في أيلول/سبتمبر 2008 وعندما كانت في ستوديو كيروين ـ تشيلفورد – قرب كامبريدج المركز المتخصص في طباعة الأعمال الفنية (الليتوغرافي) تحدّثتْ البرتغالية البريطانية باولا ريغو إلى مندوب متحف تيت/ لندن: « يجب أن تثق باللوحة التي ترسمها، لأن ما تعكسه هو بالفعل ما في داخلكَ أو الشيء الذي تخاف منه أو تحبه، ستخبركَ اللوحة مَن أنتَ ببساطة..».
بهذه الكلمات الواضحة، تسرد باولا ريغو واقعيتها السحرية، التي مزجت فيها شخصيات وقصص حقيقية بإكريليكها الخاص على القماش، لتُصَرِّحَ بذلك أمام منصات العالم، وترفع الغطاء عن الألاعيب السياسية بتجديد وتفسير، بل في تبرير أو تمرير قوانينه.
في بعض الأحيان، تتوتر أصابعها وهي تمزج الإكريليك، لتكتشف تلكَ الِفطرة التي تتوق لحفظ حقوق الإيماءة، ما تلبث بعدها أن تشرح ما يعتمل في الذاكرة القوية، التي لم تعد تحتمل أيضاً. إنها كطير يعرف جيداً مكان شجرته التي قُطِعَتْ، ترسم بعينين مفتوحتين على الطفولة، بطون الحكايات الشعبية، وفي أبنيةٍ تمرُّ بها الشمس مُصادَفَةً. ولأنَّ يد الفنان كفيلة بنبش داخِلِهِ، فستبدو اللوحة في إخراجها الأخير مشهداً موثّقاً، مختوماً بمخاوفها الأرضية، مشهداً واقعياً حقيقياً، لم يسقط من السماء!
في عدد «نيويورك تايمز» الصادر بتاريخ 07/07/2021 كتبتْ البريطانية إليانور نايرين -المشرفة على معرض باربيكان في لندن- عمّا قالته باولا ريغو في مقابلة إذاعية مع صديقها الشاعر والإعلامي ألبرتو دي لاسيردا- بخصوص الأشكال المتشابكة في (مانيفستو: من أجل قضية ضائعة): أرادت ريغو أن تكونَ الأشكال المتشابكة في لوحتها (الهجينة) هروباً من تاريخ الرسم باعتباره «فَناً رفيعاً» وقد انحنت برأسها فوق عملها لتقول: «وجَدْتُ أنه من المخيف أن أرى الشيء المُعلَّق على الحائط ينظر إليَّ مرة أُخرى!» لقد أخبرَتْ دي لاسيردا كيف أنها استلهمتْ أعمالها من الرسوم الكاريكاتيرية، وتقارير الصحف، وأحداث الشوارع، الأمثال، الأطفال، الأغاني، الرقصات الشعبية والكوابيس والرغبات والمخاوف. وهكذا وجدَتْ صوتها الفني في حكمة الكلمات، في الأغاني، في تَهامُس المجتمعات المحافظة، الشائعات والفولكلور، وفي العبارات الاصطلاحية المتوارثة عبر الأجيال.
منذ وقت بعيد كانت لوحاتها تقول بملء الفم ما لم يستطع الكثير مِنّا كتابته، في السياسة أو في القضايا الاجتماعية كالكلام عن الديكتاتورية أو قوانين الإجهاض المطروحة على طاولة النقاش اليوم، وفي كل المجتمعات. يؤكد ذلك الناقد الفرنسي هاري بيليت في مقاله في «اللوموند» المؤرَّخ في 15/05/2022، حيث كتب (المبعوث الرسمي للصحيفة الفرنسية إلى معرض بيكاسو/ ملقا) عن معرضها هناك وتحت عنوان: «باولا ريغو، الرسم باعتباره طرداً للأرواح الشريرة»: « هذه الفنانة البرتغالية تعاملتْ بشكلٍ مُضنٍ وعنيف، مع عمليات إجهاضها كفتاة عازبةً». السؤال المُلِح هنا: كيف استطاعت باولا ذات الجذور الكاثوليكية خنق آلامها تحت ظلمة اللحاف عازبةً؟ وكم كانت كمية الألم والاضطراب اللذَين عانتهما عندما هددها عشيقها المتزوج بأن يتركها ويعود إلى زوجته إذا لم تتخلص من الجنين؟ «لنبدأ من موقف مبدئي: يجب ألا يكون الرجل قادراً على اتخاذ قرار بشأن حق المرأة في التحكم في جسدها، خاصة في حالة الإجهاض. دعونا نرسل اقتراحاً موجَّهاً باحترام إلى قضاة المحكمة العليا للولايات المتحدة، الذين يناقشون القضية حالياً: «يرجى زيارة معرض باولا ريغو في متحف بيكاسو/ ملقا 2022!» يجيب هاري بيليت.
