هذا ما يحصل كل سنة لمدة أسبوع تقريبا، حين يقطع الإنترنت عن الجزائريين بمناسبة تنظيم امتحان شهادة البكالوريا – الثانوية العامة لمحاربة استفحال ظاهرة الغش أثناء الامتحان الذي ما زالت تتعامل معه العائلات الجزائرية كامتحان مصيري من الدرجة الأولى. يقطع فيه الإنترنت كل سنة، مدة أيام الامتحان، رغم تطمينات الرئيس تبون بعد وصوله للسلطة بأن قطع الإنترنت لا يشرف الجزائر والجزائريين، وأنه بالتالي لن يتكرر في المستقبل، في وقت تتجه فيه الجزائر نحو اقتصاد المعرفة والرقمنة على أكثر من صعيد، كما جاء في تصريحه منذ سنتين. وعد لم يتحقق، مقابل ما بذل من مجهود في توسيع وتحديث شبكة الإنترنت التي أصبحت في متناول يد عدد أكبر من الجزائريين من أبناء المدن والريف.
ظاهرة الغش في الامتحانات في المجتمع الجزائري، يمكن تعميمها على الكثير من المجتمعات العربية، التي تعاني بدرجات متفاوتة من الأسباب والنتائج نفسها
ليبقى تحدي قطع الإنترنت بمناسبة امتحان البكالوريا كل سنة، يؤرق المواطنين والسلطات العمومية التي عجزت عن إيجاد حلول مقبولة -لا أقول جذرية – لهذه المعضلة التي تعيق عمل ملايين الجزائريين لمدة أسبوع كامل تقريبا، كما يحصل في البنوك والقطاعات الاقتصادية المفتوحة على العالم الخارجي، والكثير من النشاطات التي تتطلب استعمال الإنترنت، سواء تعلق الأمر بعمل الأفراد أو المؤسسات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، التي لا تستغني عن استعمال يومي ودائم للإنترنت، بعد توسع ظاهرة الشغل عن بعد التي تطورت بشكل لافت بعد تجربة كورونا في العالم والجزائر.
الطابع المصيري الذي ما زال يتعامل به الكثير من الجزائريين، مع امتحان شهادة البكالوريا، قد يكون مفتاحا لفهم ظاهر الغش، التي استشرت بين الجزائريين، تأكيدا للأزمة الأخلاقية التي يعاني منها المجتمع الجزائري، الذي ما زال في حاجة إلى ثورة أخلاقية فعلية، حتى يكتشف أن السرقة على سبيل المثال، سلوك غير أخلاقي وليست قفازة، كما يتصور وهو يخرج «ينافيقي» كل يوم. في مجتمع ما زال لم تترسخ لديه قيم التنافس، بما فيها العلمي، كما هو حال امتحان شهادة البكالوريا. قيم تنافس لا يقبل بها الجزائري، إلا إذا كانت لصالحه، للانطلاق في عملية تشكيك واسعة، إذا تيقن بأنه لن يكون مستفيدا منها، كما حصل عدة سنوات بعد الإعلان عن نتائج البكالوريا التي جاءت لصالح أبناء بعض الولايات دون أخرى، وبدل البحث عن أسباب موضوعية لها، تذهب التفسيرات في اتجاهات، تجنح نحو اتهام أبناء ولايات كاملة بالتواطؤ في عملية غش عامة، تشمل الطلبة الممتحنين والمشرفين والعائلات، كما حصل أكثر من مرة مع أبناء ولايات منطقة القبائل، التي تعودت منذ سنوات على الحصول على نتائج متميزة وطنيا في هذا الامتحان، الذي يبقى في حاجة إلى إصلاح جذري يخفف من الضغط الذي يولده على الطالب والعائلة، وإدارة وزارة التربية، التي لم تعد قادرة على تسيير هذا الامتحان البيروقراطي الثقيل، الذي تجاوزه الكثير من التجارب الدولية الناجحة، بأشكال ذكية وفعالة. علما بأن المعطيات المتوفرة حول حالات الغش الكثيرة، التي يتعامل معها القضاء الجزائري بصرامة، تفيد بأنه مشروع جماعي، تساهم فيه العائلة والأصدقاء، وليس مشروعا فرديا فقط – تماما كما أصبح