ليس غريبًا في تمثيلات ما بعد الحداثة أن تغدو الأجناس الأدبية غير محتواة ولا مقولبة، وفقا لما تحدده الثقافة وتياراتها الفكرية المتقلبة وأنظمتها التاريخية. فالجنس بوصفه عينات كينونة كتابية غير مستقرة الحدود، قد تتشابه كما قد تختلف مع أشكال كتابية أخرى في المجتمع الواحد، عنه في مجتمع آخر. وهكذا يمكن أن يقترب القص البوليسي من الرواية الجاسوسية من دون أن يكون أحدهما نوعاً للآخر.
وهذا معتاد في مرحلة العولمة الراهنة، التي تنادي بالتمرد على التبعية الأبوية، وتنطوي على رفض لعولمة الاستهلاك، وغير ذلك كثير كان قد انعكس على الأدب، تكيفا مع واقع ما بعد استعماري، تتعدد فيه مختلف الصور الثقافية واللغوية والتاريخية، وبعضها الآخر تبنته النظرية الأدبية، ومن ذلك دعوتها إلى مقت التحجر في القول بنقاء الأجناس، مؤكدة أهمية الاعتراف بالهجانة.
وحتّم هذا التصور تغييرات في المفاهيم والمصطلحات، التي درجت عليها نظريات الأدب والنقد الثقافي، في ما يخص النوع والنص والصورة والجنس والتكنيك وغيرها مما لم يعد يتحدد بما نألفه ونتداوله في الأدب ونقده، تماما كما هو الحال في وسائل الاتصال، التي هي متسارعة في تغيرها، ودائمة التبدل لا تستقر على حال. ونحن إذ نتحدث عن تصنيف أو تنويع في أجناس قصيدة النثر والرواية والقصة القصيرة وغيرها؛ فإننا نعلم أنها حصيلة تداخل إجناسي يجمع التاريخية بالتقعيد الفني للنظرية، وهذه التداخلية تقطع أي طريق أمام تحديد يحصر تقولبات الأجناس، أو يضع لها خريطة طريق معلومة وثابتة تسير وفقها.
وليست للإبداع موجهات معلومة تسيّره، من منطلق أن التحرر هو الذي يسيّره اعتمادا على إلهامٍ تطوعه الموهبة، فيظهر للعيان في شكل كتابي يوصف بأنه مبتدع يطور القديم أو يستحدث جديدًا لم يسبقه إليه سابق، بيد أن ذلك ليس سائبا حسب الأهواء الجانبية، ومتاحا في الحالات الضرورية وغير الضرورية؛ وإنما هو مشروط بمحددات بعضها له صلة بالتداخل، وبعضها قادر على تجاوز التداخل إلى العبور، الذي به تتوكد ناجزية الشكل الكتابي العابر على نحو نهائي.
والعبور مفهوم شاع في الدراسات الثقافية، وأدبيات التنظير ما بعد الحداثي، كتحصيل فكري لمفاهيم الانفتاح والتداخل والتعالق والتناص، والاندماج والامتزاج والاختلاط والسيولة، وكمقتضى من مقتضيات التعايش وتبعة من تبعات الاعتراف بالهويات الفرعية والإثنيات واللهجات الشعبية والممارسات الفلكلورية، والفئات المهمشة والجانبية، والثقافات الطرفية أولا، وثانيا كاستثمار للتنوعات الثقافية التي هي رأسمال رمزي يمكن للدول والأمم أن تشيع بوساطته معاني التأقلم والتسامح والتعدد، في ظل غياب شبه تام للقبضة الصلبة للسلطات الرسمية، لتحل محلها مفاهيم القوة الناعمة، التي بها تتلاشى صلادة السطوة بميوعة اللاسلطة بالمفهوم الكوزموبولتي، الذي نادى به فلاسفة ما بعد التنوير مثل، أولريش بك وتودوروف وجان ليوتار وزيغمونت باومان وغيرهم.
وهذا التصور السائل، وذاك الفهم الناعم ينعكس على الأدب بمختلف أجناسه، ولاسيما في العبور تجسيرا وبينية بالمتغايرات الشكلية والمختلفات الفكرية الحسية منها والتجريدية، وهكذا تتواصل الأجزاء والكليات شيئا بشيء، ومادة بمادة، وفكرة بفكرة، صهرا ومرورا واجتيازا. والبغية توثيق عرى المختلفات في إنتاج جديد متوافق، يتقولب مع القديم فيجدده لا أن يتمرد عليه ويرفضه. وكانت نظرية التداخل الإجناسي بمعطياتها الأيديولوجية المطروحة منذ أواخر القرن العشرين، قد طورت نظرية سبقتها هي، نظرية الأجناس التي كانت بدورها قد فندت كثيرًا من أدبيات نظرية الأنواع، وتمادت في التمرد عليها رفضًا وتجاوزًا. ومما ارتكنت إليه نظرية التداخل الأجناسي أن المتشابهات تحددت كما أن المتغايرات تبينت، وصار لكل واحدة منها حدّها وإطارها وأنساقها وأنماطها وصيغها، ومن ثم يكون الجمع بينها جمعًا بينيًا توافقيًا مجددا المعتاد المتغاير، والمألوف المتشابه لإنتاج المتوافق القادر على ضم المؤتلف والمختلف.
