لم يمهل العمر الباجي قايد السبسي أشهراً إضافية حتى الإنتخابات الرئاسية المقرّرة هذا الخريف. كان لا يزال يمنّي النفس بخوضها قبل أشهر قليلة، ثم عزف عن ذلك مع تدهور صحته المتسارع. ومن أواخر حزيران إلى وفاته بالأمس، لمس التونسيّون فداحة عجز الرئيس عن ممارسة مهامه ومن ثم شغور المنصب الأوّل في الدولة بغيابه، في وقت لم تتشكّل فيه المحكمة الدستورية المعطّل قيامها منذ سنوات، والذي يحرم امتناع تشكلها التجربة الدستورية الديمقراطية التونسية من استكمال مؤسساتها ومدّها بأسباب المناعة، وما من شأنه وضع “المرحلة الإنتقالية” قصرت أم طالت، أمام كثير من الهواجس والمطاعن.
يرحل الباجي قايد السبسي بعد أن أتاحت له التجربة السياسية الحافلة والمتراكمة، شيئاً من محاكاة هالة “المجاهد الأكبر” الحبيب بورقيبة، بل أنّ السبسي تعامل مع وصوله إلى سدّة الرئاسة عام 2014 على أنّها “رجعة” الحبيب، وعلى أنّه بمثابة “آفاتار”، أو شخصية جديدة للحبيب بورقيبة.
لقد استطاع السبسي أن يحوّل على الصعيد الرمزي، إلى واقع، ما سبق له أن أنهى به كتابه عن بورقيبة حين قال: “عندما يفعل الزمن فعله، وعندما ينقّى البرّ من الزؤان ويفرز الغث من السمين، ويحل التاريخ محل راهن الأحداث، سوف يخرج الحبيب بورقيبة من جحيمه، ويعود تمثال الفارس التونسي الأكثر مجداً ليتبوأ مكانه في تونس في شارع الحبيب بورقيبة قبالة عبد الرحمن ابن خلدون عالم الإجتماع التونسي الألمع عبر العصور”.
لا يعني ذلك أن السبسي كان ظلا دائماً لبورقيبة. وفي الأساس، كان سبيله إلى حظوة “المجاهد الأكبر” الصداقة التي انعقدت، أثناء سني دراسته الحقوقية في باريس، مع “جان” الحبيب بورقيبة الإبن، أو “بيبي”، إبن بورقيبة الوحيد من زوجته الأولى الفرنسية “ماتيلد” التي صار اسمها فيما بعد “مفيدة”. ولئن كان، من جملة ما يؤخذ على بورقيبة، إتهامه بالسعي لتوريث نجله، الذي شغل منصبي وزير العدل والخارجية ذات يوم ثم عمل مستشاراً لوالده، كما إتهام زوجته الثانية وسيلة بن عمار بالتحكّم بالقصر، فإنّ الباجي قائد السبسي لن ينجو هو الآخر من تهمة “تبييت” النيّة للتوريث، بمعية السيدة الأولى شاذلية سعيدة فرحات، ونجله حافظ السبسي، مع أنّ هناك أسباب قوية للاعتقاد بأنّ هذه “النغمة التوريثية” عازها الوقت الكافي، وتفتقد للظروف المساعدة لها.
إنها لمفارقة غير تفصيلية أن يكون المكسب الوحيد الممتد في الزمن للربيع العربي على مستوى رئاسة دولة في العالم العربي هو ذلك المعمّر، الذي عمل وزيراً للداخلية مرة، ووزيراً للدفاع مرة، في نظام الحزب الواحد والقائد الأوحد. وقد يرطّب من هذه المفارقة اقتناع السبسي منذ أواخر السبعينيات بأنّ التقليد التحديثي الدستوري الجمهوري في تونس، لم يعد قادراً على التعكيز على شخصية وأفكار وأسلوب المخاطبة عند بورقيبة لوحده، ويحتاج إلى نقلة نوعية بإتجاه “بورقيبية ما بعد بورقيبية”، أي بإتجاه التعددية السياسية وتداول السلطة.
من رمز للمسار الأمني في البورقيبية إلى الانشقاق الليبرالي عنها، فالتوبة اليها مجدداً، فالتواطؤ مع “تحول” بن علي، فالابتعاد عنه والنفور منه سريعاً، وبعث “النوستالجيا البورقيبية” من جديد في فترة ما بعد رحيل المجاهد الأكبر.
