البناء الاجتماعي للوباء: هل سننجو بدون دولة؟

تتردد عبارة «دولة أكثر، حريات أقل» بشكل واسع هذه الأيام، ليس فقط في مواجهة إجراءات العزل والتباعد الاجتماعي، التي يفرضها كثير من الدول في مواجهة انتشار فيروس كورونا، ولكن أيضا للاعتراض على الإجراءات الإدارية والاقتصادية الحازمة، التي من المتوقع أن تلجأ إليها الحكومات للتعامل مع الأزمة.
وعلى الرغم من أن تلك العبارة يمكن نسبها للتراث الليبرالي والليبرتاري الكلاسيكي، فإن التوجس من الدولة، وتعاظم سلطاتها، له كذلك تراث يساري طويل، ليس فقط لدى الحركات الأناركية، التي لم تعد تملك كثيرا من التأثير السياسي والفكري في عصرنا، بل أيضا في أوساط «اليسار الأكاديمي»، الذي يرتبط موقفه المتشكك من الدولة بنقده العام للحداثة.
النقد «اليميني» لا يضع نفسه عادة في مواجهة الدولة بشكل مطلق، فهي تبقى الضامن للملكية الخاصة والنظام العام، ولكنه يطالب ببقائها دولة «صغيرة» دوما، تترك للمجتمعات المحلية والأسواق والأفراد، دورا أساسيا في إدارة قضاياهم، ما يتيح ظهور مجال للحرية بعيدا عن الأوامر والفروض المملاة من الأعلى.
في حين يبدو النقد «اليساري» أكثر غموضا، فالسياسات الحيوية والحوكمة والأجهزة الأيديولوجية، والسلطة عموما، التي لا تتركز في جهاز الدولة وحده، ليست فقط هيمنة فوقية على حياة البشر، بل هي سلطة منتجة، مسؤولة عن صياغة الذوات وإعادة إنتاج الحياة ذاتها. يصبح النقد هنا هجاء للشرط المعاصر بأكمله، أو محاولة لتفكيكه، بدون الاهتمام بطرح بدائل ستؤدي حتما لسلطة جديدة، فليس هذا دور هذا النوع من النقد أصلا.
في الأزمة الحالية يبدو أن الجانبين متفقان بالحد الأدنى على أن «دولة كورونا» تمهيدٌ لنمط حكم أكثر تسلطا، يدير كافة شؤون الحياة باسم حالة طوارئ دائمة. ما يعني ضمنيا أن ما نشهده اليوم، ليس مجرد رد فعل طبيعي وحتمي على ظرف طارئ، بل إن وعينا للوباء وطريقة تعاملنا معه، مبنية سياسيا واجتماعيا بواسطة السلطات السياسية والطبية ووسائل الإعلام. مقولة «الوباء بناء اجتماعي» لا تعني أن الفيروس لا يوجد حقا في الطبيعة، أو أنه مجرد مؤامرة سلطوية، بل تعني أن مفاهيمنا، عن الموت والحياة والضرورة والصحة ونمط الحياة السليم، كلها مفاهيم تاريخية، وليست حقائق متعالية، وبالتالي من الممكن تتبع نشوئها ونقدها والمطالبة بتغييرها. فهل يمكن لهذا النمط من التفكير أن يثبت فعاليته، في ظل أزمة عالمية بحجم انتشار فيروس كورونا؟ وهل يمكننا النجاة من الوباء، بدون الاستسلام لسلطة الدولة المتعاظمة؟

