة الحكم التقدمية في العديد من بلدان تلك المنطقة، وهو امر اصبح يمثل جانبا من المشروع الايراني الذي يؤكد على ضرورة استقلال دول العالم الثالث عن ‘الاستكبار العالمي’. ومن جانب آخر فان ايران منحازة بشكل واضح ضد المشروع الغربي في الشرق الاوسط ضمن محور التحالف الانكلو – امريكي – اسرائيلي. فقد وقفت مع ثورات الربيع العربي، ولكنها ترى في التدخل الغربي في سوريا امرا مرفوضا. انها تعتبر ان زيارات المسؤولين الامريكيين لقوى المعارضة كما فعل السفير الامريكي في دمشق سابقا عندما نزل مع الممتظاهرين في درعا، والزيارة الاخيرة التي قام بها جون ماكين، السيناتور الحالي والمرشح الرئاسي السابق، مؤخرا لبعض قوى المعارضة ‘تدخلا امريكيا’ لا يمكن القبول به. وما تزال ايران تعتقد ان بامكانها لعب دور ايجابي يخدم طرفي الصراع في هذا البلد العربي الذي دمرته الحرب الاهلية الطاحنة. الرئيس الايراني الجديد سيجد نفسه في زوبعة سياسية تتداخل فيها المبادىء بالمصالح، وتتضارب فيها مواقف الاصدقاء، وتوجه فيها سياسات الانتقاد والطائفية للجسد الايراني الذي يعلن دفاعه عن الامة ويدفع لذلك ثمنا باهظا، اقتصاديا وسياسيا وانسانيا.
مع ذلك تبدو الانتخابات هذه المرة الاشد غموضا والاكثر حيوية. فالسجالات التلفزيونية تؤكد حضورا اعلاميا وشعبيا وقيميا واسعا، وتظهر الشعب والنظام متقاربين جدا في المواقف والمبادىء، ومتوافقين بشكل كبير في الاطر العامة للثورة والدولة، ومتناغمين في دعم المرشد. ولذلك يجد المرشحون المتحاورون المناظرات التلفزيونية امرا حيويا لاستيضاح المواقف وتحديد اتجاهات المرشحين. وبرغم وجود رغبة شديدة لدى الايرانيين لانتخاب رئيس يساهم في احتواء المشاكل الاقتصادية فانهم يعون اسباب تلك المشاكل، وهي اسباب تدفعهم لدعم التيار الاصولي الحاكم. فالاسعار مرتفعة جدا، ومعدلات التضخم تقترب من 20 بالمائة، وهبوط سعر العملة أفقدها 40 بالمائة من قيمتها قبل عامين. كما ان الحصار المصرفي ساهم في تقليص الصادرات النفطية من جهة الى ما دون مليون ونصف برميل يوميا، وزاد الوضع صعوبة حصار النظام المصرفي وقطعه عن النظام العالمي. الرئيس الجديد سيكون كذلك في فوهة المدفع امام القوى الغربية التي تسعى لوقف المشروع النووي المثير للجدل. ولذلك يرى البعض في الدكتور سعيد جليلي، امين عام المجلس القومي، ورئيس الوفد المفاوض مع مجموعة 5 + 1 خيارا رئاسيا مفضلا. مع ذلك طرح البعض حالته البدنية معوقا لرئاسة دولة كبيرة كايران. فقد فقد احدى ساقيه في الحرب العراقية الايرانية واصبح يستخدم ساقا صناعية مكانها. وانتقد المرشحون الآخرون صلاحيته للمنصب قائلين: ان التفاوض مع كاثرين أشتون او اعضاء فريق التفاوض الدولي يختلف عن الرئاسة التي تقتضي خبرات ادارية عميقة كالتي يمتلكها المرشح مصطفى قاليباف، الرئيس الحالي لبلدية طهران. وينظر الى رئاسة البلدية مدخلا للترشح للرئاسة، كما كان احمدي نجاد. وحيث ان لايران دورا اقليميا ودوليا فقد طرح الانفاق الايراني على مشاريع الخارج موضوعا على طاولة السجال الرئاسي. وعندما اطلق المرشح الرئاسي محسن رضائي، الرئيس السابق للحرس الثوري، شعاره ‘المال للايرانيين’ انتقدته دوائر عديدة من بينها الحرس الثوري الذي ينطلق على اساس مبدئي يقضي بدعم حركات التحرر خصوصا التي تتصدى للاحتلال والهيمنة الغربية. واحدث تصريح رضائي سخطا لدى ‘الاصوليين’ الذي رأوا فيه تنازلا ومساومة على ما كان رضائي يؤمن به سابقا.
