يعود تاريخ البرنامج النووي الإيراني إلى عام 1958 عندما أهدى الرئيس الأمريكي ايزنهاور جامعة طهران مكتبة نووية ومفاعلا نوويا صغيرا بقدرة 5 ميغاوات للأغراض البحثية، وقد بدأ تشغيله عام 1967 في مركز الأبحاث النووية شمال غرب طهران. ويذكر تقرير للمركز السويسري للمعلومات ان طموحات الشاه محمد رضا بهلوي في تحديث إيران عبر امتلاك أحدث التقنيات جعلته يسعى بقوة لامتلاك التكنولوجيا النووية، فتم تشكيل منظمة الطاقة الذرية الإيرانية عام 1974 التي تبنت خطة طموحة لبناء مفاعلين لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة 1300ميغاوات لكل منهما تتم إقامتهما بالقرب من مدينة بوشهر. وتم التعاقد مع شركة «سيمنس» الألمانية للتنفيذ، وبحلول عام 1979 كانت الشركة الألمانية قد أنجزت 85 في المئة من عملية بناء المفاعل الأول الذي أصبح يُعرف فيما بعد باسم مفاعل بوشهر1 بينما أنجزت حوالي 50 في المئة من المفاعل الثاني المجاور له. لكن قيام الثورة وإطاحة نظام الشاه أوقف العمل في البرنامج النووي.
أثناء الحرب العراقية الإيرانية، التي امتدت طوال عقد الثمانينات، تبادل البلدان قصف وتدمير البرامج النووية لبعضهما، إذ حاول الإيرانيون قصف مفاعل تموز في ضواحي بغداد عام 1981 بينما قام سلاح الجوي العراقي بتوجيه العديد من الضربات لمفاعل بوشهر، إذ تم شن الغارة العراقية الأولى على مفاعل بوشهر في اذار/مارس 1984 تبعتها ست ضربات مدمرة حتى عام 1988. وقد أدت الغارات العراقية إلى إحداث تدمير كبير في مفاعل بوشهر لحق بهياكله الخرسانية والقبة الخاصة بقلب المفاعل الذي لم يكن قد تم تركيبه بعد.
التعاون الروسي الإيراني
بعد انتهاء الحرب، طلبت حكومة رفسنجاني عام 1989 من شركة «سيمنس» استئناف عملها في بناء مفاعل بوشهر المدمر، إلا أن الشركة رفضت ذلك نتيجة ضغوط إدارة جورج بوش الأب، هذا الأمر دفع الإيرانيين للتوجه إلى روسيا الخارجة توا من الزلزال السوفيتيي، فتم عام 1992 توقيع اتفاقية تعاون نووي بين روسيا الاتحادية وإيران للأغراض السلمية وبناء المحطات النووية، وتم توقيع عقد بقيمة 800 مليون دولار لبناء مفاعل بوشهر1 والتفاوض على بناء المفاعل الثاني في إطار مشروع إيراني جديد لإقامة 10 محطات للطاقة النووية خلال 20 عاما.
التعاون الروسي الإيراني دق جرس الإنذار المبكر في واشنطن وتل أبيب، لكن تلكؤ العمل والمشكلات المالية بين موسكو وطهران، والتي استمرت طوال عقد التسعينات، أدت إلى تراخي واهمال الموضوع في دوائر صنع القرار الأمريكي. لكن مع بداية الألفية الثالثة، وفي عام 2001 استعر القلق الأمريكي مجددا إثر تصوير الأقمار الصناعية ما عرف حينذاك مدينة بوشهر النووية على ساحل الخليج الشرقي. التعاون الروسي الإيراني بدا طموحا وبوتيرة متصاعدة لإتمام العمل وبدء تشغيل مفاعل بوشهر في عام 2004 هذا الأمر دفع واشنطن إلى إتخاذ سياسات متشددة تجاه الأمر، لكن تأكيدات إيرانية وتطمينات روسية بأن البرنامج الإيراني للأغراض السلمية تماما قد هدأت القلق الدولي والإقليمي حيال الأمر.
