التأويل والذكاء الاصطناعي

مما لا شك فيه أن فعل التأويل، منذ ولادته الأولى، في المجالين الأسطوري والديني اتباعا، أو كما يظهر الآن في الدرس الفلسفي المعاصر، كان وما زال ممارسة غير محايدة، مهما كانت درجة التزامنا بالقواعد اللسانية والمنهجية، فالتأويل، كما ورد في المعاجم والقواميس، هو عملية فهم وتفسير النصوص أو الرموز أو الظواهر بطريقة معينة، إذ يمكنه أن يكون علميا أو فلسفيا أو دينيا أو فنيا أو غير ذلك. وفي جميع الأحوال فإنه، أي التأويل، يهدف إلى كشف المعاني المخفية والمضمرة، أو المتعددة للنصوص، أو الرموز، أو الظواهر، وإلى تقديم تفسيرات مقنعة ومبررة لها وفق مرجعية معرفية أو أيديولوجية معينة.
ولما كان قدر عالمنا المعاصر أن يعيش في عصر تكنولوجي متقدم، حيث تساهم التقنية الرقمية في تغيير جوانب حياتنا المختلفة، بدءا من التواصل وانتهاءً بالثقافة والفن، فإن واحدة من الظواهر الثقافية الناشئة في هذا العصر، ارتباطا بقضية التأويل، هي التأويل الرقمي، بما هو حدث جديد، وفن استشفافي يحاول فهم وتفسير الأعمال الفنية والنصوص الثقافية باستخدام التقنيات المتوفرة والمتاحة. ومع ظهور ما يسمى الآن بالذكاء الاصطناعي، وتطوره المذهل، خصوصا في العقود الأخيرة، إذ أصبحت الأنظمة الذكية قادرة على معالجة البيانات وتحليلها، واتخاذ القرارات بطريقة مشابهة للإنسان، إن لم تكن أفضل، فإن الأمر أصبح معقدا للغاية، في مدى قدرة هذا الذكاء على تأويل النصوص المعقدة.
صحيح أن الذكاء الاصطناعي هو قفزة نوعية وفريدة في عالم البرمجيات ، وصيحة تكنولوجية ومعلوماتية، غزت جميع مجالات الحياة، وهو فرع من الفروع الحديثة التابع لعلوم الكمبيوتر، هدفه الأساس يتمثل في بناء آلات ذكية قادرة على أداء المهمات المعقدة، حتى لو تطلب حلها ذكاء بشريا، وصحيح أيضا أن الذكاء الاصطناعي يستخدم عددا من الخوارزميات والبيانات لتحديد الأنماط، وإنتاج التنبؤات، وحل المشكلات، والتعلم من الأخطاء، إلا أنه من حقنا أن نتساءل: هل في إمكان التأويل الرقمي، الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي اليوم، أن يصبح تأويلا دقيقا لمجمل النصوص والرموز المعروضة للاختبار، بشكل يفوق التأويل البشري؟ وهل هناك، فعلا، علاقة ممكنة بين التأويل والذكاء الاصطناعي؟ الحق إن التأويل، كما أتصوره، يشكل تحديا كبيرا للذكاء الاصطناعي، لأنه يتطلب قدرات معرفية ولغوية وثقافية وإبداعية ما تزال صعبة على الآلات تحقيقها. فالتأويل، كما أشرت في البداية، ليس مجرد عملية منطقية أو رياضية، بل هو عملية ديناميكية وسياقية وتفاعلية، تتأثر بالخبرات والانفعالات والقيم والافتراضات للمتأول، كما أن التأويل ليس محصورا أو محدودا بتفسير واحد صحيح ونهائي، بل إنه يسمح بتفسيرات متعددة ومتغيرة، حسب المنظورات والغايات المختلفة، لذلك، فإن تزويد الآلات بقدرة التأول، قد يحتاج إلى تطور كبير في مجالات مثل، التعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي التوليدي. ومع ذلك أقول إن التأويل الرقمي، بوصفه عملية تعتمد بالأساس على الاستفادة من القدرات التحليلية للذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحوسبية، لفهم المضمون الأساسي للأعمال الفنية وغيرها، وكذا معانيها المخفية، يتيح للباحثين والمهتمين بالفن والثقافة فتح آفاق جديدة للتفاعل مع الأعمال الفنية واستنباط معانٍ جديدة وعروض تفسيرية متنوعة.
أيضا وعطفا على ذلك، إن عملية التأويل الرقمي، تبدو قادرة اليوم على استخدام تقنيات تحليل البيانات، والتعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات الثقافية الضخمة، مثل النصوص الأدبية والأعمال الفنية والأرشيفات التاريخية، وذلك باستخدام الخوارزميات المعقدة لتحليل هذه البيانات، والكشف عن الأنماط والتوجهات والرموز الثقافية الكامنة فيها، على سبيل المثال، يمكن استخدام التأويل الرقمي لفهم الأشعار والقصائد القديمة بشكل أعمق، وذلك باستخدام تقنيات التعلم الآلي، كما يمكن للأجهزة الذكية أن تحلل الأنماط الشعرية، مثلما في إمكانها إعادة بناء الهياكل الشعرية ومطاردة معانيها الرمزية المحتملة. والحاصل إن إجراء كهذا، يمكنه أن يساعد في الكشف عن تفاصيل جديدة في القصائد، وإلقاء الضوء على معانٍ مخفية قد لا يلاحظها القارئ التقليدي، بل إن التأويل الرقمي في إمكانه أن يوسع نطاق الفهم والتفسير في الفنون البصرية أيضاً، إذ يمكن استخدام التقنيات الرقمية لتحليل الألوان والأشكال والخطوط في اللوحات الفنية، مما يمكن الباحثين من اكتشاف أنماط جديدة، وعلاقات بصرية مختلفة، بما يخدم المؤول، ويساعده على فهم رؤية الفنان، وتأويل رسالته الفنية بشكل أعمق.

