أخطأ المثقفون في الدول العربية والرومانسيون منهم عندما صدّقوا أن زمن الانقلابات العسكرية والسياسية في بلدانهم قد ولّى وأصبح من الماضي.
الرغبة الجامحة بين الشعوب في الحرية والانعتاق من أنطمة الحكم المنغلقة والمستبدة، قابلتها إرادة أقوى من تلك الأنظمة على المقاومة والاستمرار. وهكذا نمت قطيعة داخل كل مجتمع بين طرفين مختلفين إلى حد التناقض وتنعدم بينهما الثقة إلى حد كبير.
ولأن اليد العليا ظلت في أغلب الحالات لمن يمسك بالقوة والسلاح وأدوات القمع الأخرى، وجدت مجتمعات العالم العربي الآن نفسها أمام موجة جديدة من الانقلابات، تتواءم مع روح العصر وفريدة بتنوّعها، فيها أيَّ شيء وكل شيء: ما فعله الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر صيف 2013 انقلاب، وما فعله قيس سعيّد في تونس صيف 2021 انقلاب. بين الانقلابين انقلابات عديدة اختلفت أحيانا لكن قاسمها المشترك كان دائما وأد الرغبة في الانعتاق.. في النصف الثاني من 2019 انقلب اللواء أحمد قايد صالح على الحراك الشعبي في الجزائر. في خريف 2021 انقلب عبد الفتاح البرهان ومحمد «حميدتي» على ثورة السودانيين واستيلاؤهما عليها في وضح النهار. قبل ذلك مارَس اللواء خليفة حفتر انقلابه في ليبيا، والرئيس بشار الأسد انقلابه في سوريا، وعلي عبد الله صالح وعبد ربه منصور هادي انقلابهما على إرادة اليمنيين. وفي المغرب تم الانقلاب عبر صناديق الاقتراع للإطاحة بالإسلاميين.
لم تعد الانقلابات مرادفا لدبابات تغزو المدن وتحاصر مبنى الإذاعة والتلفزيون، وجنود يسفكون الدماء في الشوارع. لم يعد العنف العسكري ضروريا لتنفيذ انقلاب على واقع موجود. الزمن أتاح طرقا أخرى أقل خشونة وفتكا، وأبقى القوة الخيار الأخير. لحسم المعركة والمضي بالانقلاب إلى مداه يكفي وضع اليد على وسائل الإعلام التقليدية على الرغم من فقدانها الكثير من رصيد الثقة والتأثير بين الناس في كل المجتمعات العربية. وبدل نشر جنود مدججين بالسلاح في الطرقات والمدن، تكفي السيطرة على طرق الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي، وتفعيل جيوش إلكترونية للتشويش على كل مسعى مخالف لرأي الحاكم، وممارسة الاغتيال المعنوي بحق دعاة التغيير من خلال الإساءة لهم ولهن في الشرف والأعراض.
مثل الحروب العصرية، دخلت الانقلابات عصر الرقمنة، يخطَّط لها ثم تُدار من خلف شاشات حواسيب.
العقيدة التي فرضها القوي الحاكم هي أنه دائما على حق، وأنه أدرى بمصالح الوطن أكثر من الآخرين مجتمعين، وأكثر حرصا على حماية هذا الوطن منهم. هذه العقيدة في حد ذاتها نوع من العنف
العبرة من هذا أن الديكتاتوريات العربية أيضا طوَّرت نفسها لتتكيَّف مع التحولات التي شهدتها مجتمعاتها. لكنه تطوّر داخل الذهنية الأبوية/الاستبدادية ذاتها المتغلغلة في المجتمعات العربية منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي. ما بين انقلاب جمال عبد الناصر على الملك فاروق في 1952، وانقلاب السيسي على حكم الإخوان المسلمين في 2013 فرق في «الضحية» والسياق لا غير. وبين انقلاب عمر البشير في حزيران (يونيو) 1989 وانقلاب البرهان في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، اختلاف في السياق وأداة الجريمة فقط.
