الانهيار الدائم للنخبة الجزائرية

الوضع العام في الجزائر يأخذ طريقه النهائي إلى الانهيار، وأن الخطاب السياسي المائع هو الذي يحاول دائما أن يكرس أن الحالة تتحسن. ففي موضوع السَّكن، وهو أفضل وأعظم ما تستطيع أن تتباهى به السلطة حيال المجتمع، يظهر لمن يحسن التفكير، في التحليل النهائي والمطاف الأخير، أن خزينة الدولة تُرْهق وتُفلس بسبب السياسة السُّكانية التي اعتمدتها الدولة لأن نسبة كبيرة من اعتمادات المالية الخاصة بالسكن تذهب إلى جيوب وحسابات مقاولين مزيَّفين، أدخلتهم سلطة العصابة على خط النهب المنظم للموارد المالية للدولة، خاصة المتأتية من النفط.
غير أن الأمر لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل يظهر أيضا في انهيار النخبة التي تعتقد أنها مثقفة ولكنها في المسار النهائي هي مدرجة أو مبرمجة في خطة الجيش الذي سبق له وأن صادر الحياة العامة في الجزائر عندما أقسم يمينا غليظة أن لا تظهر أي سلطة توازيها أو تتجاوزها، سواء أكانت معارضة سياسية أو نخبة مثقفة. فقد سبق لقيادة الأركان أن انقلبت على إرادة الشعب سنة 1992، وأقحمت بعض المثقفين من الكُتَّاب والصَّحافيين والأسَاتذة الجامعيين في لَوْلب الدِّفاع عنهم ضد خطر الإسلاميين الذين فازوا في أول تجربة ديمقراطية في تاريخ الجزائر والجزائريين. ومنذ ذلك الوقت، فَقَدَت النخبة الجزائرية، أو تلك التي كانت تنظر إلى نفسها نخبة، شرفها السياسي والأخلاقي الذي يوفر لها إمكانية الالتقاء لاحقا مع طبيعتها النخبوية، أي سلطة ثقافية مستقلة بذاتها وتعمل لذاتها، بعيد عن بقية السُّلط الأخرى في الدولة والمجتمع.
قيادة الأركان التي أقدمت على فعل الانقلاب على إرادة الشعب، يناير/ كانون الثاني 1992، هي التي صَادَرت في التّو والحَال مستقبل الحياة السياسية والثقافية لصالح المضاربات التجارية والمالية وتأسيس لدولة العصابة وترسيمها كنظام حكم وطني للجزائر. وعليه، فالحديث عن النخب الجزائرية هو حديث افتراضي لا يوجد ما يعادله على مستوى الواقع، لأن قيادة الأركان كنواة صلبة ومرجع أخير للسلطة الجزائرية آلت على نفسها إعدام إمكانية أن يشكل المثقف سلطته، أو أن تصل المعارضة السياسية إلى سدّة الحكم، وهو الذي لايزال مستمرا لحد الآن.

فَقَدَت النخبة الجزائرية، أو تلك التي كانت تنظر إلى نفسها نخبة، شرفها السياسي والأخلاقي الذي يوفر لها إمكانية الالتقاء لاحقا مع طبيعتها النخبوية، أي سلطة ثقافية مستقلة بذاتها وتعمل لذاتها

