لم تكن علاقات الجزائر مع دول الخليج العربية يوما على ودّ كبير. وعلى الأرجح لن تكون أبدًا. ينطبق هذا الكلام على علاقات الجزائر مع الإمارات أكثر من غيرها. تراوحت هذه العلاقات، منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، بين عادية وفاترة. لم تتطور إلى مستوى استثنائي، لكنها لم تتدهور إلى درجة القطيعة.
التناقض السياسي والأيديولوجي والاقتصادي بين نظامي الحكم في كلٍّ من الجزائر وأبوظبي متجذر وغير قابل للإصلاح إلا إذا تغيّر أحد النظامين في العمق، وهذا من ضروب المستحيل.
ثم جاءت قضايا النفط والأزمات الحديثة في المحيط العربي وما فرضته من تحالفات ومخاوف لتزيد الهوة بين الطرفين اتساعا. أما فصول التقارب التي شهدتها هذه العلاقات هنا وهناك، فكانت مفتعلة وسطحية وعابرة.
على عكس الجزائر، الإمارات أقرب إلى المغرب بحكم تشابه منظومتي الحكم في البلدين وانتسابهما إلى المعسكر الغربي الرأسمالي. هذا علاوة على العلاقات الشخصية بين قادة البلدين في أعلى الهرم، والتي تُلقي بثقلها على علاقات البلدين في غياب مؤسسات حكم تقليدية ومجتمع مدني مؤثر (عندما توجد مؤسسات الحكم والمجتمع المدني، كما هو الحال في المغرب، فهي بلا تأثير أمام رغبات القصر وسطوة الدولة العميقة).
لهذا، لم أجد الهجوم الإعلامي الجزائري على الإمارات نهاية الأسبوع الماضي غريبا أو مفاجئا. وجدته فقط غير طبيعي من حيث لغته الحادة وبعض ألفاظه الأقرب إلى الشتيمة.
مثل الهجوم الإعلامي الأخير، لم يفاجئني الخبر الذي نشرته صحيفة «النهار» قبل خمسة أسابيع عن خلية التجسس الإماراتية التي زُعم أن الجزائر ضبطتها، وطرد السفير الإماراتي.
استغربتُ أكثر رد الفعل الجزائري الحاد على خبر «النهار» والإطاحة بوزير الإعلام بعد لحظات من نشره (في مؤسسة إعلامية يُفترض أنها خاصة) في ساعة متأخرة من الليل.
القضية الرسمية ممثلة في الحملة على الإمارات تُركت للصحافة بينما تولت الجهات الرسمية، عبر وكالة الأنباء الجزائرية، مهمة تقريع مؤسسة إعلامية، «فرنس 24»
من الواضح أن الإمارات باتت تزعج دوائر السياسة والحكم في الجزائر. ومن الواضح أكثر أن في نظام الحكم طائفة تريد فتح جبهة مواجهة مع أبوظبي فسرّبت خبر خلية التجسس وطرد السفير، وأخرى تريد التهدئة فعالجت الأمر بعزل وزير الإعلام وإصدار بيان تكذيب أشبه باعتذار من دولة الإمارات.
مع انتشار تقرير «أبوظبي عاصمة التخلاط» في صحيفة «الخبر» الخميس الماضي، بكل ما فيه من حدَّة وجرأة تجاوزت الأعراف، يبدو أن تيار التصعيد داخل منظومة الحكم سجّل نقطة في انتظار القادم من فصول المنافسة.
أرجّح أن ما ورد في تقرير «الخبر» يتضمن بعض الصحة وربما الكثير. قادة الإمارات لم يتركوا بلادا في المنطقة لم يلعبوا في حديقتها، فلماذا تكون الجزائر الاستثناء؟
منذ وفاة الشيخ زايد قبل أكثر من عشرين سنة ومرض نجله الشيخ خليفة وانتهاء مقاليد الحكم الفعلي في يد الشيخ محمد بن زايد، وليّ عهد أبوظبي إلى عهد قريب، تبّنت الإمارات سياسة خارجية (وداخلية) مفرطة في الاندفاع والبراغماتية تدوس على كل المبادئ والمُثل التي قامت عليها الدبلوماسية الجزائرية.
هذا الاندفاع جعل أبوظبي «تتآمر» على كل من يقف في طريقها أو تعتقد أنه يحدّ من أطماعها الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية.
بالمنطق الجزائري، الإمارات تآمرت على كل الناس في كل مكان. من بسطاء المسلمين في أوروبا الذين لفّقت لهم ملفات أمنية تحت عناوين «الإخوان» والإرهاب، إلى ليبيا وتونس وتركيا وكل دول إفريقيا تقريبا وأفغانستان ووسط آسيا والجزر المجهرية المنسية في المحيطات والدول ذات الموانئ الاستراتيجية.
في كل بلد تجد الإمارات ذريعة تعتقد أنها كافية للتدخل.. هنا النفط، هناك الذهب ومعادن ثمينة أخرى، ثم الموانئ فـ»الإخوان» فالأراضي الزراعية، وتسيير المطارات.. إلخ.
ولأن هذا النهم أثبت جدواه والتدخلات أثمرت فوائد مادية ونفوذا استراتيجيا كبيرا، ومع مرور الوقت، جعلت الإمارات من انتشارها في الخارج العقيدة الأساسية لدبلوماسيتها.
وزاد المال الوفير الطين بلّة بأنْ منح قادة الإمارات نفوذا قويا استسلمت أمامه حتى أعتى الديمقراطيات والاقتصادات الغربية.
في عالم اليوم الأشبه بالغابة، تأكل فيه أو تُؤكل، تبدو الإمارات في معسكر الآكلين وتصرفاتها متناغمة مع ما يجب أن يكون. إذا ما تأكدت الأنباء عن تحريضها المغرب على الجزائر، فلا غرابة لأن ذلك سيكون هو الأصل.
في المقابل، تبدو المنظومة الحاكمة في الجزائر منقطعة عن حقيقة عالم اليوم القائم على الدسائس والمؤامرات. أسوأ من الانقطاع، هذا الارتباك الواضح في التعامل مع معضلة الإمارات. ماذا تغيّر في الأسابيع القليلة الفاصلة بين الـ20 من حزيران (يونيو) والـ26 من تموز (يوليو) الماضيَين؟ في التاريخ الأول أطاح خبر بوزير الإعلام وتطلّب بيانا رسميا من الخارجية أثنى بقوة على «العلاقات الجزائرية الإماراتية المتينة». وفي التاريخ الثاني أصبحت الإمارات هي الشيطان الرجيم. فمن نُصدّق، «النهار» أم «الخبر»؟
في الحالتين، تُرك الإعلام الرسمي بعيدا عن الموضوع وأوكلت مهمة التصويب على الإمارات لصحف خاصة كأنما يراد من ذلك إبقاء الموقف الرسمي فوق الشبهات. لكن في الجزائر بالذات لا تستطيع السلطة أن تدّعي أن الصحافة مستقلة وتقول: حرية التعبير مكفولة والصحافيون أحرار لا نستطيع التدخل في ما يكتبون!
ما لا يتجادل فيه عاقلان أن ما نشرته «الخبر» وتناقلته وسائل إعلام أخرى صدر بتوجيه من جهات عليا في الحكم. لكن ما يُضعف نوبة الغضب حيال الإمارات، ورغم ما قد يكون فيها من وجاهة، أنها تزامنت مع هجوم لاذع شنّته السلطات الجزائرية عبر وكالة الأنباء الرسمية، على قناة «فرنس 24» التلفزيونية الفرنسية.
ما لا يسهل فهمه أيضا أن القضية الرسمية ممثلة في الحملة على الإمارات تُركت للصحافة بينما تولت الجهات الرسمية، عبر وكالة الأنباء الجزائرية، مهمة تقريع مؤسسة إعلامية، «فرنس 24».
وما يثير الاستغراب أيضا هو السكوت شبه المطبق في وسائل الإعلام الأخرى، وحتى في «الخبر» نفسها، عن العودة إلى الموضوع بتعليقات ومتابعة. يستحيل أن يكون موضوع كهذا مجرد حجرة ألقيت في واد سحيق لو لم تكن زمرة في الحكم أوحت للإعلام بإثارته أولًا ثم السكوت عنه ثانيا. وكأنها فقط قرصة أذن للإمارات في انتظار الخطوة التالية التي قد تكون تصعيدا أو ربما تفاهما.
كل هذا يعطي الانطباع بوجود ارتباك وبأن أصحاب هذه الهجومات مجرّد هواة يبحثون عن أعداء خارجيين يُفرغون فيهم شحنات غضبهم ويُصفّون عبرهم خلافاتهم الداخلية.
كاتب صحافي جزائري