سائدا عندما يتعلق الأمر مع الحرقة – لما يتطلبه من تمويل لإنجازه كشراء الأجهزة الإلكترونية وإخفائها لاستعمالها، من قبل الممتحنين الشباب. منسوب غش ازداد حسب المعطيات المتوفرة أكثر مع الطلبة الأحرار، كما عكسه الإعلام الوطني هذه السنة، وهو يتحدث عن عودة لأساليب الغش التقليدية – «الحروز». ظاهرة الغش التي تتوزع في المقابل بشكل عادل بين كل مناطق البلاد، إذا استثنيا بعض الجهات التي قد يكثر فيها عدد الممتحنين الأحرار. على غرار بعض الولايات التي تكون عرفت تأخرا تاريخيا في الاستفادة من التعليم، تقل فيها بالتالي نسب النجاح في البكالوريا، ما يضطر أبناءها الى التقدم الى أكثر من دورة سنوية، قبل الظفر بها في نهاية المطاف، يعايش فيها المترشح بعد طول تجربته، الكثير من أشكال الغش والتواطؤ مع حراس الامتحان من هيئة التدريس والإدارة المشرفة على الامتحان، والممتحنين أنفسهم. في وقت ساءت فيه ظروف عمل الأساتذة وتدهورت فيه مكانتهم الاجتماعية والرمزية، في ظل تحولات اجتماعية يعيشها المجتمع الجزائري كان من نتائجها، بروز فئات اجتماعية جديدة تتفاخر علنا بأميتها وهي تبرز الكثير من علامات النجاح المادي والاجتماعي التي يحسدها الجميع عليه.
علما بأن المعطيات الديموغرافية كالزيادة في عدد الطلبة الممتحنين، يتجاوز 800.000، الذين يمتحنون في التوقيت نفسه على مستوى كل التراب الوطني، بحجم هياكل استقبال هائل لا تفسر كل شيء عندما يتعلق الأمر بمعدلات الغش، التي زادت مع الوقت، لتخبرنا أننا أمام أزمة أخلاقية في المقام الأول، تنخر الجسم الاجتماعي الوطني، الذي ينزع نحو تساهل مريب، مع السلوكيات الفردية والجماعية غير السوية، لا تقتصر فقط على الغش في الامتحانات. كما يظهر في الحياة اليومية للجزائريين الذين زاد «تسامحهم» مع نهب المال العام ومظاهر الثراء السريع البادية على أفراد العائلة والمحيط الاجتماعي، بمن فيهم إناث العائلة، بكل ما قد تحيل إليه من سلوكيات منحرفة وغير سوية، لم تكن تقبل بها العائلة الجزائرية لوقت قريب، من دون نسيان ذلك التسامح الكبير مع ظاهرة تزوير نتائج الانتخابات السياسية – أم الخبائث – التي يتبارى فيها أبناء القبيلة والعرش والعائلة، من دون حياء وهم يحثون عليها كأحد أشكال النجاح الفردي المبني على أشكال التضامن الاجتماعي الآلي، الحاضرة في الريف والمدينة التي تحول للسكن فيها أغلبية الجزائريين. المرتبطة بالعديد من الظواهر السلبية الأخرى كالتسلط والشعور بالدونية أمام القوي واحتقار الضعيف، ونهب المال العام والمحاباة، وغيرها من سلوكيات «الإنسان المقهور»، كما توسع الدكتور مصطفى حجازي في دراستها، في مؤلفه المشهور. في مجتمع زادت فيه قشور التدين الاجتماعي الشكلي، على حساب العمق القيمي المُغيب، الذي عكسته تصريحات أحد الطلبة الممتحنين وهو يشكو لأحد القنوات التلفزيونية الوطنية، عند خروجه من الامتحان هذه السنة من «صرامة» المراقبين، التي لم ينفع معهم قارورة ماء زمزم، التي طلبت منه أمه أخذها معه للتبرك بها يوم الامتحان. ظاهرة الغش في الامتحانات التي تكلمنا عنها ونحن نربطها بالمجتمع الجزائري، التي يمكن تعميمها على الكثير من المجتمعات العربية، التي تعاني بدرجات متفاوتة من الأسباب والنتائج نفسها.
كاتب جزائري