البركان المؤجل.. لماذا تسعى الكويت لاغلاق المنفذ الملاحي البحري الوحيد للعراق؟

حجم الخط
0

لا يدري المخلصون في هذا البلد من السياسيين والمثقفين والاساتذة وأصحاب القرار الى أي مشكلة يلتفتون، فهي كثيرة متراكمة في بلدنا الغالي. وكيف يمكنهم وصف الدواء لمعالجة الداء المستحكم الذي تعانيه بلاد وادي الرافدين.
أيعالجون الطائفية التي اطلت برأسها من جديد، او العملية السياسية التي لا تزال بالإنعاش المركز، او الفساد الاداري والسرقة على اعلى المستويات، او تردي الخدمات من ماء وكهرباء وغيرهما، او معالجة مشاكل اقليم كردستان او المظاهرات والاعتصامات المليونية في الكثير من مدن العراق لتسوية مشاكل البطالة وإيجاد حلول مستعجلة للآلاف المؤلفة من المعتقلين والمعتقلات في السجون والانتهاكات التي تمارس ضدهم. لا يمكن ان يتنبأ احد ان كان لبعض تلك الملفات حظ في يوم من الايام ان تدرس دراسة متأنية، ام ستبقى مطروحة على الرف الى ما شاء الله.
كانت الولايات المتحدة الامريكية تلعب بمقدرات المنطقة والعراق بالذات كلاعب الشطرنج يحرك هذا الملك ليأكل ذاك والعكس بالعكس. وأضحت بعد غزوها عام 2003 اللاعب الرئيسي بمنطقة الشرق الاوسط والخليج، لكنها اليوم تئن اثر فشلها في العراق وأفغانستان، واستفحال أزماتها الاقتصادية الداخلية، لذا فهي الان لا ترى الا مصالحها الانية والانانية، وهي تتلون حسب ما تقتضيه المصلحة، من دون أي وازع اخلاقي، فمرة تدعم هذا الفريق ومرة أخرى تساعد الفريق المناهض له. كما ان عصر المنافسة الحرة والصراع الاقتصادي على اشده بين الدول الكبرى التي باتت على اتم الاستعداد لحرق العالم في سبيل اسعاد شعوبها ومصالح شركاتها الكبرى. هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية تكيل بمكيالين، احدهما لها ولدول أوروبا الغربية تمارس فيه الحرية النسبية والديمقراطية وشيء من العدالة الاجتماعية، والآخر خاص بالدول العربية والإسلامية يقضي بإشاعة الفوضى وتقسيم المقسم وتشتيت المشتت. لذا ففي هذا العصر يحق للكويت وغيرها ان تنافس العراق وغيره للحفاظ على مصالحها والعمل لبناء مشاريع مستقبلية لإسعاد شعبها. منها بالطبع مشاريع الموانئ البحرية على سواحلها، لكن المشكلة تكمن في المكان الذي اختارته عنوة بدلا من مئات الاماكن الاخرى.
تطل علينا الكويت أذن في ظل هذه الامواج الهائجة العاتية المتلاطمة لتضيف مشكلة جديدة اخرى، اضافة الى مشاكلنا التاريخية السابقة معها. عندما اختارت بناء ميناء مبارك الكبير المثير للجدل في موقع يغلق المنفذ الملاحي الوحيد للعراق المؤدي الى الموانئ البحرية في خور الزبير. فعلى الرغم من ان الكويت تمتلك ساحلا بحريا يزيد عن الخمسمئة كيلومتر، اختارت بطريقة استفزازية ومتعمدة مكان ذلك الميناء في تلك البقعة بالذات، التي تقف حجر عثرة امام مرور البواخر العراقية.
