تفردت تونس إيجابا، عبر تاريخها أكثر من مرة: وهي تحارب العبودية -1846- وهي تكتب أول دستور في المنطقة 1861، وهي تحرر المرأة، وهي تقوم بثورتها الأولى في مسار الربيع العربي المتعثر حتى الآن. محطات تاريخية استفادت فيها تونس مما يميزها، من صغر حجم جغرافي، وديموغرافي، وتجانس ثقافي واجتماعي كبير يؤهلها موضوعيا إلى عدم السقوط في فخ الانقسامات العمودية القاتلة، مقارنة بمحيطها المغاربي، العربي والافريقي. فهل ستتفرد هذه المرة كذلك وهي تقوم بهذا «البتاع « الذي يشبه الانقلاب لكنه ليس انقلابا؟
البقاء على مستوى النقاش الدستوري والقانوني لن يفيدنا كثيرا في فهم هذا «البتاع» الذي حصل في تونس فالدستور حمّال أوجه، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنطقتنا التي لم يتكرس فيها القانون والدستور، ولم يتشرب للتحول إلى سلوكات فردية وجماعية ومؤسساتية مقبولة ومتفق عليها، منطقة ما زال فيها، تحت سطوة النخب السياسية والأكاديمية، الذي تقوله هو ما تريده خدمة لمصالحها.
على العكس فإن العودة إلى المستوى السوسيو – سياسي، من نخب وعقائد، يمكن أن يساعدنا على فهم هذا «البتاع «الذي حصل الأسبوع الماضي والذي ما زال قابلا للتطور في كل الاتجاهات، بما فيها الأكثر سلبية. ولنبدأ بمسألة النخب التي أعتبرها مهمة ومفسرة كثيرا لما يحدث هذه الأيام، فقد ابتليت تونس بنخب مؤدلجة لحد التخمة، بصراعات السبعينيات والثمانينيات، نخب لا تريد أن تغادر مربعات الصراعات الايديولوجية والسياسية التي عرفها البلد في سبعينيات القرن الماضي داخل الحركة الطلابية في عز الصراع الايديولوجي الذي شهده العالم بدرجات متفاوتة، نخب ما زالت تصر على الكلام عن «الخوانجي» وهي تتحدث عن المناضل النهضوي.
ترشح الغنوشي لقيادة البرلمان في هذه المرحلة الحساسة والإطار الدستوري الجديد ليس من الحكمة في شيء
النخب تلك تشكلت على دفعات – كان آخرها من أبناء المناطق الداخلية المحرومة (الغرب والجنوب) – بعد الثورة، الذين عبروا عن مستوى تلهف كبير للسلطة، دون قدرات فعلية على الفعل السياسي، يكون في مستوى التحديات المطلوبة، نخب سياسية بدت وكأنها طارئة على العمل السياسي ومؤسساته، فلم تقبل من قبل الأجزاء الأخرى المكونة للنخبة الأقدم حضورا داخل مؤسسات الدولة من أبناء مدن الشمال والساحل التي رفضت هذا الذي تعتبره اقتحاما للمؤسسات، من قبل نخب طارئة، كما يظهر من خلال حالة البرلمان وحتى قصر قرطاج الذي لم يقبل فيه المرزوقي ولا قيس سعيّد، قبل خرجته الأخيرة ولا الغنوشي الحامي، رغم قناعتي بأن ترشح الغنوشي لقيادة البرلمان، في هذه المرحلة الحساسة والإطار الدستوري الجديد، ليس من الحكمة في شيء، وأن إصراره على البقاء في هذا المنصب، وهو في هذا السن والحالة الصحية وبهذه الحمولة الايديولوجية التي يمثلها، كان خطأ فادحا، تكرر من خلاله تجربة بورقيبة الإنسان دون حسنات بورقيبة – الفكرة والكاريزما. على الرغم من الدور الإيجابي الذي قام به الرجل، في المرحلة الأولى للثورة وهو ينازل القيادة التونسية القديمة التي مثلها السبسي وأبناء جيله الذين عرف كيف يصل معهم إلى نقاط لقاء وتوازنات، فشل في إنجازها مع أبناء هذا الجيل الجديد المتشبع لحد التخمة، بمحنة الصراع الايديولوجي العدمي.
باختصار نخب لم تستفد من التجانس الثقافي والاجتماعي لمجتمعها، بل العكس تماما، فقد فرضت على المجتمع التونسي ونظامه السياسي عدم تجانسها هي، من كل نوع، الفكري والأيديولوجي والجغرافي وحتى الجيلي. قامت بتضخيمه وإعطائه أبعادا صفرية، بعد وصولها لمؤسسات الدولة المركزية في هذا الظرف الحساس جعل المواطن التونسي ينفر من كل العملية السياسية المشوهة التي تقدمها له وسائل الإعلام يوميا، أسفرت، كما هو واضح على الساحة السياسية والإعلامية، عن بروز توجهات شعبوية قاتلة لدى الجمهور العريض في هذا الظرف المضطرب.
