غموض نتائج الانتخابات واحتمالاتها المفتوحة، كانت مرة أخرى من أبرز مميزات المشهد الديمقراطي، الذي يترسخ بخطى ثابتة في تونس. وكما كان متوقعا، فإن الانتخابات البرلمانية، التي شهدت إقبالا ضعيفا لا يتجاوز نسبة 41% لم تفرز أغلبية واضحة على نحو ما أحدثته انتخابات 2014 وعاينه الجميع في البرلمان الأسبق.
ومن الواضح أن ثقة التونسيين في الأحزاب، وفي العملية السياسية برمتها قد تزعزعت، بشكل يبرر حضور ما يزيد على مليوني ناخب من أصل سبعة ملايين يمتلكون حق المشاركة في اختيار برلمان جديد، وهو في الواقع صاحب السلطة الأصلية، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي، الذي يعطي السلطة البرلمانية احتكار التشريع والمصادقة على القوانين وتشكيل الحكومة التنفيذية.
ويبدو أن استدعاء الناخبين لبدائل من خارج منظومة الحكم، تواصل مرة أخرى، وبمثل ما حدث في الرئاسية من تصويت عقابي شمل الجميع، بدون استثناء، فإن المشهد تكرر، ليفرز فسيفساء من قائمات حزبية وأخرى مستقلة. ورغم تصدرها النتائج، فقد عرفت «حركة النهضة» تراجعا ملحوظا في عدد المقاعد التي تحصلت عليها في البرلمان الماضي، والتي كانت في حدود 69 نائبا، وأفضت حينها إلى تحالفها مع «نداء تونس» صاحب الأغلبية الذي نجده شبه مندثر هذه المرة، بحصيلة لم تتجاوز أربعة مقاعد في ما يبدو. وفي الأثناء تتقدم أحزاب وقائمات ائتلافية تُحسب على الخط الثوري وتتحصل على نسب تواجد محترمة تحت قبة البرلمان. وبهذا المشهد المشتت، فسيفساء أحزاب ومستقلين، يبدو من الصعب تشكيل حكومة بائتلاف حزبي ضيق، وسيبحث الحزب الأول عن تحالفات بالمعنى المتعدد للكلمة، لأن الائتلاف الواسع الذي يضم أكثر من طرف هو الخيار الوحيد، الذي سيمكن من تشكيل الحكومة المرتقبة. ومن المتوقع أن تحدث تعثرات ومآزق صعبة تحول دون انبثاقها بشكل سريع، خاصة مع تصريح بعض الأحزاب بأنها ستبقى في المعارضة ضمن معطى الخطاب السياسي، الذي كشفت عنه حركة الشعب والتيار الديمقراطي، وهما المتحصلان على عدد مقاعد جيد، ولكن يبقى الواقع السياسي وإكراهاته سبيلا لتغيير المواقف، على قاعدة المصلحة الوطنية العليا التي لا يمكن أن تجحدها مثل هذه المكونات السياسية وغيرها.
وبالنظر إلى تقارب أكثر من حزب أو ائتلاف في عدد المقاعد، وتساوي الحظوظ التفاوضية بشأن الحكومة، فإن الأغلبية يمكن أن تتحول إلى مكون ضعيف بمجرد خروج طرف أو اثنين منها في أي لحظة. المسألة معقدة نوعا ما إذا غابت عن هؤلاء اعتبارات المصلحة الوطنية، لحساب المصالح الحزبية والحسابات السياسية الضيقة، والاستقطاب المعتاد على قواعد أيديولوجية مفلسة، لفَظَها التونسيون وكرهوا بسببها السياسة والسياسيين. والبلاد لا تحتمل إضاعة الوقت، والمطلوب العمل على إزالة الخلافات المعطلة، لتشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن، لتشتغل على التحديات الكبرى، وهي بالأساس القضايا الاقتصادية والاجتماعية، بمثل ما هو مطلوب من البرلمان المقبل، استكمال بقية المؤسسات الدستورية لحماية المسار الديمقراطي، وترسيخ أسسه القانونية الثابتة.
