الدعوة للنهضة الشاملة، إقرار بحالة النكوص والتقهقر والانحطاط الشامل الذي نجد أنفسنا فيه، بالمقارنة مع الأقران ومع ما كنا عليه وما وصلنا إليه، ومع ما نطمح إليه، وهذا بحد ذاته علامة صحية وسوية ودالة على أننا مازلنا ننبض بالحياة، برغم كل تداعيات التبعية والاستهلاكية، والتوكلية، والدونية، وشيوع الاستبداد، والفساد، والجهل، والمرض، والفقر المادي والمعنوي الذي تخمر، وتخلل، وصار طقسا يفرض شروطه على كل مضارع فينا!
المعرفة رأس الحكمة
وعي الحالة وتشخيصها يستدعي البحث أولا في جذورها ومسبباتها، ثم أعراضها، والمعرفة هي رأس الحكمة هنا، بحيث تقع على العارفين فيها فروض مزدوجة تجمع بين اجتهاد العين والكفاية، ولا يكفون حتى يجعلوها فرض عين للعامة، بعد اجتهادهم في السعي للأولويات وثقتهم بما يعرضون من معالجات، ليصبح الحث صوبها قمة التثاقف العضوي، وهو مهمة الخاصة التي لا غنى عنها في أي انتقال محمل بأثقال التنازع والانكفاء.
دوران الحال يبعث فينا دوخة من يتعاطى زهورات الخشخاش، الذي يُغيب البال لنشوة يهرب فيها من واقع الى آخر، ليس فيه مكان وزمان، وبالتالي ليس فيه منجز ولا عمران، وما يزيد الطين بلة أن يعمي بعضهم العيون بدلا من تكحيلها باجتهاد نافذ ومتأصل ونابع من صميم بصمة وخصوصية مجتمعاتنا، يستسهلون الطريق مغتربين عن جادته بتعليقهم العلل كل العلل على شماعة التراث بكل ما فيه من دين وحضارة وثقافة ولغة، وكلسعات الزنابير تترك أوراما على الجلد تزول بعد حين ويبقى الجلد على حاله!
التعاطي النقدي البناء مع الماضي والحاضر لاستشراف مستقبل أفضل يستلزم أدوات لا تحيد عن الموضوعية وتجافي التبعية والتبصر بعيون مستعارة وينفض عن منهجه القطع في المحاولات والاستغراق في جلد الذات واستسهال النقل عن إعمال العقل، وليس أي عقل ، فالعقل عقلان، منضبط، ومنفلت.
الأول: ينطلق من الذات للموضوع ومن الخاص للعام ومن التخيير للتسيير، ويركز على جدل الظواهر والسمات ويخلص للحتميات ولا يجامل في الدفاع عن حصيلة فيها شفاء لعلة.
الثاني: مطلق العنان للمغامرة في المتاهات حتى لو كان فيها خراب غير منظور مادام للمتاهة سوق رائجة تشوش العقل وتجعله مغلوبا على أمره، فمقارعة أي طبيعة كانت دون ضوابط وأحكام ، لها مآلات غير إنسانية خطرة خطورة العقل الاصطناعي عندما يصبح خارج سيطرة الإنسان.
البحث في التراث كأي اجتهاد وهو ليس ببدعة إنما هو قراءة متجددة بهدف التقاط ما ينفع من النواميس، وله حسنتان إن أصاب وحسنة واحدة إن أخطأ، وهذا ما نتعلمه من مذهب أبو حنيفة النعمان في القياس.
قبائل العرب
ومن معطيات التراث نفسه ما يزكي ما ذهبنا إليه، ففي السيرة ما يعزز هذا المنحى، اجتهاد سليمان الفارسي في بلورة فكرة حفر الخندق التي تقبلها النبي رغم جدتها على نمط القتال عند قبائل العرب وقتها، وما قام به الخليفة عمر بن الخطاب المؤسس الثاني للنظام السياسي للدولة الإسلامية الأولى الرشيدة، عندما أجاز استخدام نظام الدواوين في شؤون الادارة وضمنها الكثير من أنظمة الضرائب بعد تعديلها لدواوين الخراج وبيت المال والجند وهي في الأصل رومية وأعجمية، في حوارات الإمام علي مع الخوارج نفحات من التعاطي الإنساني مع المعارضة، والأمثلة كثيرة.
واحدة من الإشكاليات في منحى التعاطي المعاصر مع التراث ارتباط النقد العمودي له بمواسم الهزائم والانكسارات الكبرى، وبتغول نهج الاعتماد على الخارج في تلبية الضروريات، بمعنى غياب المؤسسية النقدية التي تُقوم وتُقيم المواقف والحاجات وفي كل الأوقات، وهذه العلة لها جذر في طبيعة السلطة التي حورت مقتضيات الدولة بكل مرافقها وحولتها لغنيمة ووقف للمتسلطين!