في عهد الرئيس جورج بوش الابن تصاعدت حدة التوتر من جديد، وقدمت المخابرات الأمريكية عام 2005 عدة ملفات للرئيس تبين امكانية توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية انطلاقا من الأراضي العراقية التي كانت تتواجد فيها القوات الأمريكية بعد احتلال العراق عام 2003. لكن دراسة الأمر بينت عدم جدوى الضربة العسكرية، مما جعل البوصلة الأمريكية تتجه ناحية تصعيد الضغط وإشراك المجتمع الدولي ومنظمة الطاقة الذرية الدولية ومطالبتها بمراقبة وتفتيش المؤسسات النووية الإيرانية وتبيان مدى الالتزام بسلمية البرنامج النووي.
مع سيطرة صقور المحافظين على القرار الإيراني في عهد الرئيس محمود احمدي نجاد، ونتيجة ازدياد حدة التوتر بين إيران والمجتمع الدولي، أقر البرلمان الإيراني عام 2005 وبالأغلبية قرار إنتاج الوقود النووي، ما دفع الولايات المتحدة والقوى الدولية إلى فرض المزيد من العقوبات على إيران. إذ تمت إحالة ملف إيران رسميا إلى مجلس الأمن، وبهذا توصلت الولايات المتحدة إلى ما كانت تصبوا إليه، إذ كانت مساعي الولايات المتحدة تصطدم بمواقف روسيا والصين وتهديدهما باستخدام حق الفيتو، وفي شباط/فبراير 2006 نجحت واشنطن في إحالة الملف الإيراني لمجلس الأمن الذي فرض عقوبات على طهران وأصدر مجموعة قرارات تمنع التعامل مع الكيانات الإيرانية، وتمنع تزويد إيران بتقنيات قد تستخدم في الأنشطة النووية.
توقيع الاتفاق النووي
مثل وصول الرئيس الديمقراطي باراك أوباما لسدة الرئاسة الأمريكية عام 2008 انفراجا نسبيا في ملف البرنامج النووي بالنسبة لطهران، إذ كانت سياسات أوباما تتركز على الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط والتركيز على ملفات الشرق الأقصى وتحديدا الصراع مع الصين. وضمن هذا التوجه، اتسمت سياسات أوباما باللين تجاه إيران، إذ صرح في كلمته في جامعة القاهرة بالقول؛ إن «لإيران الحق في امتلاك الطاقة النووية السلمية، على أن تكون تحت بنود معاهدة عدم انتشار السلاح النووي» كما أكد أوباما في حديث تلفزيوني على إن «هناك إمكانية للجلوس على طاولة مفاوضات مع إيران» فرد الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد مباشرة بقوله إن «إيران مستعدة لمفاوضات وفق مبدأ الاحترام المتبادل».
انطلقت جولات المفاوضات الماراثونية بين إيران ومجموعة دول «5+1» التي استمرت من 26 اذار/مارس لغاية 2 نيسان/أبريل 2015 في مدينة لوزان السويسرية، وكانت النتيجة توقيع الاتفاق النووي، على أن تلتزم إيران بالامتناع عن تخصيب اليورانيوم بنسبة أكثر من 5 في المئة، وان تفتح كل منشآتها النووية لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بالمقابل تلتزم الدول الست ومعها مجلس الأمن الدولي بمجموعة من النقاط غاية في الأهمية مثل؛ رفع الحظر عن بيع النفط الإيراني، والسماح بتحويل 4.2 مليار دولار من عائدات تلك المبيعات إلى إيران على أقساط بالتزامن مع التزام طهران بتعهداتها في الاتفاق، وأن لا تفرض عقوبات جديدة على إيران مرتبطة بمشروعها النووي. وإقامة نظام تمويل يتيح التجارة الإنسانية لتلبية حاجات إيران، مما يسمح لها بتحويل 400 مليون دولار من أصول إيران المجمدة في الولايات المتحدة لتغطية نفقات دراسة الطلاب الإيرانيين في الخارج.
الاتفاق النووي مثل انتصارا للإصلاحيين في طهران، وعلى رأسهم الرئيس روحاني الذي عمل لسنوات مسؤولا للملف النووي الإيراني، لكن هذه الفرحة لم تستمر طويلا، فبعد أقل من سنتين، وصل إلى البيت الأبيض الرئيس المحافظ دونالد ترامب في كانون الثاني/يناير2017 وقد وضع نصب عينيه تدمير الاتفاق النووي الذي اعتبره هزيمة أمريكية ارتكبها سلفه أوباما. وأعطى مهلة سنة لتعديل الاتفاق، أو سينسحب منه، وهذا ما تم فعلا في ايار/مايو 2018 إذ وقع الرئيس ترامب على قرار الانسحاب من الاتفاق النووي بشكل فردي، وترك مجموعة الدول الخمس في موقف حرج.