ومع كل هذه الإنجازات والنجاحات، التي قد يحققها التأويل الرقمي، بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي، فإنه ليس بالأمر السهل والهين، كما قد يتوهمه المنبهرون بهذه التقنية الجديدة. فهو يتطلب تفهماً عميقاً للبيانات والسياق والمعرفة المحيطة بالموضوع المراد تأويله. علاوة على ذلك، قد تواجه الأنظمة الذكية تحديات كبرى في فهم اللغة الطبيعية المعقدة للنصوص، وتعدد معانيها، وتعابيرها المجازية والرمزية، بالإضافة إلى ذلك، بل إن البيانات المستخدمة في التأويل قد تكون محدودة أو غير كافية، ما يؤثر على دقة النتائج المعروضة. أكثر من ذلك إن التأويل الرقمي، مع كل هذه الميزات والقدرات المشار إليها سابقا، فإنه يثير في الذكاء الاصطناعي كذلك، مخاوف وتساؤلات حول الأخلاقيات والمسائل القانونية المتعلقة بالبيانات والخصوصية، فعلى سبيل المثال، كيف يتعامل النظام الذكي مع البيانات الشخصية والحساسة؟ وهل يمكن لهذا النظام أن يتأثر بتحيزات إنسانية أو تفضيلات معينة في تحليل البيانات؟
وحتى نبقى متفائلين بالمستقبل، بالتفاعل مع مكتسبات العصر من أجل فهم كينونتنا على نحو أفضل، فإنه في اعتقادي المتواضع، وعلى الرغم من كل هذه الشوائب التي تشوب التأويل الرقمي الآن، وتشوش على قدرته على تأويل المعطيات كيفما كانت طبيعتها، أدبية، فلسفية، دينية، تجارية أو تسويقية، فإنه يعتبر تحدياً مثيراً للاهتمام في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يتم الآن، وبشكل متسارع، تطوير الخوارزميات وتقنيات التعلم العميق لتحسين القدرة على التأويل. ومع تقدم التقنيات، يمكن تطبيق التأويل في مجالات متنوعة، مثل الترجمة الآلية، وتحليل المشاعر، واستخراج المعلومات من النصوص كما يؤكد الخبراء في هذا المجال. وما دام أن التأويل يشكل فرصة كبيرة للذكاء الاصطناعي، إذ في إمكانه المساهمة في تحسين جودة وفائدة المخرجات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، كما يمكنه أن يساعد في توضيح وتفسير وتقييم ونقد وتحسين الخوارزميات والبيانات والتنبؤات والمشكلات والحلول التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، فضلا عن قدرته على المساعدة في توصيل وتبادل وتطبيق الحلول التي يقترحها الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر ملاءمة وفعالية للمستخدمين، فإن تزويد الآلات بقدرة التأول قد يحتاج إلى تعاون كبير بين مجالات متعددة مثل، علوم الحاسوب والعلوم الإنسانية وغيرها من العلوم.
عموما، يعد التأويل الرقمي واحدا من أهم التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للنظم الذكية أن تفهم وتحلل البيانات بطريقة تشابه التفكير البشري، كما أن استخدام التأويل في الذكاء الاصطناعي يفتح أبوابا جديدة للتطبيقات المبتكرة وتحسين الأداء في مجموعة متنوعة من المجالات، ومع ذلك، أنبه إلى أنه ينبغي معالجة التحديات والقضايا المتعلقة بالأخلاقيات والخصوصية، لضمان استخدام التأويل بطريقة مسؤولة وموثوقة في عالم المعرفة، حفاظا على ما تبقى من إنسانية الإنسان.

شاعر وناقد مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية