سئل المفكر السياسي الفذ ريمون آرون: أليس من العجيب أنك بلا مريدين وبلا جمهور رغم أن التاريخ أثبت سداد آرائك في كبريات القضايا السياسية التي شغلت الإنسانية معظم القرن العشرين، بينما يحظى سارتر بجمهور واسع ونجومية عالمية رغم أنه جانب الصواب في معظم آرائه السياسية ومواقفه الايديولوجية؟ فأجاب: ذلك أني أفتقر إلى ما تستند إليه شهرة سارتر من روايات وقصص ومسرحيات أبدعها خياله المجنح.
بهذا المثال التاريخي الحي يقدم لنا ريمون آرون تفسير مباشرا لأمر ثقافي واقع لا يزال سائدا في جميع الحضارات منذ حوالي قرنين: إنه رواج الروايات والقصص، أو ما يسمى بنصوص التخييل، مقارنة بمحدودية جمهور المؤلفات الفكرية والبحثية في العلوم الطبيعية والاجتماعية، أو ما يسمى بنصوص الوقائع أو اللا-خيال. إذ إن قراء شكسبير، وديكنز، وبلزاك، وهيغو، وأورويل، وكامو، وأغاثا كريستي ونجيب محفوظ، على سبيل المثال، يمثلون مئات (وربما آلاف) أضعاف قراء هوبز، وكانط، وكارلايل، وياسبرز وعبد الرحمن بدوي. بل إن الكاتب الواحد قد يحقق بالتأليف الروائي من الشعبية ما لا يمكن أن يحققه بالبحث الفكري، وكفى بأمبرتو إيكو دليلا.
في هذا الإطار بالضبط يندرج تفسير عدم معرفة الجمهور الواسع بمؤلفات مؤرخي الحرب الباردة (من أمثال آرثر شلسنجر، وريتشارد بايبس، وغار ألبروفتز، وهربرت فيس وأندري فونتان) في مقابل الشعبية العالمية العارمة التي حظيت بها سرديات الروائي البريطاني الشهير جون لوكاري (الاسم القلمي لديفيد كورنويل) المستوحاة من عوالم الحرب الباردة والمخابرات والمغامرات والجواسيس. فقد ظل لوكاري، الذي توفي أخيرا في سن التاسعة والثمانين، محتفظا بمحبة القراء رغم طول مسيرته الأدبية (حوالي ستين سنة)، حيث كانت رواياته من الأكثر مبيعا في العالم بعد روايات جول فيرن وأغاثا كريستي. كما أن جورج سمايلي، بطل رواياته، سرعان ما صار يضاهي جيمس بوند (شبيهه ونقيضه) شهرة ورمزية. وبما أن أعمال لوكاري هي، في رأيي، من جنس التأريخ الروائي المضاد للتاريخ الرسمي بشأن كواليس الحرب الباردة وتمزقات الديمقراطيات الغربية بين داعي البقاء وزعم القيم، أي بين شعارات الحرية ومبتذلات الدفاع الماكيافللي عنها، فإنه يمكن وصف معظم رواياته بأنها نقض لأسطورة جيمس بوند.
رواج الروايات والقصص، أو ما يسمى بنصوص التخييل، مقارنة بمحدودية جمهور المؤلفات الفكرية والبحثية في العلوم الطبيعية والاجتماعية، أو ما يسمى بنصوص الوقائع أو اللا-خيال
بل إن من الجائز القول إن رواية «الرجل الآتي من الصقيع» (التي بيع منها 20 مليون نسخة) وما تلاها من روايات حتى التسعينيات هي تنويعات على ما يحلو لي أن أسميه «ثيمة جيمس بوند الثائب إلى الرشد الليبرالي»، أي المتفكر في عواقب القرارات السياسية والمتأمل في مواجع الطبيعة البشرية. أما أصالة الروح الفنية الباهرة عند لوكاري، فدليلها أنه لم يتوقف عن التجدد والتجاوز، آخذا القرن الحادي والعشرين غلابا ومتفننا في نبش أسراره بروايات تحقيقية قلقة تركزت، مثل «البستاني المثابر»، على فضح جرائم الرأسمالية المتوحشة وتواطئها مع أنظمة الاستبداد، بلوغا، في آخر رواية، إلى سيناريو التآمر الروسي-الأمريكي- البريطاني ضد العالم الليبرالي، ممثلا بالاتحاد الأوروبي.
هذا عن الانتشار الجماهيري. أما من الناحية التعليمية (إن لم نقل الأكاديمية)، فإن لوكاري يعدّ، بوجه من الوجوه، من مؤرخي الحرب الباردة (من حيث لم يكن يقصد طبعا). ولهذا درجت المدارس الثانوية في بريطانيا على إهداء تلاميذ الباكالوريا المتفوقين في مادة التاريخ إحدى ثلاث من أشهر رواياته: إما «سمكري خياط جندي جاسوس»، أو «الرجل الآتي من الصقيع»، أو «الجاسوس الكامل الأوصاف». هذا فضلا عن إجماع النقاد على أن العنوانين الأخيرين هما من طراز الأعمال الأدبية الرفيعة التي ستخلّد اسم لوكاري في مصاف الأدباء الكبار.
عرف لوكاري بشجاعة الموقف السياسي: من مناهضة غزو العراق، فدعم المنظمات الحقوقية، والاعتراض على شيطانيّات سلمان رشدي إلى ازدراء ترامب وجونسون والرثاء لحال بريطانيا الانعزالية. وبما أني من الذين يعدّونه من الروائيين-المؤرخين، فقد كان من الممتع أن أقرأ في الصحافة أن سيرة المؤرخ اليساري الشهير أريك هوبسباوم، التي نشرت العام الماضي، تتضمن نص مراسلات بين الرجلين. حيث أن هوبسباوم امتعض من إقحام اسمه، بتعديل طفيف، في رواية «الجاسوس الكامل الأوصاف» ومن استلهام تفصيل من حياته، ولكن معكوسا: فقد كان هوبسباوم تحت مراقبة الاستخبارات البريطانية؛ أما في الرواية فهو متعاون معها! الأمران المثيران أن هوبسباوم ختم المراسلات بأن أثنى على لوكاري، قائلا: إني معجب بسردياتك! أما لوكاري فقد صرح بأن الرواية المعنيّة استنفدته وجدانيا، وأنه ما أن فرغ منها حتى بكى مرّ البكاء.
كاتب تونسي