الدولة الحيوية

على الرغم من كل الانتقادات التي يمكن توجيهها للمذهب البنائي عموما، يصعب إنكار مدى أهمية مفهوم «السياسات الحيوية» Biopolitics وراهنيته في أيامنا الحالية. الموت والصحة ومستوى الحياة، لم تعد أسئلة وجودية أو أخلاقية بقدر كونها قضايا سياسية مرتبطة بالدولة وأجهزتها. وعلى الرغم من كل الحديث عن الفردانية، وحق تقرير المصير الذاتي، فإن حياة مجموع السكان ومصائرهم تحددها سياسات عامة، قائمة على الإحصاءات والنماذج: متوسط الأعمار، مستوى الدخل، عدد الوفيات والولادات، أنماط الجنسانية، الأمراض الشائعة، إلخ. يُعتبر الموت والمرض، إذن قضية تقنية يتوجب معالجتها والحدّ من آثارها، لإطالة أعمار البشر والحفاظ على صحتهم ومستوى إنتاجيتهم.
وبما أن السلطة تتولى مسؤولية إعادة إنتاج الحياة عموما، فهي قادرة على تطويع كافة مناحي المجتمع، بما يتفق مع ضرورات مهمتها هذه، بما في ذلك رفع الضمانات السياسية والقانونية، إذا هددت سياساتها الحيوية، عندها تصبح حياة البشر «عارية»، تختزل بالضرورات البيولوجية للبقاء. إلا أن هذا التصور يُغفل ببساطة أن الحفاظ على البقاء بحد ذاته ليس بناء اجتماعيا وسياسيا، ولم يكن يوما مجرد قضية أخلاقية أو وجودية. أيا كان تعريف السلطة لـ«الحــــياة الجــــيدة»، فإن وفـــاة مئات الآلاف، نتيجة وباء ما، ليست أمرا يمكن التغاضي عنه.
وإذا كانت السلطات الحديثة قادرة على حرمان البشر من ضماناتهم السياسية والقانونية، بدعوى الحفاظ على البقاء، فإن سجل الأوبئة التاريخي شهد ما هو أسوأ في غياب السلطة الحيوية: المجاعات، زوال مدن ومجتمعات بأكملها، أكل لحوم البشر، إلخ. لا تمتلك المجتمعات الموبوءة ترف الأسئلة الأخلاقية والسياسية أصلا.

لا يبدي النقّاد الليبراليون والليبرتاريون اهتماما كبيرا بنظريات ميشيل فوكو وجورجيو أغامبين عن السياسات الحيوية، وحالة الاستثناء، ولكنهم ينتقدون «دولة الطوارئ الدائمة» من زاوية أخرى، غير متعارضة مع تلك النظريات بالضرورة.

يبقى الخطر الأساسي، الذي يمكن لنقد السياسيات الحيوية التنبيه إليه، تأبيد حالة الاستثناء، فعندما تصبح كل القضايا السياسية مهددة لبقائنا ذاته، بما في ذلك قضايا الاقتصاد والبيئة والأمن القومي، فيمكن عندها أن نظل دوما «حياة عارية»، وتغدو الديمقراطية والحريات عبئا على السلطة، أثناء تأديتها لوظائفها المتعلقة بإعادة إنتاج حياتنا، وهذا ميل لا يمكن عدم ملاحظته في عمل السلطات المعاصرة، خاصة مع تزايد التحكّم التكنوقراطي. هنا يمكن العودة للنقد «اليميني» للدولة، فهو قادر على طرح بعض الأسئلة المهمة بهذا الخصوص.