بعد عدة محاولات استغرقت عدة أعوام، كان لباولا ما أرادت، فقد نجحت بإقناع الفنان البريطاني فيكتور ويلينغ بالزواج منها، بعدما انفصل عن زوجته الأولى، ما لبثت بعدها أن حَمَلَتْ بابنتهما فيكتوريا، لتعود إلى لشبونة محاولةً تفريغ آلامها في لوحاتها، التي تُظهر علاقتها بوالد طفليها، الذي توفي في سن الستين بعد إصابته بمرض التصلُّب المتعدد Multiple sclerosis (MS) (أحد أمراض المناعة الذاتية، الذي يهاجم فيه الجهاز المناعي الجسم ويدمر أنسجته). وكأن الناقد الفرنسي يحاول لفت عناية المحاكم إلى حجم الألم التي تتعرض له كل من المرأة العازبة والمتزوجة، عندما تُسَنُّ القوانين ويبَرَّرُ حكم المحكمة تحت غطاء «المتوارَث» كلَّ تلك الأعباء ذات الصبغة المحافِظة.
تتحدث كريستينا كينيدي أمينة المتحف الوطني الإيرلندي السابقة، والمشرفة على متحف بيكاسو في ملقا عن الواقعية السحرية في أعمال باولا ريغو: «في الكثير من أعمالها تتعاطف باولا مع المرأة القوية فتظهر في لوحتها – التي أنجزتها سنة -1988- بعضلات رجل، حاملةً سيفها بيمينها متحديةً وعنيدة» كما ترسم في مجموعة لوحاتها (بيللو مان) شاباً يتقدم لخطبة فتاة مختبئاً خلف كرسي والدته، العمل الذي كان ردة فعل على هزيمتها عدة مرات في معركة الإجهاض.
اعتباراً من عام 1960 رسمت باولا لوحاتها التجريدية لتُعَبِّر عن موقفها السياسي من الديكتاتورية والحرب الاستعمارية في أنغولا فرسمت لوحةً أقرب ما تكون لموتيف سيريالي ساخر، مضحكٌ ومقززٌ في آن، في تحدٍّ للنظام العسكري آنذاك، لتجعلنا نرى لوحتها الشهيرة «سالازار يتقيّأ الوطن».
أثناء تأمُّل الموتيف وبقليل من التركيز ترى العين شكلاً هلاميّاً لمخلوق غريب يتقيأ في جهتين متناظرتين في الموتيف، في إشارة رمزية إلى الجنرال البرتغالي سالازار. اللافت هنا أن المَعارِض في لندن، كانت قد رفضت عرض ذلك الموتيف على الزوار لأسباب سياسية.
إلا أن أعمالها ذات المدلول السياسي لم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت لتتجاوز حدود وطنها الأم البرتغال والحرب الاستعمارية في أنغولا، فتصل إلى حرب العراق 2003 حيث يبرز عملها الذي يحمل اسم «الحرب» وهو ما اقتبستهُ ريغو من قصص جين إير ولويس كارول «أليس في بلاد العجائب» ومن صورة ظهرت في صحيفة «الغارديان» عندما بدأت حرب العراق، فنرى فتاةً ترتدي فستاناً أبيض وتركض هاربةً من انفجار مع امرأة وطفل خلفها لا يتحركان. تُعَلِّق باولا على تلك اللوحة، أثناء معرضها الذي أقيم في المتحف الوطني للملكة صوفيا عام 2007 بالقول: «اعتقدتُ أنني سأقوم برسم لوحة لهؤلاء الأطفال الذين يتعرضون للأذى، لكنني حوَّلْتُ رؤوسهم إلى رؤوس أرانب، لأنه من الصعب جداً القيام بذلك مع البشر. لقد بدا الأمر أكثر واقعيةً بتحويلهم إلى مخلوقات أخرى!».
في الأيام الأخيرة من حياتها، وبدعوة من متحف بيكاسو/ مَلَقا، عَرَضَت باولا لوحتها «الدمية» التي تم حجزها مباشرةً لعرضها باحترام في الجناح الدولي لبينالي البندقية (حتى 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022) تلك الدمية النشيطة التي تنطق بألوانها، وتمسكها يداها، لتتحركُ معها في (لا توازن) روحها المشاكسة والمضطربة. بهذا التخريب المُتعمَّد للغة تقليد الرسوم الذكورية للتعبير عن المرأة «الدمية» سَتُحرِّرُ جيلاً كاملاً من المشاهدين والفنانين على حد سواء، من خلال رسم جسد الأنثى بشكل غير مثالي. وهو الأسلوب ذاته الذي ظهرت َفيه النسوة في أعمالها السابقة، خصوصاً لوحتها «النعّامة الراقصة» حيث رَقصَتْ نساء بَلَغْنَ منتصف العمر كطيور خرقاء لا تطير، وانهارَ العمالقة من الرجال كأطفال كبار في لوحتها «الرقص» حين عكست أدوار الجنسين في فانتازيا (واقعية) معبِّرةً عن رؤية (كومي ـ تراجيدية) تُعيدُ تخيُّلَ وتحليل وتركيب ما يجري في هذه الأيام عن سعادة السيدات أو الرجال التي تستهلكُ مُشتريها..
تقول باولا الطفلة الوحيدة التي نشأت في عائلة ثرية مناهضة للفاشية، والعاشقة للغة الإنكليزية، بأنها بدأت الرسم في الرابعة من عمرها، بما في ذلك تصوير والدتها العاطفية والقاسية كالملفوف: «في بعض أعمالي عاقبتُ الأشخاص الذين لم أحبهم في الرسم، وكانت تلك متعةً مدى الحياة». حَظِيَتْ باولا الابنة الوحيدة المدللة بتشجيع والدها الليبرالي اللطيف، جَدَّتها، وخَدَم الأسرة، وساعدها أسلوب سرد القصص (المنقول بالتواتر) في التعبير عن مواضيع لوحاتها، ذلك الأسلوب الذي عاش في البرتغال لفترة أطول مما كان عليه في البلدان الصناعية. وبما أن الفن الملتزم غالباً ما يسبق عصره، فقد رسمت من خلال قصصها التصويرية وأرسلت إشارات وتنبيهات للمقبل اجتماعياً وسياسياً، عندما صوَّرت تلميذات متحديات يرتدين الزي العسكري في لوحتها «الإجهاض» (1998).
في مسيرة استمرت سبعةً وثمانين عاماً، باحت لوحات باولا، بموقفها المعادي للإيقاع الممل، مرسلةً تنبيهاتها لوحوش الوقت، متجاهلةً الكثير من الاتجاهات المفاهيمية التقليدية، مُصمَّمةً على العثور على تقويمها الخاص، لتتم الإشادة بها في النهاية وتُعتبَر أعمالها حواراً لاذعاً بين التاريخ والأزمنة المباشرة، لأنها اختلفتْ مع التراث الثقافي للنظام الأبوي، وابتكرتْ خيالاً حيوياً مضاداً للمعايير، وقفزتْ من الصدمة إلى الجمال، لتصعد منذ عدة أيام في صندوقها الخشبي اللامع إلى سماء زرقاء كطائرة ورقية لا تخيف الطيور.
كاتب سوري