البغدادي وسنينه

لن يكون مقتل أبو بكر البغدادي آخر فيلم هوليوودي ينتجه البيت الأبيض، وربما يكون بطل الفيلم المقبل أبو محمد الجولاني، وكان رفيقا وتلميذا للبغدادي في تنظيم قاعدة أبو مصعب الزرقاوي، ثم في تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، قبل أن ينفصل عن البغدادي، ويقود جماعة «جبهة نصرة أهل الشام»، التي غيرت اسمها مرات، وصارت تعرف اليوم باسم «هيئة تحرير الشام»، وتسيطر على مدينة «إدلب» في الشمال السوري، وفي الجغرافيا ذاتها تقريبا، التي انتهت فيها قصة الخليفة أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش».
وبصرف النظر عمن يكون عليه الدور، وسواء كان الجولاني (السوري)، أو أيمن الظواهري (المصري)، الأمير العام لتنظيم قاعدة الجهاد العالمي، وخليفة أسامة بن لادن، الذي جرت تصفيته في باكستان، وبالطريقة ذاتها تقريبا، التي أنهت حياة البغدادي (العراقي)، وذهبت الأشلاء في الحالتين إلى بحر مجهول، وهي طريقة دفن مائي مختارة، تطبق الشريعة الإسلامية بحسب فقهاء البنتاغون، وحتى لا يكون لأحدهم قبر يزار، أو يلهم الراغبين في احتذاء الطريق الإرهابي، أو المفتونين بتكرار اللعبة نفسها، لعبة صناعة وحوش متطرفة باسم الإسلام، ثم تركها تقتل وتدمر ما استطاعت في ديار العرب والمسلمين، ثم التخلص منها في الوقت المناسب بعد نفاد الدور، والذهاب بما تبقى من الأشلاء إلى أعماق البحار البعيدة.

لم يغلق القوس بعد البغدادي، وربما نظل مع الداء نفسه لسنوات مقبلة لحين صحوة الشعوب العربية، وقيام مجتمعاتها على حق المواطنة المتساوية