ولعلّ الوعي بهذه الحقيقة هو الذي جعل من توسَّموا في أنفسهم، زورا أنهم مثقفون، يهرولون للاصطفاف في طابور «يمكن أن تكون وزيرا». كان بالأحرى أن تنجو النخبة الجزائرية المثقفة بنفسها وتتعالى على نتائج الانتخابات التي راحت لصالح التيار الإسلامي، وتصبر على ذلك، وتعتبره، «نكوص خصب»، أي التعامل مع الواقعة الإسلامية بإيجابية من أجل أن تمر ويَبْهت وَهْجها داخل مؤسسات الدولة وليس التعامل معها كخطاب معارض دائم، وهو ما حاولت بجدية تكريسه قيادة الأركان مع جناح الإستئصاليين من الكتَّاب والصَّحافيين والأساتذة الجامعيين، فضلا عن رجال الأعمال والقضاء وكبار الموظفين.
فَمَا تلا مباشرة الانقلاب هو الضريبة الفادحة التي دفعتها النخبة المثقفة عندما شَمَلها لولب الاغتيالات العشوائية والإنتقام المجاني والقتل على الهوية، إسلامي، استئصالي، بربري، عروبي، فرانكوفوني، جبهوي، كل الغثاء صعد إلى السطح بسبب تصرف أرعن أقدمت عليه قيادة الأركان في أمر يفترض أنه لا يعنيها لأنه من طبيعة سياسية وليس عسكرية. في ظل هذا السياق الفاسد ضاعت النخبة وفقدت كافة الخيوط التي يمكن أن توصلها إلى نخبويتها، أي أنها عجزت عجزا كاملا ومطلقا في التواصل على هدى من الثقافة المدنية والفكر السياسي الراشد إلى تأسيس سلطتها ومن ثم تحقيق نخبويتها التي لا يطالها مسًّا لا من سلطة العسكر ولا من سلطة النظام السياسي. وهكذا، فقد أخفق المثقفون، بسبب خطيئتهم الأصلية، الانضواء تحت حكم العسكر، في شحذ الشعور بالإنتماء إلى النخبة، الملاذ النهائي لتكريس سلطة المثقف، كما تُعَرّفها القواميس الحديثة. إن الفراغ السياسي الذي أحدثه الجيش، منذ ذلك الإنقلاب البغيض في حياة الجزائر والجزائريين، هو الذي حدا بأشباه المتعلمين والفكر الهزيل إلى النكوص والتراجع والتوجه إلى حيث الغنائم السهلة والكسب السريع لا يصدهم صاد ولا تَحول بينهم وبين الغنائم أية قوة الا قوة الجيش التي انبطحوا عندها كَخدَم وزبانِية وأوغاد. العودة إلى الفعل الإنقلابي الشنيع الذي ضرب الدولة في ما تقوم عليه من مؤسسات، تذكير بجذر المأساة التي يعيشها المثقف، وأن خروج من هذه الشَّرنقة، يجب التحرر من سلطة العسكر والتوجه فورا إلى تعديل «كروموسومات» النواة الصلبة التي تتحكم في الدولة والمجتمع. فلا بد من تحرير السياسة وإطلاق صراح المثقف الحر من أجل أن يمارس دوره الذي توحي به وتلزمه السلطة الثقافية.
الحقيقة، إن انخراط بعض الجزائريين في البحث عن المسؤوليات، على تكلفتها الباهظة، ليس استجابة لواجبات الدولة ومؤسساتها بقدر ما هو انخراط في حرب أهلية لا تتم بالسلاح هذه المرة، لكنها افترضت منطق معاداة فرنسا وأعوانها في الجزائر، مستعينة بخطاب شعبوي متهالك يعود إلى سنوات الثورة التحريرية حيث خاض الشعب حربه كشعب وليس كجيش نظامي. واليوم، على ما نلحظ ونرى، فإن أشباه النخبة، يخوضون معارك بالنيابة عن الجيش في مواقع ليست مواقعهم بل أخطر انتصارات يحققها الجيش على وجه الإطلاق، تُتَوّج في النهاية بأقواس الهزيمة وأكاليل من العار. فالحرب الأهلية التي أضرمها الجيش ضد العصابة المسجونة لا تعني إطلاقا الدولة كمؤسسات وهيئات وشرعية وطنية ودولية، بل سلطة ضد الدولة، يساهم فيها بشكل سافر المثقف الذي أعياه طموحه إلى أن ينتمي إلى فئة النخبة، ففضل الإرتكاس على ما بقي من شرف المهنة، وانْخَرَط فظا غليظا، يقامر في مجال لا يعنيه لأنه ليس من «الخاصة العسكرية».
إن الإثم الذي بقي يلازم المثقف الجزائري، هو أنه لم يراجع نفسه، ولا يبدو أنه سيفعل ذلك، لكي يتمكن من تقدير منسوب الإنسانية فيه ودرجة النزاهة الأخلاقية ومستوى الوعي السياسي والفكري. كما أن هذا المثقف، الذي أعياه الزَّيف وخِداع النَّفس استسلم لقوة الجيش وانزاح عن مكانته الشرعية التي يستطيع بها أن يحقق ذاته وسلطته ومكانته، ونقصد الثقافة والاشتغال بالفكر على القضايا الفكرية. الثقافة حق المثقف، ويجب أن يعمل على استعادتها من السلطة العسكرية، كما فعلت الحركة الإصلاحية زمن الاحتلال الفرنسي. فأصل الإستقلال، كل الإستقلال، جاء من جهد رجال الإصلاح الذين نجحوا في استعادة الدين واللغة العربية من صلب السلطة الاستعمارية ونظامها الظالم.

كاتب وأكاديمي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور لبوز دردوري:

    كل جيوش العالم تمتلك نخب, ربما في بعض الاحيان احسن من غيرها خارج الجيش
    ان الابداع يا صديقي: لن يحدث بدماء باردة

    1. يقول younes:

      ..بل كل الدول المحترمة.وأكرر المحترمة..تملك النخب والأمخاخ..الا الأعراب .أقصد الحكام العرب وجيوشهم .يملكون النخم..النخمة..أكرمكم الله…والنخمة كلنا نتقزز منها …

    2. يقول zakaria belouaar:

      في الجزائر لا نخبة ولا هم يحزنون انها سياسة التصحر لقد اتو على الأخضر واليابس

  2. يقول ابعمران:

    أصبت أخي هذه النخب هي التي أضاعت مصر وليبيا وكل العالم العربي ،هم فقط أدوات تتحكم فيها السلطة المتحكمة أو هي تابعة الأجندة خارجية

  3. يقول محمودDZ:

    بارك الله فیك أستاذ علی المقال الجید. 3 أوت 1962 کان خطاب للرٸيس الحکومة المٶقتة السید بن یوسف بن خذة یحذر فیه من سرقة تضحیات الشعب الجزاٸري علی ید الضباط الذین لم یشارکوا فی الثورة و کانوا معسکرين في جیش الحدود, کان یحذر من سرقة الثورة نعم سیدي مشاکل الجزاٸريين بداءت من هذا الیوم المشٶم

  4. يقول أ.د/ غضبان مبروك:

    لاشك أن هناك فئية عريضة من الانتهازيين والمتملقين الذي ينسبون أنفسهم الى النخبة المثقفة. وهي شكلا كذلك ولكن موضوعا وعملا وممارسة هي مع مصالحها الضيقة وتخدع السلطة التيتعرف ذلك ولكن تتركهم حيث مطافهم النهائي. يا أستاذ هذا لايعني ظلم البقية الباقية من صفوة المثقفيين الذين يتأملون من الوضع ويأملون أن يتغيرالى الأحسن
    نعم النظام نجح الى حد بعيد في تدجين هذه الفئية الضعيفة ويريد أن يحتوي ما بقي من المثقفين الأحرار بالفئة المدجنة الا أنه لن ينجح فيذلك. فابن الأصول هو ابن الأصول ورجل القيم يبقى كذلك وأحسب أنك واحد من هؤلاء الرجال الذين سيتكاثرون في يوم ما لأن القاعدة أن النقود الجيدة تطرد النقود الردئة.

إشترك في قائمتنا البريدية