يقبل الفطام بمعناه العضوي تأويلات لا حصر لها في مقدمتها التأويل الاجتماعي ببعده السياسي المُتعلّق بنظم الحكم، واذا اخذنا البطريركية نموذجا فهي لا تؤجل موعد الفطام السياسي فقط بل تحاول الغاءه، بحيث تبقى الوصاية وما يقترن بها كحرمان الفرد من حقه في بلوغ رشده السياسي وبالتالي انقطاعه عن مواصلة الرضاعة كأنه طفل أبدي، تتلخص تربيته في ثنائية الزجر والقهر وعدم الاعتراف له بحق اشهار ذاته والحكم عليه بالبقاء رهينة الأب .
في حالات الفطام العضوي ثمة اطفال لا يستجيبون للانقطاع عن الرضاعة، ومنهم من يحوّل اصبعه الى ثدي بديل لثدي الام، رغم انه لا يقدم اي تعويض عنه، باستثناء العادة، وما يسمى الرضاعة الصناعية وهي من مطاط هو خدعة للطفل، بحيث يتم اغواؤه ببديل كاذب، فإلى اي مدى تتجلى هذه الظاهرة التربوية في حياتنا بمختلف مجالاتها ومنها الثقافي ايضا، فالاتباعية او توثين الماضي والتعامل معه على انه القدر الذي لا فكاك منه، يحول المستقبل الى طبعة اخرى من الماضي وقد اعيد انتاجه لكن بتغييرات شكلية طفيفة لا تطال المضمون والجوهر، وللثقافة ايضا بطريركيتها، التي تفرض وصاية الاب واحيانا الجد على الابن او الحفيد، ما دام كل جديد هو اقتراف لعصيان وشروع في التمرد الذي يعامل على انه عقوق ينبغي عقاب من تورط به، هكذا عوملت موجات التحديث في الأدب وبالتحديد في الشعر حيث ما من مرّة اجترح فيها شاعر بلوغه من خلال الفطام الا وكان متهما بالاخلال وافساد ذائقة القبيلة سواء حملت اسمها الصريح او تنكّرت في حزب او نقابة او اي تشكل آخر تحت اسم مستعار.
وفي اربعينيات القرن الماضي وما اعقبها من الريادات الشعرية التي حاولت تحرير الابداع من البطريركية وتعاليمها الصارمة، وبالتالي اشهار الفطام، كانت التّهم بالخروج والتواطؤ مع اعداء الامة والتراث القومي تُكال بالمجان مما اعاد بعض الشعراء من اول الطريق الى الحظيرة، فيما واصل آخرون تحت وابل من الهجاء النقدي والنّبذ والاتهام بفقدان الشرعية والنّسب الأصيل.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭
ما سمّاه سيغموند فرويد في معجمه النفسي جريمة قتل الأب، هو افراز وبامتياز لبطريركية تحرم الابن من حق البلوغ ومن الاعتراف بسن الرشد العقلي والعاطفي.
ولو كان فرويد عربيا لاضاف الى جريمة قتل الاب جرائم اخرى منها قتل الاخ والابن وربما ابادة العائلة كلّها، فمن تجليات جريمة قتل الابن، التسلط الابوي الذي يطمح الى ان يكون الابن مجرد صورة طبق الاصل عن الاب وثمة مقولة تلخص هذه المسألة «من شابه اباه ما ظلم».
اما جريمة قتل الاخ، فهي في التحاسد الأعمى، الذي اختصره الراحل د. هشام شرابي بعبارة واحدة هي: فشل اخي نجاحي، وبالتالي فإن فقره ثرائي وضعفه عافيتي، ولم تكن متوالية حروب الاخوة الاعداء واحيانا التوائم الألداء في السياسة والثقافة الا التجسيد الدقيق لهذا الانحراف النفسي، وحين تتمدد شهوة القتل وتشحنها سادية انتقامية تشمل العائلة كلها، ولدينا امثلة لا تحصى في هذا السياق، وحين تنبّه اليها بعض المستشرقين سرعان ما تم تصنيفهم على انهم اعداء وعرقيون وتصدر مواقفهم عن رؤى هي من رواسب الحقبة الكولونيالية، وقد يكون هذا صحيحا الى حدّ ما بالنسبة لبعض المستشرقين لكن هناك منهم من اتاحت له المسافة التي تفصله عن المشهد ان يراه على نحو بانورامي.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭
الثورة كمفهوم تاريخي متعدد الدوافع هي اعلان عن الفطام، لهذا تجد من المصدات في المجتمع البطريركي ما يجهضها احيانا، او يدجّنها بحيث يكون حنين الرضيع المفطوم الى الثدي هو السبب في وضع اصبعه في فمه من اجل التعويض حتى لو كان رمزيا او على الطريقة البافلوفية، فالكلب في تجربة التعلم الشرطي لدى بافلوف يسيل لعابه كلما قرع الجرس لأن الرنين مقترن بالطعام، ثم تأتي مرحلة يسيل فيها اللعاب لمجرد سماع الرّنين حتى لو لو يكن مصحوبا بالطعام.