حاولت الدول الأوروبية جاهدة إنقاذ الاتفاق وحض إيران على الالتزام به، إلا إن حزم العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على طهران أصابت الاقتصاد الإيراني بأضرار كبيرة وأوصلته إلى حدود تصفير صادرات النفط الإيرانية. هذا الوضع دفع الإيرانيين إلى التهديد بعدم التزامهم ببنود الاتفاق النووي، وقد وصل النزاع بين واشنطن وطهران حدودا غير مسبوقة ذكرت بأزمة خليج الخنازير في الستينات، خصوصا بعد اغتيال إدارة ترامب قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في العراق، ورد الحرس الثوري الإيراني بقصف القواعد الأمريكية في العراق برشقة من الصواريخ البالستية. من جانب آخر كانت الضربات الإسرائيلية للمشروع النووي الإيراني مستمرة طيلة سنوات تداعي أزمات هذا الملف، إذ اعتبرت تل أبيب هذا الملف تهديدا حقيقيا لأمن إسرائيل القومي، فشنت عدة هجمات سيبرانية على منشآت إيران النووية، كذلك تم تفجير عدد من المنشآت المهمة في موقع نطنز الاستراتيجي، كما قام جهاز الموساد باغتيال عدد من مهندسي وعلماء الطاقة الذرية الإيرانية وأهمهم محسن فخري زادة المعروف بـ «ابو القنبلة الذرية الإيرانية». وأصبح الأمل الإيراني متمثلا بخسارة ترامب للانتخابات الرئاسية 2020 لحصول تغيير ملموس في الأوضاع إذ فاز الرئيس الديمقراطي جو بايدن وما يمثله من انفراج نسبي لإيران، وهذا ما حصل فعلا، لكن الملف النووي الإيراني دخل دوامة جديدة وصلت لمرحلة عض الأصابع بين طهران وواشنطن، إذ طالبت طهران الأمريكيين بالعودة غير المشروطة للاتفاق القديم الذي انسحب منه الرئيس ترامب بدون قيد أو شرط لإثبات حسن النوايا. بينما طالبت إدارة بايدن بتعديل الاتفاق وإضافة نقاط أخرى مثل الرقابة على ترسانة إيران الصاروخية، وتعديل سياسات إيران الإقليمية، كعناصر يمكنها ان تساعد على العودة للتفاوض مع إيران.
جولة فيينا
توصلت إيران ومجموعة دول «5+1» إلى إطلاق جولة مفاوضات جديدة يوم الاثنين 29 تشرين الثاني/نوفمبر2021 في فندق باليه كوبرغ حيث أبرم اتفاق عام 2015. وقد تفاءل الأوروبيون بحلحلة حالة الانسداد الحاصل نتيجة تمسك واشنطن وطهران بمواقفهما، إذ تم إطلاق جلسات التفاوض بين الإيرانيين والدول الخمس، على أن يتواجد الأمريكيون بشكل غير مباشر في فندق قريب.
وقد ساد التوتر مع وصول الرئيس المحافظ ابراهيم رئيسي إلى سدة الحكم في طهران قبل أشهر، إذ أدى ذلك لتغيير طاقم المفاوضين الإيرانيين، فحضر إلى فيينا مساعد وزير الخارجية علي باقري كني الذي يرأس وفد بلده للتفاوض، والذي صرح قبيل إنطلاق جولة المفاوضات الجديدة بقوله إن «الهدف الأول للمفاوضات في فيينا هو إلغاء العقوبات كافة». وأضاف إن «الهدف الثاني هو تسهيل حقوق الشعب الإيراني للاستفادة من العلوم النووية». وبعد مرور أيام على المفاوضات بدا أن الإيرانيين ما زلوا متمسكين بشرط العودة غير المشروطة لواشنطن للاتفاق القديم مع رفع العقوبات عن إيران، وهذا الأمر جعل موقف الأوروبيين محرجا، ومن المتوقع أن تدخل جولة المفاوضات في نفق التأجيل مرة أخرى إذ لم يبد الإيرانيون والأمريكيون مرونة تسعى بشكل جاد لحل الأزمة والتوصل إلى اتفاق جديد.