ذكاء بأثر رجعي

لا يبدي النقّاد الليبراليون والليبرتاريون اهتماما كبيرا بنظريات ميشيل فوكو وجورجيو أغامبين عن السياسات الحيوية، وحالة الاستثناء، ولكنهم ينتقدون «دولة الطوارئ الدائمة» من زاوية أخرى، غير متعارضة مع تلك النظريات بالضرورة. نحن لا ندين ببقائنا، حسب هذا المنظور، لسياسات الدول، بل ربما كان العكس صحيحا إلى حد ما. فشل الحكومات وتخبطها في التعامل مع تهديد فيروس كورونا ساهم بانتشاره عالميا: تكتّم الحكومة الصينية عن الوباء في البدايات، إهمال الحكومات الأوروبية للخطر، فشل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلخ. وبعد أن حلّت الكارثة صار بإمكان جميع الأطراف الحكومية ادعاء الحكمة والذكاء بأثر رجعي، والتصرف وكأنها الطرف الوحيد المؤهل للتعامل مع الأزمة.
يدّل مشهد رفوف المتاجر المليئة بالسلع، رغم الوباء، وتنافس شركات الأدوية على إنتاج اللقاحات، على قدرة السوق الحرة على التعامل مع الأزمة، بكفاءة تفوق كفاءة الدول. كما أن دور قادة المجتمعات المحلية، في التوعية بخطورة المرض، أكثر أهمية ونجاعة بكثير من نشر الشرطة والجيش، لإجبار الناس على البقاء في بيوتهم. الأهم أن السلطة السياسية تدفعنا للتعامل بانتقائية مع حياة البشر: من هي الفئات الضعيفة حقا في المجتمع، التي يجب حمايتها من الوباء وآثاره الاقتصادية والاجتماعية، كبار السن والمرضى؟ أم العمال والفقراء المتضررون من خسارة أعمالهم؟ هل من المنطقي والأخلاقي الالتزام بإجراءات قد تؤدي لمجاعات واضطرابات اجتماعية أشد وطأة من الوباء ذاته؟ هل يمكن للحكومة أن تدير الاقتصاد بشكل يحفظ النمو والازدهار الاقتصادي الذي يعتمد عليه ملايين البشر؟ كل هذه الأسئلة، يجب أن لا تُترك الإجابة عنها، حسب هذا المنظور، لتسلّط دولة كبيرة. البشر قادرون أثناء ممارستهم لحياتهم العادية على تقديم إجابات متنوعة وأكثر مرونة مما يحدده جهاز دولة متضخّم.
يهمل هذا المنظور العمومية التي يتيحها جهاز الدولة، فدون رعاية صحية منظمة وشاملة لجميع السكان قد ينهار النظام الاجتماعي نفسه، بسبب انتشار المرض، وحرمان الفئات الأفقر من تلقي العلاج، وعندها قد تصـــبح حماية الملكـــية الخاصة نفسها، وهو الدور الذي يسند أساسا لـ«الدولة الصغيرة»، أمرا غير مضمون. كما أن الأسواق والمجتمعات قد تغرق في الفوضى، بدون ضبط سياسي عام. رغم هذا فمن المثير للاهتمام في هذا الطرح أن الدول قد تقوم بتعظيم سلطاتها لحلّ مشاكل ساهمت هي نفسها في خلقها وتفاقمها.

استعادة الدولة

ربما كان نقد مفهوم الدولة نفسه ترفا في مواجهة أزمات كبرى مثل انتشار فيروس كورونا، وقد يكون من الصعب إيجاد بديل عن «السياسات الحيوية». الأجدى مناقشة طبيعة الدول القائمة نفسها، هنا يصبح السؤال ليس عن الثقة بالسلطة التنفيذية وإجراءاتها، حسب طرح فرانسيس فوكوياما مثلا، بل عن التكوين الطبقي لهذه الدولة، ومدى مراعاتها للحقوق الأساسية للمواطنين، أثناء تصديها للضرورات الكبرى. لا تستطيع الدولة بسهولة رد البشر إلى وضعية «الحياة العارية» بوجود حياة سياسية مزدهرة وحيّز عام يتمتع بقدر من الحرية، كما قد يمكن وضع حدود لتدخلات «الدولة الكبيرة»، إذا كان لدى القوى الاجتماعية الإمكانية لتنظيم نفسها، وفرض نوع من الرقابة على جهاز الدولة. يصبح السؤال بهذا المعنى عن طبيعة الأنظمة السياسية التي يمكن إقامتها في عصرنا: حكم الأولغارشيين والخبراء؟ أم الديمقراطية بمعناها الأكثر شعبية؟ أي قدرة الطبقات الأدنى على تمثيل وتنظيم نفسها، وفرض مصالحها على جهاز الدولة، ما يجعلها تستولي عليه بشكل أو بآخر. يمكن عندها أن تراعي الضرورات الطبية والاقتصادية والبيئة مصالح أغلبية السكان، وتحترم حرياتهم الأساسية، حتى لو تناقضت مع «حماية الملكية الخاصة» أو العقائد السائدة. رغم هذا يبقى هذا الطرح نظريا في غياب القوى الاجتماعية القادرة على تنظيم نفسها لاستعادة الديمقراطية. ولذلك فربما لا يبقى لنا، في الظرف الحالي، إلا الاستماع لنقّاد الدولة.

٭ كاتب من سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمار:

    السياسات الحيوية الحصيفة والسياسات الاقتصادية الفعالة هما مكملات لبعضهما البعض وليسا بدائل في الاجل الطويل.. والتحدي ثنائي في هذا الوقت اكثر من اي وقت اخر

إشترك في قائمتنا البريدية