ان كان ميناء مبارك الكبير قد اثار ازمة بين البلدين قبل عدة أشهر لكنه ليس وليد الثلاث سنوات الماضية، انما كان نتيجة طبيعية لعملية ترسيم الحدود العراقية الكويتية التي جرت في غفلة من التاريخ قبل أكثر من عشرين عاما، وفق القرار الاممي المرقم 687 الموافق للثالث من نيسان/ابريل 1991 الذي انتهك سيادة العراق الداخلية والخارجية، يوم كان العراقيون يعانون من ظلم نظامهم والنظام العالمي الذي لا يرحم احدا، خصوصا الضعفاء. ومع كل ذلك التعتيم الاعلامي انذاك والسيف المسلط على العراق فقد عارضت دول كثيرة، بما فيها الصين ومصر وغيرهما ذلك الترسيم الظالم.
لقد كتبت دراسة عن العلاقات العراقية الكويتية عام 1997 في كتاب تحت عنوان ‘البركان المؤجل’ أوضحت وشرحت فيه كيف تواطأت لجنة الامم المتحدة مع الكويت لترسيم الحدود عام 1993. ومنحت اراضي عراقية على طول الحدود بين البلدين، من التقاء الحدود العراقية السعودية الكويتية مرورا بحقول الرميلة الغنية بالنفط فصفوان وأم قصر، وفقدان القاعدة العسكرية فيها، اضافة الى فقدان مساحات مهمة من المياه الاقليمية من مدخل خور الزبير مرورا بخور عبد الله حتى اعماق الخليج. انها غنيمة لم تكن تحلم بها الكويت في يوم من الايام. وكان من المفترض منها كبلد جار الا توافق على ضم اراض تعلم علم اليقين بأنها تابعة للعراق، لكن نزعة الثأر والانتقام من نظام ظالم غزا اراضيها اعماها عن الركون الى مبدأ العدالة.
بعدما غنمت الكويت اراضي في غاية الاهمية وكان ينبغي منها الا تقبل استلام اي تعويضات مادية منذ عام 1991. ويعلم الجميع من جهة اخرى بأن الكويت كانت حليفة وصديقة وفية للنظام العراقي لعشرات السنين ووهبت له عشرات المليارات من الدولارات. علما بأن المعارضة العراقية انذاك ادانت ذلك الغزو بكل حزم.
ان المتتبع لتأسيس ميناء مبارك يرى أن هذا العمل ينطوي على مخاطر جمة لا تقتصر على غلق الممر الملاحي الدولي لموانئ العراق في خور الزبير، انما على مخاطر جيولوجية جغرافية سنرى نتائجها ضمن المستقبل المنظور. لو نظرنا الى المخاطر الجيولوجية لرأينا ان رأي الاستاذ الدكتور جاسم محمد الخلف في دراسته ‘جغرافية العراق ونظرية ليس وفالكون’ توضح لنا بأن منطقة الجنوب العراقي لا تزال منطقة غير مكتملة التكوين من الناحية الجيولوجية، سواء منطقة الاهوار او شط العرب او رأس الخليج. لأن المياه التي تحملها مياه نهري دجلة والفرات مليئة بالطمي والغرين تترسب في هذه المناطق الثلاث. فتطمر بعض الاهوار او تقلل مساحتها أو تعمل على تغيير مجرى الانهار وقد تسبب في تكوين سدود ترابية في اعماق تلك المجاري، كما يحصل في شط العرب او تزيد في مساحة اراض يابسة جديدة على حساب منطقة رأس الخليج العربي. لكن الغريب في الامر ان هذه التحولات التكوينية لحركة المياه في هذه المنطقة المتجهة عموما من الشمال الى الجنوب تأخذ منحى آخر في منطقة رأس الخليج، حيث يتم تجريف وحفر التربة باتجاه الجنوب الغربي.
وبهذه المناسبة فإن الخطأ التاريخي الذي ارتكبه النظام العراقي السابق اثر توقيعه اتفاقية الجزائر، التي قضت ان يكون ترسيم الحدود في منطقة شط العرب وفق مبدأ خط الثالوك (ومعناه الخط المتصل بين اعمق النقاط لمحور الوادي على طول المجرى المائي للنهر) من التقاء الحدود العراقية الايرانية في شط العرب شمال المحمرة حتى اعماق الخليج. قد يخلق ازمات مستقبلية دائمة، لأن التحولات الجيولوجية لتلك المنطقة تقضي بأن خط الثالوك لن يستقر في مكانه وسيتعرض للزحف على حساب الاراضي العراقية بمرور السنين. أي ان المياه الاقليمية العراقية ستنحصر وسيكون الميناء العميق وميناء خور العمية يوما ما ضمن المياه الاقليمية الايرانية. هذا الامر ينطبق ايضا على منطقة الساحل البحري العراقي المقابل للكويت، لأن خط الثالوك الذي حددته لجنة الامم المتحدة عام 1993 يقع بالقرب من الساحل الكويتي.
