أصبح من الواضح أن قبول النظام السياسي العراقي بإجراء انتخابات مبكرة في العراق، لم يأت من حاجة الحكومة إلى تصحيح مسارها، نتيجة لفشل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، في تنفيذ الخطط الاجتماعية والاقتصادية، التي حملتها برامج ومشاريع الأحزاب الحاكمة في الانتخابات السابقة، بل كان نتيجة لرد فعل هدفه إسكات الشارع العراقي، إبّان فترة الانتفاضة الشعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ومحاولة إفشال مطالب العراقيين المتمثلة في الدعوة إلى إسقاط النظام السياسي الطائفي الفاسد، واستمرار نفوذ الميليشيات، ودور إيران الطامع في العراق.
ومن الواضح أيضاً أن قبول العراقيين بفكرة قيام انتخابات مبكرة، تم تنسيقه وفق شروط واضحة، كان على رأسها تحقيق مطالب الانتفاضة الشعبية، في تحجيم سيطرة ميليشيات الأحزاب الولائية في المؤسسات الأمنية، ومنع التدخل الأجنبي، فضلاً عن إنهاء حالة إفلات الفاسدين والقتلة من العقاب، المُستمرة في البلاد منذ عام 2003.
الانتخابات العراقية الأخيرة لا تمثل إرادة لإصلاح العملية السياسية، خصوصاً مع بقاء العوامل المؤشرة إلى سيطرة القوى المهيمنة نفسها على النظام السياسي
وعلى الرغم من تأكيد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على قدرة حكومته على توفير الأجواء الملائمة لنجاح هذه الانتخابات، بيد أن استمرار طبيعة العملية السياسية والاختلاف العقائدي، واستمرار ارتباط ولاءات الأحزاب المهيمنة مع استراتيجيات وأهداف القوى الخارجية، قد أثارت العديد من التساؤلات بشأن جدوى إقامة انتخابات، واحتمالات النتائج السلبية التي ستخرج بها، حيث رأى العديد من العراقيين، أن هذه المحاولة الجديدة سوف لن تشكل بادرة إصلاح للعملية السياسية، بل ستزيد من احتقان المشهد السياسي العراقي. ويبدو أن هذه الانتخابات المبكرة التي أُريد لها أن تمثل إرادة العراقيين، استجابةً لمطالب الانتفاضة العراقية لإعادة هيبة الدولة، أضحت في النهاية بادرة لإعادة إثارة المشاكل بين الأحزاب المشاركة نفسها، نتيجة لقدرة التدخل الخارجي على الحفاظ على معادلة ميزان القوى وتجييره لخدمته، عن طريق استمرار الوصاية الإيرانية على أغلب الأحزاب وميليشياتها في العراق، طالما لم تنفذ الحكومة العراقية شروط الانتفاضة المتمثلة بأولوية الهوية الوطنية في المعيار الاجتماعي، وحصر السلاح بيد الدولة، ومحاسبة القتلة والفاسدين. يبقى السؤال الأهم هو في الأسباب التي دفعت النخبة الحاكمة المتمثلة بالرئاسات الثلاث، وبعثة الأمم المتحدة في العراق للقبول بهذه المغامرة الفاشلة، على الرغم من المعرفة التامة بأن طبيعة الوضع السياسي القائم في العراق، لا يسمح بتحقيق مطالب الانتفاضة الشعبية، التي تمثل غالبية العراقيين، وعلى اختلاف انتماءاتهم السياسية والمذهبية. ناهيك من المعرفة التامة لمستشاري حكومة مصطفى الكاظمي، وممثلة الأمم المتحدة في العراق، في أن هذه الانتخابات لن تحقق أي إصلاح، نتيجة للإشكالية التي تتميز بها عملية المحاصصة، التي تُمثل العقبة الأولى للأزمة العراقية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار استمرار رهان النظام السياسي في العراق على القوى الرئيسة نفسها المتمسكة بالسلطة، وعدم قدرة «انتفاضة تشرين» على تطوير المساحة اللازمة الواسعة التي تتطلبها الأحزاب والتيارات الوطنية، التي لها القدرة على مجابهة الدولة الطائفية العميقة في العراق، في انتخابات نزيهة، نتيجة لاستمرار دعم الأمم المتحدة والدول العظمى للعملية السياسية الطائفية، من خلال نظام الدين السياسي الذي أكل عليه الزمان وشرب، طالما لم يهدد مصالح هذه الدول ومباحثاتها، التي لم تنته بعد مع إيران. وهذا ما يفصح عن أسباب دعم واشنطن وطهران فضلاً عن قوى إقليمية ودولية أخرى لإجراء هذه الانتخابات، التي يراد منها إعادة شرعية النظام السياسي العراقي، الذي أزاحت انتفاضة تشرين آخر ما تبقى من ورق التوت التي تستر بها، بالإضافة إلى قدرة هذه الانتخابات على تأجيل صراع الأحزاب على السلطة في البلاد، من خلال التغيير الذي يسمح بإعادة ترتيب الأدوار، وهذا ما يفسر صعود التيار الصدري في المعادلة الجديدة، التي أفرزتها النتائج الأخيرة، نتيجة لرغبة إقليمية ودولية لترؤس مقتدى الصدر لهرم العملية السياسية.
وعلى الرغم من مضي أكثر من سبعة أشهر على إعلان نتائج الانتخابات، ترجمت الخلافات السياسية، التي شهدتها الساحة العراقية لاختيار رئيس الجمهورية الجديد خلال الأيام الأخيرة، عن حجم الانقسام وخطورة الصراع بين الأحزاب الرئيسية. من خلال الخلاف القائم بين قوى «الإطار التنسيقي» و»التيار الصدري» من جهة وبين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» «وحزب الاتحاد الكردستاني» من جهة أخرى. وبين حالة التشاؤم التي تميز بها خطاب أحد المسؤولين الكبار في الأمم المتحدة، عن الوضع في العراق أمام مجلس الأمن الأسبوع الماضي، ومحاولة حثه للقادة السياسيين في العراق للتغلب على انقساماتهم، والعمل من أجل مصلحة الشعب، يتساءل العديد من العراقيين عما إذا كانت المصلحة الوطنية التي يتكلم عنها المسؤول الأممي، تمثل في الواقع صراع الأحزاب وأمراء القوميات لتقاسم الموارد وحقائب السلطة، والتعيينات السياسية التي سيتم صياغتها للفترة المقبلة.
لا شك في أن الانتخابات الأخيرة التي عاشها العراقيون، ما هي إلا وهم يراد منه تضليل العراقيين، وهي بالتالي لا تمثل إرادة واضحة لإصلاح العملية السياسية، خصوصاً مع بقاء العوامل المؤشرة إلى سيطرة القوى المهيمنة نفسها على النظام السياسي في البلاد، وهذا ما يجعل من هذه المغامرة الانتخابية حدثا إعلاميا وهدفا لكسب الوقت، لاستمرار النظام السياسي الطائفي وغض النظر عن توسع نفوذ الأحزاب الموالية لإيران، وإن اختلفت أسماؤها وتغيرت ألوان عمائمها، تماشيا مع مصالح الدول الطامعة في ثروات العراق إقليمية كانت أم دولية.
كاتب عراقي
ثورة تشرين نجحت بتذكير العراقيين بالوطنية !
ولا حول ولا قوة الا بالله