ولم تكن المخابرات الأمريكية، ولا القوات الخاصة، ولا البيت الأبيض، ولا أسلحة البنتاغون، لم تكن أمريكا كلها بعيدة عن سيناريو اللعبة منذ بدأ، مع الغزو الروسي لأفغانستان في أواخر سبعينيات القرن العشرين، ورغبة الولايات المتحدة في تدمير غريمها (الاتحاد السوفييتي وقتها)، وجعل أفغانستان مقبرة عظيمة للروس، الذين فقدوا هناك نحو أربعين ألف مقاتل، واضطروا للانسحاب في النهاية، بعد حرب استمرت نحو عشر سنوات، كان عدوهم الظاهر فيها جماعات إسلامية أفغانية، إضافة لشراسة قتال ما عرف وقتها باسم «المجاهدين العرب»، وقد جرى استجلابهم من قلب العالم العربي، ومن مصر والسعودية في الغالب الأعم، وبرعاية النظامين المصري والسعودي وقتها، وبتنسيق مباشر مع المخابرات المركزية الأمريكية، وبتعاون نشيط وثيق بين النظم التابعة وجماعات ما يسمى بالتيار الإسلامي، وجرت التعبئة العامة عبر منابر المساجد وأجهزة الإعلام الرسمية، وبدعوى النفيرالعام لقتال الغزو الروسي الملحد، ولعب الرئيس المصري الأسبق أنور السادات دورا بارزا في القصة الملوثة منذ عام 1978، فقد كان نظامه معروفا بدعم جماعات ما يسمى بالتيار الإسلامي، وبصلاته الوثقى بالخصوص مع قيادات المملكة السعودية، مع تبعية سياسة البلدين للسيد الأمريكي، ثم راح السادات في النهاية ضحية لحلفائه «الإسلاميين»، مغتالا على منصة العرض العسكري في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، ولكن بعد أن كان الغول (الجهادي) قد تضخم، وارتقت مهارات (مجاهديه) القتالية في حرب أفغانستان بتضاريسها الوعرة، ومن دون أن يؤدي ذلك إلى سلام ولا سلامة لأحد.
وحتى في أفغانستان نفسها بعد جلاء الروس، فقد دارت الحرب الضروس بين أحزاب الأفغان الإسلامية على كرسي السلطة، وانتهت إلى إفناء متبادل، وإلى أن انتصرت عليها جميعا، حركة «طالبان» الشبابية المدربة في باكستان، التي حكمت بعد جلاء الروس بعشر سنوات، وأقامت إمارة إسلامية طاردة لأي معنى للتقدم أو التنمية، وكانت أكبر إنجازاتها هدم تمثال «بوذا»، والتحالف مع نواة تنظيم «القاعدة»، التي رعاها المليونير السعودي أسامة بن لادن، المتأثر بفكر جماعة الإخوان في بداياته، لكنه راح يؤسس طريقا آخر، رآه أكثر فاعلية من عقيدة وسياسة الإخوان المرتبكة، ووجد في «المجاهدين العرب» في أفغانستان ضالته، واعتمد خط تكفير كل النظم القائمة في العالمين العربي والإسلامي، وجعل من تنظيمه (قاعدة الجهاد) عدوا أول لرعاته الأمريكيين السابقين، بدءا بتفجير السفارات، وليس انتهاء بما سماه «غزوة نيويورك»، وعملية تفجير برجي التجارة العالميين في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وهنا انقلب السحر على الساحر، وتحول بن لادن إلى هدف حربي للأمريكيين، وإلى أن قتلوه بطلقة في الرأس بتاريخ 2 مايو/أيار 2011، بمجمعه السكني في مدينة «أبوت أباد» الباكستانية، بينما كان باراك أوباما الرئيس الأمريكي وقتها، يريد «صيدا ثمينا»، يعينه في الفوز بفترة رئاسة ثانية، تماما كما يفعل دونالد ترامب الآن، ويقدم رأس البغدادي، ومن قبله رأس حمزة بن لادن، على مذبح التأهل لفترة رئاسة ثانية، ومحاولة اكتساب حصانة ضد إجراءات عزله الجارية في مجلس النواب الأمريكي، فقد كانت بداية البغدادي أيضا على مقربة من الأمريكيين بعد احتلال العراق، كان عضوا بتنظيم الإخوان العراقي، كما قال الشيخ يوسف القرضاوي، واعتقل الأمريكيون البغدادي الشاب عام 2003 في سجن «بوكا» القريب من البصرة، وكان اسمه الأصلي إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري، ومن عشيرة «البدري»، التي تصل بشجرة نسبها إلى علل زين العابدين ابن الإمام الحسين، أي إلى بيت رسول الله عبر نسله من السيدة فاطمة الزهراء، وفي سجن «بوكا» الأمريكي، وعبر أربع سنوات، كون البدري نواة تنظيمه، وأفرج عنه الأمريكيون بعد الفراغ من المهمة، وخرج البدري ليكتسب لقبه الجهادي «أبو بكر البغدادي»، وليخلف أبو عمر البغدادي في قيادة جماعة «الدولة الإسلامية في العراق»، وبقية القصة معروفة لكل الناس، وإلى أن غير اسم التنظيم إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وإلى أن كون ما سماه الخلافة على منهاج النبوة، وسيطر رجاله على ثلث العراق في اجتياح عاصف، ثم أضاف ثلث سوريا، وجعل عاصمته في «الرقة» السورية، ثم انقلب الأمريكيون عليه، وعلى خلافة السبي والذبح، وإلى أن انتهى أمره، ربما بالطريقة ذاتها التي انتهى بها بن لادن، وعبر وشاة من دائرتيهما المقربتين، تعاونوا مع الأمريكيين لقاء ملايين الدولارات، وإلى أن جاء آوان شطب الدور والوجود.
وبالطبع، لن تكون نهاية البغدادي نهاية لتنظيمه، المعروف اختصارا باسم «داعش»، وقد سارع «داعش» إلى تعيين خليفة للخليفة البغدادي، وحمل الخليفة الجديد اسم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، ولاحظ من فضلك، الحرص على استخدام لقب «القرشي»، فقد كان شرط القرشية لازما لتنصيب الخليفة في كتب «السياسة الشرعية « القديمة، ثم ذهب شرط القرشية مع الريح في أشكال الخلافة التي تلت حكم العائلتين الأموية والعباسية، خصوصا في خلافة آل عثمان، ولم يكن من بينهم قرشي ولا عربي من أصله، فيما تسعى خلافة «داعش» الموهومة إلى استعادة قشورمن جراب «الحاوي»، تغري جماعات من الشباب «الإسلامي»، بمطاردة وهم اسمه استعادة الخلافة، وهي لم تكن أبدا فرضا دينيا ولا سنة، بل ظاهرة دنيوية تماما، ونظام حكم، فرضته قواعد وامبراطوريات العصور الوسطى، وقد شهدت عصور الخلافة ـ ما بعد الخلفاء الأربعة الراشدين ـ ازدهارا وانحسارا، وعلى قواعد دنيوية بحتة، تسرى قوانينها المصاحبة لصعود الإمبراطوريات وسقوطها، وارتكبت باسمها أفظع الجرائم، التي لا يقرها شرع ولا دين، وعلى نحو ما كانت عليه دعوى استعادتها في خلافة البغدادي، التي اعتمدت «التوحش» دينا وقطع الرؤوس شريعة، ولم تعدم المعجبين والمريدين، خصوصا في بيئة عربية مريضة، يسودها الفساد والإفقار والاستبداد والتخلف، إضافة لأمراض الطائفية المقيتة في بلدن المشرق العربي بالذات، المؤهلة لإعادة إنتاج الظاهرة الداعشية، وإن بأسماء أخرى، لتؤدي دورها كمخلب قط، وتدمر الحرث والنسل، على أن تظل أمريكا، وهي «داعش» الكبرى في عالمنا، ممسكة بطرف الخيط، ومستعدة لإنهاء حياة الخلفاء المزورين في اللحظة المناسبة، فلا شيء يضير أمريكا من ظواهر الجماعات إياها، خصوصا مع تأديتها لدور وظيفي جوهري في تشويه وتحقير الإسلام والمسلمين، مع عدم إطلاق رصاصة واحدة في اتجاه كيان الاغتصاب الإسرائيلي، بل تتخذه الجماعات صديقا ضمنيا من تحت الطاولة، فقد قتلت هذه الجماعات من العرب، مئات أضعاف من قتلتهم إسرائيل.
وباختصار، لم يغلق القوس بعد البغدادي، وربما نظل مع الداء نفسه لسنوات مقبلة، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، مع صحوة الشعوب العربية المعاصرة، والتقدم إلى مجتمعات تقوم على حق المواطنة المتساوية، تقشع ضباب اليمين الديني، وتعطي الأولوية للاستقلال الوطني والقومي، ويقوم وجودها واقتصادها على مبادئ التصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية، وتعيد للإسلام وجهه الحضاري المضيء، لا الوجوه العابسة المظلمة المنفرة، التي لا تخدم سوى أعداء الأمة، بالقصد أو بالغفلة، وتنتشر كأسراب الجراد في حياتنا الحاضرة، وتمد في عمر نظم القهر والعهر والخيانة، التي تستفيد ضمنا بوجود جماعات «داعش» وأخواتها وسابقاتها إلى الضلال المبين.
*كاتب مصري