أقرّ السبسي لاحقاً أنّه كان في البدء مقتنعاً تماماً بجدوى الحزب الأحادي، الحزب الدولة، بل الحزب الأمة، كون مسميات “الحر الدستوري” و”الدستوري الجديد” و”الدستوري الاشتراكي” و”الدستوري الديموقراطي” أشبه ما تكون إلى تحقيبات لجسم جماعي واحد برأس واحد. ثم حدثت الخلخلة في هذه القناعة لاحقاً، وتحديداً ما ان بدأت تطرح مسألة “من يخلف بورقيبة”. في أواخر السبعينيات مال السبسي الى المنشقين “الديموقراطيين الإشتراكيين” عن الحزب الحاكم، لكن “غريزته الدواوينية” أعادته وزيراً ثم استبعد، ثم انخرط في الترسيمة التي هندسها زين العابدين بن علي بعد الانقلاب “الطبي” على بورقيبة، ورأس البرلمان، ثم أخذ “يدوزن” حالات مختلفة من العزلة والاعتراض إلى أن أعادت ظروف “الوضع الثوري” السبسي إلى الواجهة، وهو أعيد تحديداً لأنّ فيه إيحاء ما بأنّه “آفاتار” لبورقيبة… بأن بورقيبة الذي لن يعود، لم يمت مع ذلك بعد.
هذا “الشيء من بورقيبة” استثمره السبسي، انما باستيعاب أساسي لأهمية التداول على السلطة، ولإمكانية أن تغتني تونس بالثنائية الحزبية بين قطب يميل إلى العلمانية وآخر يميل إلى المحافظة الإسلامية، شرط التأسيس للعبة ديموقراطية محكومة بقالب دستوري واضح ومتين. وهكذا برز السبسي بين الجمهوريين والعلمانيين على أنه الأكثر استيعاباً للندّ الإسلاميّ، وباحثاً عن عقد تفاهمات أساسية معه، وعلى تثمين استراتيجية التسوية الشاملة بين الجمهوريين والإسلاميين، وجاءت الخبرة الاستيعابية في المقلب الآخر، مع طروحات الشيخ راشد الغنوشي لتلاقي توجهات السبسي في هذا المضمار. لم يفرّط السبسي بقناعاته العلمانية والجمهورية بإزاء الإسلاميين، لكنه لم يكن “استئصالياً” أبداً في العلاقة معهم، وإن ظلّ مهتماً بترسيخ فصل واضح بين الإسلاميين المنخرطين في درب الدستور والدمقرطة وبين الإسلاميين المستمرين في منطقة رمادية بين هذا وبين التشدّد والإنغلاق.
والسبسي، الذي كثيراً ما شدّد على تراث مجلة الأحوال الشخصية ومجمل المكتسبات التي انتزعتها المرأة في الحقبة البورقيبية، لم يتردّد في الوقت ذاته في محاولة الذهاب أبعد من بورقيبة، حين دعا الى سنّ المساواة في الإرث بين الجنسين، مشدّداً على أن المرجعية هي “دستور الدولة، ونحن في دولة مدنية، والقول بأن مرجعية الدولة التونسية مرجعية دينية خطأ فاحش”. وذهب السبسي الى انه “من يريد تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية في توزيع الإرث بين بناته وأبنائه فله ذلك، ومن يريد تطبيق الدستور بحذافيره فله ذلك أيضاً”.
من وزير داخلية في الستينيات إلى رئيس جمهورية منتخب ديموقراطياً حتى وفاته. من رمز للمسار الأمني في البورقيبية إلى الانشقاق الليبرالي عنها، فالتوبة اليها مجدداً، فالتواطؤ مع “تحول” بن علي، فالابتعاد عنه والنفور منه سريعاً، وبعث “النوستالجيا البورقيبية” من جديد في فترة ما بعد رحيل المجاهد الأكبر. ومن تدوين الذكريات إلى العودة للتاريخ، من بوابة الثورات، هو الذي لم تكن له أي علاقة حميمية بمفهوم الثورات، هو الأقرب في حياته إلى حركة مدّ وجزر بين المؤسسة الحاكمة والإنشقاق عنها ثم العودة إليها، وفي كل مرّة مع هاجس تحديثي اضافي، وخبرة استيعابية أكثر للخصوم، وتفهم أكبر لأهمية التعددية والتداول على السلطة… والأهم، أعطى الباجي قائد السبسي الانطباع، كما لو أنّه ما بين حكم الحبيب بورقيبة وانتخابه لم تكن هناك سوى مرحلة انتقالية عارضة شغّلها بن علي… مع هذا، هل الاختلاف جذريّ بين “تجمع” بن علي وبين حزب السبسي “نداء تونس”. نعم أم لا؟ سيختلف التونسيون في القول. المهم أن يعرفوا كيفية الاحتكام، في وقت معقول، إلى صناديق الاقتراع مجدّداً.