ولو شئنا تقصّي حالات من الفطام المحرّم، فإن الأمثلة عديدة حتى في حياتنا اليومية, وليست حكرا على السياسة والثقافة، فثمة من لا يحق لهم او لهنّ حتى اختيار الزوج أو الزوجة، لأن تقاليد البطريركية الاجتماعية لا تعترف لهم بحق الاختيار، الذي هو شكل من اشكال الفطام والبلوغ، وقد لا اذهب بعيدا اذا قلت بأن الحداثة كما تجلّت في حياتنا وهي حداثة مترجمة على الاغلب حتى في انماط السّلوك، لم تحقق الفطام، وكل ما في الأمر ان الطفل بقي يرضع اصبعه بحثا عن حليب وهمي لأن حداثة معزولة عن حيثياتها وانماط الانتاج الاقتصادية شبه الرعوية والريعية السائدة هي بالضرورة شكلانية، وقائمة على التقليد الذي يصل احيانا حدّ التّقريد، وما هذه الشيزوفرينيا الوبائية التي تفتك بعافيتنا النفسية الا من نتائج حداثة تذكّرنا بأبي الهول، لكن الفارق ان رأسها جاهلي او قروسطي وجسدها بكل ما يغطيه ملفّق من احدث دور الأزياء، فما أبعد اللسان عن الرأس وما أبعد الرقصة عن الموسيقى.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭
الفطام العضوي يتطلب نصابا زمنيا قد لا يزيد عن عامين او ثلاثة، لكن الفطام الثقافي والسياسي له نصاب زمني آخر قد يصل الى قرون، لكن استقصاء هذا النمط من الفطام ومضاداته البطريركية ليس ميسورا لمن يتوهمون بأن الاكاديمية هي نقيض الامية والتي قد تكون حاضنتها، وتفرخ بدورها اميّات عديدة في العلوم الانسانية والوعي المفارق للسائد.
فما الذي نشاهده الان سواء لدى الآخرين او في مرايانا: هل هو فطام ام استمرار في رضاعة الاصابع وحلمات الاثداء المطاطية؟
وقد لا نحتاج الى كثير من المجازفة كي نجيب بأن أوان الفطام بمعناه الفكري والسياسي لم يحن بعد، وان الحرية ليست عادة تراوح بين السّر والعلن وان الحداثة ليست حفلة تنكرية تضيف الى البعير جناحين والى العقل الامي لسانا يرطن!!
خيري منصور
تحية استاذنا الكبير خيري منصور: مثل هذا المقال يمثل وجع تاريخي عانت منه الشعوب الشرقية عموما والعرب خصوصا. فعلى مدار التاريخ العربي كان هناك فترات طويلة من البيات شبه الأبدي وبقراءة تاريخية لم تتغير أنماط الانتاج المجتمعي خلال الفي عام الا تغيرا طفيفا لا يكاد يذكر. فالبطريرك على شاكلة السلطان أو الحاكم بأمر الله، فرضوا اوامر الطاعة وأحدثوا حالة من الارتهان الثقافي ينسجم مع اللهج بالثناء والدعاء على المنابر. فحالة الفطام ربما تستمر قرونا من اجل التخلص من موروث ثقافي لا يزال يسيطر على الذهنية ويضع حدا للإبداع. فالانتكاسات الثقافية لا زالت تفرض نفسها وتغيب معها الابداعات التي تحمل لقاحات التغيير لتفرض عليها العقم قبل ان تتطور وتجسد كائنا له مواصفات جديدة. فلا زال الاعلام والكاتب والناشر يخضع لوصاية ينفذها مكرها ثم طواعية للتاٌقلم مع واقع يفرض نفسه ولا فكاك منه خوفا من التغريد خارج السرب. النقلة النوعية بحاجة الى جرأة وخروج عن المألوف وتعميم منهج ابن رشد على الثقافة وكافة انماط الانتاج الفكري لإخراجها من بياتها الابدي.