وثمة سؤال لا يمكن تجاوزه: هل ينتخب الشعب الايراني شخصا ام مشروعا؟ الامر المؤكد ان شخصية المترشح انما ينظر اليها من خلال ارتباطها بالمشروع الايديولوجي والسياسي لايران، وبالتالي فلا تمثل شخصية المترشح الا جانبا ضئيلا من السجال المتواصل، وان المعايير المختزنة في العقل الايراني تتضمن كافة جوانب المشروع الايديولوجي الايراني، والذي تسعى من خلاله للتموضع خارج اطر القومية والمذهبية او الطائفية. بل ان النخبة السياسية الايرانية وعلى رأسها المرشد، ترى في المشروع الطائفي عنوانا جديدا لقوى الثورة المضادة، وان من الضروري التصدي لها على كافة المستويات محليا وخارجيا. وسيجد الرئيس الايراني المقبل نفسه امام لغم كبير وضعه اعداء الامة على طريق الصحوة والحرية. فمن يسعى لمواجهة الطائفية يصبح مستهدفا ومتهما بها. وكان للنماذج الرئاسية الايرانية اثر في ترسيخ قيم الثورة في اذهان الكثيرين خارج حدود الجمهورية الاسلامية، كل في حينه. فكان رفسنجاني يوما مثالا في الحنكة الدبلوماسية والاعتدال، وكان خاتمي نموذجا للاصلاح والوسطية والتمدن. اما احمدي نجاد فاعتبر مثالا للتواضع والبساطة وخدمة الشعب. ويتطلع النظام الايراني هذه المرة لرئيس يقدم صورة جديدة تمتزج فيها الخصوصية الدينية بالبعد الانساني، ويتداخل فيها المحلي الايراني بالاقليمي العربي والاسلامي، ويتمازج فيها الموروث الثقافي القومي بقيم الدين وسلوكه واهدافه. سيمارس الشعب الايراني حريته في اختيار رئيسه على خلفية نهايات مأساوية لبعضهم: ابتداء بابي الحسن بني صدر الذي خرج من مقر رئاسته هاربا بعد ان انقلب على الثورة، ام محمد علي رجائي الذي استشهد عندما فجرت منظمة ‘مجاهدي خلق’ مقره وقتلته ورئيس وزرائه محمد رضا باهنر، ام المرشد السيد علي خامنئي الذي استهدفته عبوة ادت لعطب يده اليمنى. برغم ذلك فالصورة التي يفتخر الايرانيون بها تتلخص بطوابير الناخبين على مدى ثلث قرن، وهم يدلون باصواتهم لمرشحين برلمانيين او بلديين او رؤساء. انها صورة متميزة للمرأة والرجل، الشيخ والشاب، وكل منهم متوجه لممارسة حقه في اختيار من يمثله في التشريع او التنفيذ. سيقال الكثير حول الانتخابات الايرانية، وتوجه السهام للنظام الانتخابي ومجلسي الخبراء وصيانة الدستور، ومجلس تصليح مصلحة النظام، وقبلها وبعدها، المرشد آية الله السيد علي خامنئي. ولكن حقيقة مهمة تبقى: ان ايران اصبحت، برغم ما اعتراها من صعوبات ومتاعب ومؤامرات، بقيت واحة تصدح بها بلابل الثورة، تظلل بفيئها المظلومون واصحاب قضايا التحرر والحرية، واستعصت على محاولات التدمير والاستهداف، ماضيا وحاضرا، وانها تجاوزت خطر الالغاء او التهميش.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول المفيد:

    بارك الله فيك دكتوررنا االعزيز … تحليل ممتاز …

إشترك في قائمتنا البريدية