البغدادي
داعش
القاعدة
بن لادن
النصرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    ديكتاتوري المفضل!
    اللقب الذي أطلقه الرئيس ترمب على الأستاذ بلحة.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    “وتمد في عمر نظم القهر والعهر والخيانة، التي تستفيد ضمنا بوجود جماعات «داعش» وأخواتها وسابقاتها إلى الضلال المبين.” إهـ
    هل تقصد نظام السيسي يا أستاذ؟ ألم يُهجر أبناء سيناء بحجة داعش والإرهاب؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول علي:

    هل أميركا تستخدم التنظيمات الاسلامية وحدها؟ كلا .. إنها تستخدم آخرين تضفي عليهم أوصافا جميلة: المناضلون، المكافحون، المستنيرون، القوميون،الليبراليون، الثوريون، …. وفي كتاب السيدةاستونر الأميركية(من يدفع للزمار؟) كثير من الفواجع التي تتجلى في خدمة هؤلاء للعسكر والمناشير والأعراب وغيرهم!

  4. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة !… لابد لليل ان ينجلى:

    **فلا شيء يضير أمريكا من ظواهر الجماعات إياها، خصوصا مع تأديتها لدور وظيفي جوهري في تشويه وتحقير الإسلام والمسلمين، مع عدم إطلاق رصاصة واحدة في اتجاه كيان الاغتصاب الإسرائيلي، بل تتخذه الجماعات صديقا ضمنيا من تحت الطاولة!
    •ياالله شوف الصدف!والله كأنك بتتكلم عن شخص اعرفه اسمة بلحة

  5. يقول Abdallah:

    إدانة التوخش الذي يقوم على ادعاء الإسلام. ليس كديدا .نسأل فقط عن التوحش القائم باسم الجيش و حماية مصر أن تعري كتفها و ظهرها ما راي الدكتور فيه ؟ و في أي إطار تتنزل مساندته لديكتاتور مصر ؟

إشترك في قائمتنا البريدية