هناك انقلابات للاستيلاء على السلطة، كما فعل السيسي في مصر. وهناك انقلابات لإحكام القبضة على السلطة. وهناك انقلابات على الطموح الشعبي حتى لا يخرج قطار ثنائية الديكتاتورية والخنوع عن مساره التقليدي الذي لا يجب أن يحيد عنه. هناك انقلابات تُنفَّذ بقفازات من حرير كما حاول أن يفعل قيس سعيّد في تونس. وهناك انقلابات تسيل فيها أنهار من الدماء وتتكوَّم الجثث بعضها فوق بعض كما فعل السيسي في مصر.
كبرت نقاط التشابه أم صغرت، القاسم المشترك أن كل الانقلابيين، السابقين والحاليين والمقبلين، نفذوا (وسينفذون) انقلاباتهم «حُبًّا في الوطن ودفاعا عنه وحفاظا عليه» من «المتهورين والمغامرين والمأجورين للخارج». العقيدة التي فرضها القوي الحاكم هي أنه دائما على حق، وأنه أدرى بمصالح الوطن أكثر من الآخرين مجتمعين، وأكثر حرصا على حماية هذا الوطن منهم. هذه العقيدة في حد ذاتها نوع من العنف، وتكريسها لا يقل خطورة وعنفا عن الانقلاب في حد ذاته.
الحقيقة التي يجب أن تقال أيضا هي أن هذه الانقلابات ما كانت لتكثر وتتنوع وتنجح ويمارس أصحابها كل هذا القمع بالجرأة التي يشاهدها العالم لولا المال الخليجي والتواطؤ الأوروبي والغربي. الذين وقفوا ضد التيار فئتان، واحدة تخشى وصول العدوى إليها، وأخرى تخشى تغيير الوضع القائم، برغم كل مساوئه، بداعي احتمال انتشار الاضطرابات والإرهاب. الخوف من العدوى دفع دولا عربية خليجية إلى إنفاق موارد هائلة والتفرغ كليا لمواجهة رياح التغيير. والخوف من المجهول دفع أغلب الحكومات الغربية إلى غض الطرف عن الانقلابات المتتالية. في أحيان أخرى كانت الحكومات الغربية شريكة في الفظاعات المرتكبة بحق شعوب عربية لحظة حدوثها. وفي أحيان أخرى كانت شريكة فيها بأثر رجعي، أو لاحقا من خلال إرسال طوق نجاة لأنظمة انقلابية لا خير يؤمل منها بدليل الوحل الذي سقطت فيه الدول التي شهدت انقلابات خلال العقد الماضي. من المؤسف أن مستقبل الانقلابات العربية يبدو مشرقا لا يضاهيه إلا ليل ضحاياها في ظلمته.
كاتب صحافي جزائري
تحياتي لك أستاذ توفيق، وشكرا على المقال أكثر من رائع
انت لم تذكر انقلاب الجنرالات الجزاؤريين على ارادة الشعب!!!! عندما اختاروا جبهة الانقاذ الممثل الشرعي للشعب و قتلوا الالاف من الجزاءريين و بوضياف
مقال جميل
المشكلة هي أن الانظمة الحاكمة في الوطن العربي منتهية الصلاحية و لم و لن تقدم أي شيء للمواطن
ستضل الهزات تتواصل و تتقارب منذرة بالانفجار الكبير
عندما تقوم النخب الزاعمة في نفسها رشادا و ديمقراطية بالتخلص من الولاء للأجندات المخابراتية الغربية و تخلص عملها فعلا لشعوبها دون تقية لن يجد المستبدون مكانا تحت الشمس
الانظمة الاستبدادية تقوم بفرض سيطرتهاا على الشبكة العنكوبتية بحجب كل المواقع التى لا تتناسب مع رؤيتها وهذا بشراء تطبيقات من الدول المتطورة لغلق مساحات الحرية.
و لكن سياتى اليوم الذي سبنهار فيه النظام الديكتاتوري العربي كما انهار النظام الشيوعي وهذا يوم يكتمل نضج المجتمعات العربية .