الظلم مؤذن خراب العمران “ابن خلدون”: لتقدم بلاد الغرب، وتخلفنا علل داخلية وخارجية، وقبل الولوج فيها لنتفق على ما هو مثبت، لم يكن الغرب مصدرا للإشعاع طوال الوقت بل كان الشرق هو مركز العالم، وكان قلبه النابض، ولم يجانب الصواب فولتير عندما قال: الغرب مدين بكل شيء للشرق. وكتاب “الجذور الشرقية للحضارة الغربية” لجون هوبسون المنشور عام 2007 يتكفل بشروحات تبرهن بطلان سردية التسلسل الانعزالي المتعمد، وذي النزعات الاستعلائية التي تغذي الميول العنصرية للمركزية الأوروبية كوازع للتفوق الذي يبرر الهيمنة بجعلها فطرية بنسبها وعذراء بعذرية المجدلية، وكأنها نفحة قدرية بها قال الرب قولته حيث نهاية التاريخ ، بحكم يسوده شعب غربي أبيض هو المنتصر النهائي بل هو خاتمة الإنسانية، بتزكية القوة التي يحتكرها وإعاقة المتطلعين والمتمردين بالترويض والخنق والإبادة إن تطلب الأمر.
اليونان القديمة أنجبت روما وتولدت عنها أوروبا المسيحية وتمخضت فولدت عصر النهضة ومنها بزغ عصر التنوير بمزج الديمقراطية السياسية والليبرالية الشاملة بالثورة الصناعية، ومن هذا المزيج نفحت الولايات المتحدة الأمريكية التي تجسد الحياة والحرية والسعادة لتابعيها على الأرض!
الحداثة الغربية
الحقيقة المطموسة أن الحداثة الغربية ذاتها لم تأت من اليونان أو روما إنما من احتكاكات بالثقافات غير الأوروبية، وأبرزها الشرقية الصينية والإسلامية، وعندما صدم المصدومون بها وعايشوا خرابها وتوحشها راحوا يبحثون عن ما بعدها، حداثة مجرمة ابتدأت بالإبادة الجزئية وتسرع الخطى نحو الإبادة الكلية حيث العبث بمصير الكوكب بما عليه!
يجافي المنطق من يصنف الحضارة اليونانية بالغربية، فهي ليست فقط جارة لصيقة بآسيا ولها بعد افريقي عززته كريت مع المصريين، وكما فعلت قبرص بالنسبة للفينيقيين، وإنما لم يكن لها مجال حيوي إلا في الشرق لأن عمقها الجغرافي الشمالي بائر حضاريا، وبحر إيجة أرخبيل يعج بجزر التواصل وآسيا الصغرى تغذي وتضخ بما يفتق المعرفة المتنوعة بتنوع البضائع وتجار البر والبحر وحملات الجيوش، من إسبارطة نزولا الى أثينا وطروادة وإيونية الى الهوريين والحوثيين الى حيث الميزوبوتامية، إلى التمدن الأول والأرقى والأعمق والأنبل، إلى حيث السومريين لب التكوين وسره الأول، حيث طغيان النبوغ في مشاعة الحكم وحكمته والتنوع في التجاوز، والجاذبة لفضول المتطلعين للاندهاش، كالموشور يجمع ويفرد ويفرز جنائن وقوانين أكثر إنسانية من حداثة الغرب، من الوركاء وبابل وآشور من الصين والهند وفارس وآسيا الوسطى الى آسيا الصغرى لليونان والعكس كما في حملة الإسكندر المقدوني التي غزت الشرق وتفاعلت مع معطياته!
العلل داخلية وخارجية
الاستبداد الداخلي والخارجي وتعاشقهما هو علة العلل في واقع تخلفنا، الذي يحتم الاضطراب وحجر الإبداع المعرفي والحسي ويستبعد الاستقرار المجتمعي الذي يراكم الخبرات والثروات ويبعث بها روح الاستثمار المنتج للقيم المضافة، وخارجيا هيمنة الاستبداد الكولونيالي والاحتكاري ثم العولمي الذي يعمق تخلفنا وبالتالي تبعيتنا!
الحريات العامة والخاصة وتفاعلها في ظل سلطة مؤسسات فعلية تقوم على اعتبار كل السكان شركاء في الوطن وهم مصدر سلطته ومناعته وثروته ولهم جميعا حقوق وواجبات دستورية على أساسها يتم اختيار الحكام عبر آليات مستقلة فعليا وتتجسد عبر نظام التخصص وفصل السلطات، في دولة تترجم لوائح حقوق الإنسان التي أبدع أصولها الشرق تحديدا قبل الغرب، ترجمة نافذة شكلا ومضمونا، دولة تنشد الرقي والرفاه، بالتحرر من الجهل والفقر والمرض والتبعية!
كاتب عراقي