نخب بهذه المواصفات لم تفلت تماما من براثن اللعبة الإقليمية والدولية والتنمر على بعضها البعض، بواسطة المال الخليجي وإعلامه الحاضر بقوة إذ تمكن حتى الآن من إبعاد الإعلام التونسي على الأقل في جانب مخاطبة العالم الخارجي. فإذا أضفنا إلى ذلك ما يروج من فساد مالي مرتبط بالعملية الانتخابية فإن هذه النخب تكون قد ألغت تماما ما كان يعتبر نقاط قوة داخل الحالة التونسية، التي ذكرنا بعضها في بداية حديثنا، بما فيها صغر حجم تونس الديموغرافي والجغرافي الذي أبعدها عن لعبة الاستقطابات الدولية والإقليمية.
تونس التي تبقى رغم ذلك في حاجة إلى دعم دولي مالي واقتصادي لم تحصل عليه حتى الآن بالقدر الكافي ضاع جزء منه في دواليب الفساد الذي لم تتمكن الثورة من القضاء عليه أو حتى التقليل منه. بعد أكثر من عشر سنوات سقط جزء مهم منه بين أيدي هذه النخب الفقيرة التي وصلت إلى السلطة بعد الثورة، زيادة على ما تمكنت النخب القديمة من نهبه كعادتها وهي التي لم تتأثر كثيرا كقوى اجتماعية ومصالح من هذه الثورة غير المزعجة التي يراد لها التوقف في نصف الطريق، بل والانتكاسة كآخر حلقة في مشروع الربيع العربي المتعثر.
ما يمكن أن تتوصل له النخبة التونسية في الأيام القليلة المقبلة من توافق ما زال مطلوبا بقوة، كفيل بتوضيح الاتجاه الذي ستأخذه الأحداث في هذا البلد، رغم ضغط عامل الزمن القصير الذي حشر قيس سعيّد نفسه فيه، هو ابن هذه النخبة المأزومة، الذي وصل فيها إلى قصر قرطاج في ظروف استثنائية لم تساعده على التحكم في قواعد اللعبة السياسية التي يجهل حولها الكثير بتجربته السياسية المتواضعة التي كانت لصالحه حتى الآن في عيون المواطن، لكنها قد تنقلب ضده وهو يقوم بتسيير شؤون الدولة بقلة التجربة التي برزت بشكل واضح في مشروعه الإصلاحي، بالضبابية التي ميزته.
قيس سعيّد الذي يعرف – هو رجل القانون – أكثر من غيره. لقد تقول شكليا على الدستور بأكثر مما يحتمل وفرض عليه مخرجات لا تحظى بالقبول حتى بين مؤيديه والمدافعين عنه، رغم ما وجده من تأييد شعبي حتى الآن عبرت عنه استطلاعات الرأي والكثير من مظاهر التأييد الأخرى. في هذه المحطة السياسية التي تخبرنا أن مصير تونس قد يكون مرتبط بهذا الرئيس الغامض الذي لا يعرف عنه التوانسة الكثير، من الناحية السياسية، كانت تونس تستأهل أحسن منه بكل تأكيد وهي تعيش أزمة سياسية عميقة أوصلتها إليها نخبة سياسية مأزومة.
كاتب كاتب جزائري
لنفترض أن الغنوشي ليس صالحا للعمل السياسي، فهل يسوغ ذلك أن ينقلب البتاع على الديمقراطية؟ هل يجوز أن تنشأ تمرد تونسية، وامرأة طروبا تنتهز فرصة الطيبة والتسامح من جانب النهضة لتشيع الاضطراب والقلق، وتهيئ مع الرفاق الكارهين لكل ما هو إسلام ولو مثل الأغلبية، انقلابا عسكريا يرعاه الأعراب وباريس وموسكو؟ يا مثبت العقل والدين!
إذا كان ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد انقلابا، فهو خير بكثير من الأسلوب الجزائري، “انقلاب” الرئيس الشرعي لتونس له من الشرعية والوجاهة ما يطمئن الأغلبية المطلقة من التونسيين. أما في الجزائر، فلا الرئيس شرعيا ولا الحكام الفعليون لهم نصيب من المصداقؤة، أما أسلوب انقلاباتهم فمعروف لدى القاصرين كما الراشدين، فإما الإقالة أو الاغتيال، والحكام الفعليون ممسكون بزمام الأمور سياسة واقتصادا وأمنا وإعلاما واضطهادا و.. إرهابا، والكاتب المحترم أدرى ولا شك.
شكرًا أخي ناصر جابي. في الحقيقة أتفق معك في معظم نقاط المقال لكن لم أفهم لماذا ليس من الحكمة ترشيح الغنوشي رئيسًا البرلمان. أنا أعتقد أنه يناسب أكثر من غيره، لكن النخبة السياسية لم تكن ناضجة بما فيها الرئيس قيس سعيد كما جاء برضوح في المقال.