قبل أسابيع قليلة كانت السنغال وجيرانها والمهتمون بها في خوف وقلق من احتمال انزلاقها إلى صراع أهلي. كان الخوف من أن يقود الغضب الشعبي قبل الانتخابات الرئاسية وعناد الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، إلى ما لا يُحمد عقباه. لكن حدث العكس وخرجت السنغال منتصرة.
مع اقتراب موعد الاقتراع اتضح أن الرئيس سال ينوي البقاء في السلطة ولو بانتهاك الدستور الذي ينص على فترتين رئاسيتين استهلكهما سال. حاول أكثر من مرة بأكثر من طريقة «دستورية». اعتقال معارضيه ووضع العراقيل القانونية في طريق ترشحهم. جرّب ربح الوقت بتأخير موعد الاقتراع سنة. وراهن على مرشح من صنعه (أحمدو با) ووفر له ما استطاع من ظروف ليخلفه في المنصب حال فشلت مساعيه. (العقل المدبر لحملة المرشح با هو أرون شافيف المقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومدير حملته في انتخابات 2015. شافيف شديد الحضور والنشاط في إفريقيا، وفق موقع أفريكا إنتلجنس واسع الاطلاع).
لكن كل محاولات الانقلاب «الدستورية» التي خطط لها سال فشلت لأن السنغاليين قالوا لا. الفضل في إحباط جهود سال يعود إلى يقظة المعارضة السياسية ونضجها، وإلى استقلالية مؤسسات الدولة مثل المجلس الدستوري، وتصميم الشعب على منعه من الترشح لولاية ثالثة وعلى رفض مرشحه (با). بفضل هذا المجهود الجماعي المثير للإعجاب سيسلّم سال الحكم لخليفته باصيرو ديوماي فاي في الموعد المقرر دستوريا اليوم.
الجميل في التجربة السنغالية أن مرشح المعارضة، ديوماي فاي، فاز فوزا لا غبار عليه اضطر الجميع، وأولهم الرئيس سال، للاعتراف بالهزيمة والترتيب لبداية عهد جديد.
والأجمل أن الفائز بالرئاسة كان مرشحا بديلا عن المرشح الأصلي الذي زجَّ به سال في السجن، عصمان سونكو. أبانت المعارضة عن نضج كبير بترشيحها ديوماي فاي عندما رأت أن ترشح سونكو محفوف بالمخاطر، بقدر ما كان غباءً سياسيا من معسكر الرئيس أن رشح أحمدو با بديلا عن سال دون أن يمتلك الأخير جرأة الاعتراف علنا بأنه مرشحه.
انتهى المخاض السياسي بسلام وأثبت السنغاليون، شعبا وساسة، أنهم الاستثناء في منطقة تغمرها الانقلابات (ثمانية انقلابات عسكرية خلال السنوات الثلاث الأخيرة) وسطوة «البوط العسكري» ولغة التهديد والوعيد ولا أريكم إلا ما أرى. تحوّل القلق على مصير السنغال إلى بهجة مضاعفة.. مرة لأن المسار الانتخابي انتهى بسلام، ومرة أخرى لأن الفائز قادم من المعارضة الحقيقية التي تحمل مشروعا، وخارجٌ للتو من فترة اعتقال سياسي (بسبب نص على فيسبوك انتقد فيه سجن رفيق دربه سونكو ورأت السلطات أنه يحرِّض ضد سلطة الدولة ومؤسساتها) بينما كان الهدف الحقيقي منعه من الترشح.
أسباب نجاح التجربة السنغالية في 2024 عديدة منها أن السنغال لم تشهد صراعات أهلية وما تخلّفه من أحقاد وأمراض يكاد يستحيل الشفاء منها
القادم الجديد إلى الرئاسة، وإنْ اختلفت طريقة وصوله إلى أعلى منصب عن تجارب دول الجوار في طريقة، لكنه متناغم مع النفَس السائد في إفريقيا الفرنكوفونية المناهض للهيمنة الفرنسية.
كانت التجربة مؤلمة لأن الأجهزة الأمنية بقيادة وزير الداخلية محمدو مختار لم تُقصّر مع المتظاهرين. فالقمع الذي واجهت به السلطات تظاهرات الاحتجاج التي عمّـت البلاد في شباط (فبراير) أوقع ثلاثة قتلى في مقتبل العمر وعشرات الجرحى. لكن هذه الحصيلة تعتبر تضحية متواضعة مقارنة بحجم التظاهرات، وبالهدف الأسمى والنتيجة المتمثلة في إحباط حلم سال بالبقاء في الرئاسة.
لماذا نجحت السنغال حيث فشل عرب وأفارقة آخرون رغم تشابه التجارب؟
النجاح ثمرة تجارب تتراكم مع الزمن ولا يأتي من فراغ. أسباب نجاح التجربة السنغالية في 2024 عديدة منها أن السنغال لم تشهد صراعات أهلية وما تخلّفه من أحقاد وأمراض يكاد يستحيل الشفاء منها.
كما أن السنغال، منذ استقلالها في 1960، وعلى عكس الكثير من الدول الإفريقية المجاورة والبعيدة، لم تشهد انقلابات على مَن في الحكم. عاشت أزمات داخلية وتظاهرات غضب، واقتربت من الصدام الخطير، لكن كل الأحداث كانت اجتماعية مطلبية، ونجحت البلاد في البقاء محصّنة من القتال على الكرسي.
العامل الآخر تواري الجيش عن المشهد السياسي، طيلة شهور من التأزم بين الرئيس ومعسكره من جهة والمعارضة والشارع من جهة أخرى، لم يسمع العالم موقفا علنيا للجيش مما يجري. لم يهدد الجيش ويتوعد، ولم يدَّع أنه حامي الديمقراطية والمنقذ المخلّص، وفي المقابل لم يطالبه أحد من السياسيين بالتدخل. يا لها من صفقة بسيطة لكنها جنّبت السنغال المصير المشؤوم الذي انزلقت إليه بعض دول الجوار التي تغوّل فيها العسكر.
التجربة السنغالية الحالية جديرة بأن تُدرَّس في كليات العلوم السياسية لأنها أعادت إلى الواجهة مسلَّمات سياسية يُراد لها أن تفقد جدواها ومعناها. من هذه المسلمات أن الديكتاتورية والطغيان ليسا قدرا محتوما، وأن الدنيا لا زالت تتسع للنضال السياسي السلمي، وأن الإيمان بقدرات الشعوب وفوائد وجود معارضة سياسية أمر إيجابي ويُثمر في نهاية المطاف.
هذه المسلَّمات، على بساطتها، أثمرت في السنغال معجزة قذفت بسياسي في مقتل العمر (أكمل الأسبوع الماضي 44 سنة) من زنازين السجون إلى القصر الرئاسي، وحوّلت نُذر حرب أهلية إلى بهجة سياسية عارمة ودرس ينظر إليه بحسد وإعجاب كل الذين نُكبت بلدانهم بالانقلابات والخيبات السياسية.
سيقولون إن هذه التجربة لن تنقذ السنغاليين من التخلف وآفاته. بالفعل، لكنها على الأقل لم تقذف بهم في أتون صراع أهلي يقضي على الأخضر واليابس، وأنقذتهم من دوس العسكر على رقابهم بداعي إنقاذ البلاد من فشل المدنيين وأخطائهم المزعومة.
كاتب صحافي جزائري