من المؤكد أن اللجنة المذكورة على علم بذلك لكنها لم تأبه بالنتائج المستقبلية. فاتخذت قرارا متناقضا يجعل الصراع مستديما ما لم تبادر الكويت ومعها العراق لحله في اقرب الاجال. فاللجنة خططت الحدود وفق مبدأ خط الثالوك القريب من موقع ميناء مبارك الكبير. لكنها بنفس الوقت أقرت حرية الملاحة للبواخر العراقية داخل المياه الاقليمية الكويتية الجديدة من دون حاجة لطلب اذن من الكويت او رفع العلم الكويتي. كما ذكرنا آنفا بأن اتجاه حركة ترسب الطين والغرين وحركة جريان وتجريف المياه نحو السواحل الغربية مما يضع البلدين امام استحقاقات عصيبة عندما سنجد ميناء مبارك الكبير بعد عشرات السنين في وسط خور عبدالله اول الامر ومن ثم سيكون موقعه في يوم من الايام ملاصقا لساحل الفاو العراقي.
لنلاحظ مشهدا من مشاهد آلية تأسيس وعمل واتخاذ القرار لدى لجنة تخطيط الحدود لنتعرف عن مدى الظلم والحيف الذي لحق بالعراق جراء قراراتها. انها سابقة أولى لمعاقبة العراق شعبا وليس نظاما. عندما شكل مجلس الامن اربع لجان، منها لجنة ترسيم الحدود تحت مسمى لجنة الامم المتحدة لتخطيط الحدود العراقية الكويتية. هذه اللجنة مكونة من خمسة اشخاص، ثلاثة اي الاغلبية تعينهم الامم المتحدة، وممثلين من العراق والكويت لتكون قراراتهم بالأغلبية وغير قابلة للاعتراض او الرفض، اي ان اعتراض العراق او حتى الكويت لا يعني شيئا، فالأمور مرتبة مسبقا شأن هذه اللجنة التي يعتقد البعض لأول وهلة بأنها لجنة مسؤولة حيادية فنية قانونية، لكن الحقيقة هي غير ذلك تماما كما كانت تخطط بريطانيا الحدود لمحمياتها ومستعمراتها في القرنين الماضيين. قدمت لجنة ترسيم الحدود تقريرها الى مجلس الامن الذي وافق عليه تحت القرار المرقم 833 بتاريخ السابع والعشرين من ايار/ مايو 1993. هذا الترسيم لا يختلف كثيرا عن تخطيط برسي كوكس المندوب السامي البريطاني للحدود بين العراق والكويت ونجد، في بداية عشرينيات القرن الماضي. كانت قراراته ارتجالية انتقامية مصلحية كقرارات لجنة الامم المتحدة لترسيم الحدود. فقد كان الطرفان يهبان الاراضي ويمنعانها وفق مشيئتهما ولا اعتراض لحكمهما. بالنتيجة فقد اضافت الكويت الى العراق عقبة أخرى كان في غنى عنها في هذه الظروف، وكأن هذا البلد بات سالما معافى ولم تعد له مشاكل داخلية او خارجية الا هذا الحدث.
ان الله والتاريخ سيحاسب كل من يستغل ضعف هذا البلد في هذه الظروف القاسية ليفرض عليه واقعا شاذا، كما تفعل الكويت اليوم. لكن الحق يعلو ولا يعلى عليه لذا فلا يمكن ولا ينبغي لأي عراقي أيا كان موقعه ان يفرط بحقوق بلده سواء مع امريكا او تركيا او ايران او الكويت او غيرها.

‘ كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية