سيأتي اليوم الذي أنشر فيه كتابي عن اللواتي غررن بي، عن اللواتي ضحكن عليّ، وفيه سأكتب عن الحبيبة التي ذهبتُ إليها في ظروف بالغة القسوة والتعقيد، نجوتُ خلالها من رصاص كان ينطلق حولي، لتُرديني هي، بعد ذلك، بطعنات وطعنات! سأكتب عن المرأة التي تركتني يوما، لا لشيء إلا لأنني، من وجهة نظرها، مثقف وأديب، وهي لا تحب الأدباء ولا المثقفين! سأكتب عن الأخرى التي نسجتْ شِراكها بمهارة لأكتب فيها قصيدة تدخل بها التاريخ كما قالت، ثم ألقت بي على قارعة الطريق، عاريا إلا من حزني ودهشتي! سأكتب عن التي استنجدت بي، واستصرختني درءا لفضيحتها، لتفضحني هي بعد ذلك! سأكتب عن التي قضت وطرها مني، وذهبتْ لتذيع بين الناس أنني رومانسي زيادة عن اللزوم!
هذا ما كتبه بالفعل أشرف البولاقي في كتابه «هند وهزائم أخرى.. كتابات في الحزن والثقافة» الصادر عن دار ميتا بوك للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة، وفيه يقول إنه كان عام 1994 في السادسة والعشرين من عمره، وعرف هند التي كان ترتيبها المحبوبة الخامسة في حياته، كان متزوجا وقتها، ولعلها كانت الوحيدة التي احتفظ بعلاقته معها سرّا بسبب الخوف من نفوذ أبيها الذي كان ضابط شرطة، وكانت هند تعرف أنه متزوج، فلم تمتلك جرأة الحلم بالارتباط، ولا هو كان ساعتها يمتلك جرأة مغامرة الزواج الثاني، خاصة لو كان من ابنة ضابط شرطة!
أكبر خدعة
في كتابه هذا الذي يكشف لنا فيه البولاقي عن هزائمه التي تلقاها في حياته، وعلى رأسها هزيمته بعدم تكملة مشواره مع حبيبته هند، وبعض هزائمه مع هند ابنته التي تعب كثيرا، وعانى على مدار سنوات في رحلة علاجها، مثلما يكشف لنا أن الحياة خدعته كثيرا على يد حبيبات وزوجات وصديقات، وأصدقاء قليلين، ذاكرا أن أكبر خدعة تلقاها كانت من الكاتب الراحل جمال الغيطاني، الذي قال عن البولاقي، ومعه من فازوا بمسابقة «أخبار الأدب» في صيف عام 1995، إن القاهرة اهتزت تحت أقدام المبدعين الفائزين وهم يمشون في شوارعها، ما جعله يعيش خيال الشهرة، بينما كان السؤال الذي ظل يؤرقه حتى وجد إجابة له هو: هل خذلته هند؟ أم هو الذي خذلها؟ موجها إلى هند قوله:
وحده الشعر انتظاري
وانتصاري
فاذكري أني انتظرتُ
ومتُّ مهزوما أغني!
البولاقي الذي يعترف لقرائه هنا، دون خجل أو خوف، أنه تم التغرير به، والاحتيال عليه، والإيقاع به مرات ومرات في براثن وأشراك ومصائد، وفي علاقات حب وهوى وزواج، دفع، ولا يزال يدفع، ثمنها غاليا، نزيفا وألما وقلقا وقضايا ومحاكم أيضا، بينما يظن الناس به غير ذلك، يقول إنه، في الصف الرابع الابتدائي، دفع ثمن غرامه بالجلوس قريبا من شاشة التلفزيون، وقراءة القصص والمجلات ليلا أثناء انقطاع الكهرباء، بأن فرض الطبيب عليه وقتذاك أن يرتدي نظارة طبية، النظارة التي جعلته محط سخرية أقرانه منه، فضلا عن رغبتهم في الاحتكاك به والتعامل معه بعنف، لأنه يبدو مختلفا عنهم، وهو يرتدي هذه الآلة التي يجب تحطيمها! ذاكرا أن هذه النظارة، في ذاك الوقت، وفي بيئة قروية، منحته حضورا مميزا، خاصة مع ما كان يتمتع به من وسامة وبراءة، وجدٍّ ونشاط في دراسته وتعليمه.
زمن القبح والطغيان
هنا أيضا يعترف أبا هند، أقصد أشرف البولاقي، أنه لا يحب الأهلي، ولا يحب صالح سليم، ولم يعتقد يوما أن نجاة الصغيرة ممثلة جيدة، كما يعترف بأن إحساسه بتناقص حاسة الإبصار عنده بدأ منذ سنوات، لكن تفاقمه وإحساسه بدخول منطقة الخطر، واقتراب تجربة العمى، اشتد وتفاقم بعد رحيل المرأة التي أحبها، وأيضا هو لا يقيم وزنا لأحمد موسى، ولا لسعيد حساسين، ولا لعزمي مجاهد، ولا لعمرو أديب وأمثالهم، مشيرا إلى أنك حين تصحو من نومك في زمن الطبالين، على طبال جديد، فليس ثمة كارثة، وأن تقرأ لطفيليين أو وصوليين، أو تشاهدهم يظهرون في المشهد الثقافي، أو السياسي، أو الإعلامي، فهذا أمر متوقع وعادي في زمن القبح والطغيان، مؤكدا أن الوزن والأهمية عنده للمثقف والفنان، لصاحب الحرف والكلمة والقلم، للكاتب الحقيقي الذي يتحول فجأة إلى بوق لنظام سياسي، يدافع عن أخطائه، ويبرر له جرائمه، واصفا هذا التحول بأنه شيء يصعب وصفه ويستغلق على الفهم أن يكون المال، أو السلطة، أو النفوذ، مبررا لبيع الشرف، أو القيمة، أو المبدأ!
أشرف البولاقي الذي يعتبر، كآخرين غيره، أن حالة الإبداع حالة ذات طبيعة خاصة ملغزة وأسطورية لا تفسير لها، رغم كل اجتهادات النقاد والأطباء والباحثين، في محاولاتهم لسبر أغوارها، يذكر هنا أنه كتب كثيرا عن الفرق بين المبدع والمثقف، عن أن المبدع لا يشترط فيه أن يكون مثقفا ولا حتى واعيا، بل يمكن أن يكون وعيه كله مرتبطا فقط بلحظة الإبداع، كما أن مِن المبدعين مَن لا تغريهم فكرة الحرية، فكرة أن يكونوا هم أنفسهم أحرارا، ومنهم ضيقو الأفق، ومنهم متطرفون وإرهابيون ومنهم منافقون.
مما يراه البولاقي هنا أيضا أن من يريد أن يكون فاعلا حقيقيّا، أن يترك أثرا وعلامة، عليه أن يبتكر شيئا مختلفا عن السائد والمألوف، خاصة إن كان يمتلك القرار والميزانية، مضيفا أن هناك شعراء ومثقفين كبارا، لكن الأمر لا بالشعر ولا بالثقافة، إنما هو بالعقلية التي تبدع، بالثورة على القديم البالي، بالشجاعة والمواجهة، وليس بالتقليد ولا بالمحاكاة، ولا بنظرية ترضية جميع الأطراف.
تاريخ ملغوم
في سياق كشفه لهزائمه هنا واعترافه بها يكتب أشرف البولاقي قائلا، إنه لا أحد يعرف على وجه الدقة متى ظهرت الكتابة أول مرة، لكن الذي لا شك فيه أنها كانت في أول ظهورها نوعا من التسجيل والتوثيق فقط، حتى تحولت بمرور الوقت إلى أداة للتعبير عن الذات أو المحيط، وشيئا فشيئا ظهرت الكتابة الإبداعية التي اعتبرها بعضهم، أحيانا، تزجية لأوقات الفراغ، أو تسلية أو عزاء، كما اعتُبر الكاتب الذي يمارس الكتابة بجد وإخلاص مجنونا أو ملتاثا، ما دام لا ينال أجرا أو مكافأة على كتابته، مشيرا ، حال عروجه إلى الحديث عن الجوائز، إلى أنها تحظى بتاريخ ملغوم في العالم كله، لا يخلو من الغمز واللمز، وللجوائز في ثقافتنا العربية تاريخ فضائحي بامتياز، أو فضائحي برخصة، لا يستتر فيها المتورطون ولا يستشعرون حياء ولا حرجا مِن كشْف تواطئهم أو تربيطاتهم أو مجاملاتهم. هزيمة أخرى، من هزائم البولاقي، تظهر لنا هنا حين نقرأ قوله إنه لا أحد يعرف الأسباب الحقيقية وراء تلوث كل شيء في مصر! مع تفهّمنا لأسباب تلوث الماء أو الهواء، واستيعابنا لتلوث الساسة والسياسيين، لكن أن يتلوث كل فعل أدبي أو مشهد ثقافي، فهذا بؤس وشقاء ويأس في الحاضر والمستقبل معا، متحدثا عن شروط وضوابط الوسط الثقافي التي لا يملك أحد تغييرها، مقرّا بوجود الشللية في كل ركن وزاوية، ذاكرا أن المشغول بالقراءة الجادة والكتابة الحقيقية في الأدب والفنون، ماضٍ على الطريق، والمشغول برصد الواقع الثقافي وتأمله، لا بأس عليه، والمشغول بالذهاب إلى الندوات والأمسيات والمشاركة الدائمة فيها، فلا بأس في هذا أيضا، بينما المشغول بتآمر الآخرين ضده فهو في مشكلة كبيرة، لا بد أن يتجاوزها بسرعة.
في كتابه الذي يتساءل فيه: ما الذي يدفع الناس إلى الوهم والخرافة؟ وما الذي يدفعهم إلى تصديق أكاذيب يؤكد العقل والمنطق زيفها وبطلانها؟ يعبّر أشرف البولاقي في ما يزيد عن مئة وثلاثين صفحة قليلا، عن هزائمه هو، وهي أيضا تشبه هزائمنا نحن القراء، العاطفية، الثقافية، السياسية والدينية، متحدثا، إلى جانب حديثه عن «هِنْدَيْه» عن فتنة العمى، عن الجوائز وفقهها المندوب والجائز، عن الواقع الثقافي، عن الشعر والشعراء، وعن كرة القدم ومفاهيم الحداثة والديمقراطية، واضعا القارئ في قلب المشهد الثقافي، كاشفا الغطاء عن كواليسه، وعما يحدث بعيدا عن أعين الكثيرين، مستنكرا وصول هذا المشهد إلى مثل هذه الحالة من التردي، متمنيا، بين ثنايا سطور كتاب هزائمه، أن يأتي الغد بجديد يُعيد كل الأمور، على كل المستويات، إلى نصابها الحقيقي، معالجا كل أمراض هذا الوسط، علاجا لا يترك خلفه عيبا أو عوارا.
كاتب مصري