تونس لا تحتمل إضاعة الوقت، والمطلوب إزالة الخلافات المعطلة، لتشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن
وإن كانت حركة النهضة تعتبر نفسها «الجهة الحزبية الوحيدة المتماسكة اليوم» التي «يمكن أن تعمل بانسجام مع رئيس الجمهورية، بحكم تجربتها، وما عُرفت به من مساع لإنجاح الثورة والانتقال الديمقراطي»، «وستمثل صمام الأمان للمرحلة المقبلة، بعيدا عن الأشخاص الذين يريدون ضرب الانتقال الديمقراطي، والتفريط في المكاسب التي تحققت»، كما جاء على لسان أحد قياديها. فإنها من بين ضحايا الرئاسية الذين لم يخفت صوتهم، وبحثوا عن استمالة نسبة مهمة من الناخبين الذين صوتوا لأحد المرشحيْن في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية تحت عنوان، أنه من مصلحة النهضة أن يكون قيس سعيد في الرئاسة، ومن مصلحة سعيد أن تكون الحركة موجودة بقوة في البرلمان. وهي تبرر مساندتها للأستاذ قيس سعيد، بأنها نابعة من وجود خيارين، فهو يدافع عن الثورة ويؤمن بها وقادر على تجسيد أهدافها، مقابل خيار آخر لا يعبر عن طموحات الثورة، يحظى بمساندة قوى تنتمي إلى المنظومة السابقة، وتحوم حوله شبهات فساد وشكوك حول خرق السيادة الوطنية عبر التعامل المالي مع شركة «لوبيينغ» يديرها عميل موساد سابق من أجل تلميع صورته وإيصاله إلى رئاسة الدولة.
الاختبار الثاني للديمقراطية الفتية، يكشف عن أحزاب كبرى تتضاءل، وفيها من اندثر تقريبا، وأحزاب وائتلافات صغيرة أصبحت لها أحجام معتبرة. والأهم في اعتقادي أن لا تفرز الانتخابات البرلمانية تحالفات تقوم على محاصصة حزبية طارئة، ومصالح فئوية ورابطة منافع متبادلة، كما حصل سابقا، بل المطلوب صياغة آليات جدية لتحالف يُبنى على برامج حقيقية، تنقذ البلاد من حالة الركود الاقتصادي، وعطب المؤسسات والواقع المعيشي المتدهور، على نحو تجاوز المطبات التي تعيشها تونس، وإعطاء الفرصة للكفاءات الوطنية الموجودة، وإن كانت من خارج الأحزاب الفائزة، فإشراك من هو قادر على الاضافة أمر مرغوب، بعد أن جُرب منطق اقتسام السلطة وفق منطق غنائمي، وشرعيات وهمية خربت الكثير، ولم تأت بشيء يذكر.
الخيارات السياسية يجب أن تكون مسؤولة، فالتجربة الحزبية في الحكم قدمت رسائل سلبية للتونسيين، وبالتالي الاستفادة من طاقات حزبية، وأخرى غير متحزبة أنسب لتسيير البلاد، وفق مبدأ الانسجام الحكومي، وعلى قاعدة مشروع وطني لا يعيد أخطاء الماضي القريب، بل يعمق الوشائج بين السلطتين التنفيذيتين، بعيدا عن منطق التأزيم والرغبة في تعطيل منظومة الحكم. مع العلم أن تجميع الأغلبية على أرضية مشتركة بالمعطيات الموجودة الآن، إثر الفرز الانتخابي، من الرهانات الصعبة، أمام معارضة ستكون قوية وبعدد كبير، حسب توقعات المشهد الانتخابي بتناقضاته الواضحة، في مستوى ما أفرزه من توجهات سياسية ورؤى متباعدة ومختلفة.
من الجيد استخلاص العبر من هذه الانتخابات البرلمانية التي عاقبت بشدة أحزابا كانت حاضرة في البرلمان الأسبق، وفي الحياة السياسية على مدى ثماني سنوات من الثورة، على غرار اليسار ممثلا في الجبهة الشعبية، إلى جانب حزب آفاق تونس، وحزب البديل لرئيس الحكومة السابق المهدي جمعة وحزب نداء تونس الذي انتهى رسميا بوفاة مؤسسه الباجي قائد السبسي، وأعطيت الفرصة لقوى سياسية جديدة. فمن لم يقدم تصورات وبدائل حقيقية وبقي رهين عداء موجه لحزب معين، دفع ثمن ذلك، واليسار أكبر مثال في هذا السياق وهو مدعو لمراجعات حقيقية لأنه من المؤسف أن يغيب عن الحياة السياسية بهذا الشكل.
ولكن إجمالا أغلب الناخبين صوتوا للثورة ويرغبون في دولة متماسكة تحترم حقوق الإنسان وقيم المواطنة الحرة، والشعب التونسي قدم فرصة أخرى للقوى السياسية لتكون وفية للمطالب الوطنية وللتطلعات الشعبية وعليهم أن يدركوا ذلك جيدا.
كاتب تونسي
نتائج جل الإنتخابات الأخيرة الحرة و الشفافة في العالم الحر المتحضر أسفرت عن نفس ” الفسيفساء ” …..لتجنب التغول أولا ثم لفرض التفاوض على الجميع……تحت مراقبة الناخبين ……إذا لا خوف على تونس ……
نعم تقديرك صحيح صديقنا العزيز.
بالتأكيد لا خوف على تونس