الأحقية في العبور الأجناسي، تكمن في أنّ العبور لا يكون إلا من شكل أو نوع أو جنس إلى جنس. وعدم مشروعية العبور من الجنس إلى النوع متأتية من منطقية الاتساع الذي يتحلى به مفهوم الجنس من جهة، ومحدودية التغاير واللااستقرار في تفرعات النوع من جهة أخرى.
وهذا الطرح فيه من الرحابة والمرونة، ما يسمح بالانتقال إلى مديات هي أبعد بكثير من مجرد الجمع والتداخل والتعالق والاندماج والمزج والتعالق. وساندت هذا الانتقال أدبيات الانفتاح والتعولم، ما بعد الحداثية التي شملت مختلف مرافق الحياة ومتاحاتها الشيئية واللاشيئية.
وسنصف هذا الانتقال بأنه عبور إجناسي مبني وفق رؤية بينية تجسِّر المسافات بين المتداخلين، أو المتضايفين النوعيين أو الأجناسيين، موسعة حدود القالب، حسب درجة البينية التي تجعل أمر العبور ممكنا ومنطقيا، يحقق الجنس العابر، وهو ما تناولناه تنظيرا ومعالجات إجرائية في كتابنا الجديد «نحو نظرية عابرة للأجناس في بينية التجنيس والتمثيل». ويتوقف العبور على تحقق أمرين: الأمر الأول أن يكون أحد المتضايفين جنسا راسخا يتمتع بالرسو والثبوت وصلادة التحقق والوثوق به جنسا قائما بذاته، كأن يكون من الأجناس الأرسطية، التي لها علاقة بالملحمة والدراما والشعر الغنائي، أو الأجناس التي مكّنها تطورها التاريخي من أن تثبت صلادة أجناسيتها كالقصة القصيرة وقصيدة النثر.
والأمر الثاني أن يكون المتضايف الآخر غير موصوف بالرسوخ الأجناسي، بسبب مرونته وميوعة تمثيلاته، ومحدودية الاشتغال فيه لكونه فرعا، وليس أصلا، كأن يكون شكلا في صورة الومضة/ التابلو/ العمود/ الهايكو/ النص التفاعلي، أو يكون نوعا في صورة القصة القصيرة جدا، أو الكتاب السردي، أو يكون جنسا من أجناس النثر أو الشعر، أو فنا كالتشكيل والتصوير والسينما والنحت، أو علماً مثل التاريخ والفلسفة وعلم النفس والميثولوجيا. وعملية التضايف من أجل التحويل البيني من شكل أو نوع أو جنس إلى جنس غيره، ستفضي حتما إلى ذوبان أو انصهار ذلك الشكل، أو النوع أو الجنس في قالب الجنس المعبور إليه، الذي هو عادة ما يكون أرسخ، حتى تتحقق به وحدة التجنيس، كأن يكون (رواية) أو (قصيدة النثر) وعندها سيتم التعامل معهما بوصفهما جنسين عابرين للأجناس. ولا يعني العبور بين الأجناس رفضا لولادة أجناس جديدة؛ وإنما هو رفض لتلك المحاولات، التي تستسهل عملية الولادة الأجناسية وتتعدى على متاحات قواعد التجنيس ومواضعاته، التي ليس من السهل اختراقها أو التمرد عليها. وقد تهكم رالف كوهين من ذاك الذي يتساءل: هل توجد أنواع ما بعد حداثية؟ وسبب التهكم متكئ على أساس منطقي، هو أنَّ ما بعد الحداثة هي نفسها تسعى إلى أن تنتهك الأنواع وتدمر الافتراض بالنقاء، لاسيما بعد أن دشنت حوارية باختين التعددية، وفنَّدت النقاء وفتحت الباب على مصراعيه للهجانة. أما ما ذهب إليه جوناثان كلر في القطع باللاتجنيس، من خلال نظريته في اللانوع، وفرضيته التي مؤداها أنه ما دامت كل الأشكال قابلة للقراءة والتمييز بلا حاجة إلى تحديد تنويعات لها، فلا شك أن فيه تمادياً ومغالاة، إذ ليس القول باللاحدود في صالح الأدب وتقسيماته، تماما كما أن في القول بالنقاء في الأجناس غلوا ومجانبة للحقيقة.
إن الأحقية في العبور الأجناسي، تكمن في أنّ العبور لا يكون إلا من شكل أو نوع أو جنس إلى جنس. وعدم مشروعية العبور من الجنس إلى النوع متأتية من منطقية الاتساع الذي يتحلى به مفهوم الجنس من جهة، ومحدودية التغاير واللااستقرار في تفرعات النوع من جهة أخرى. ولا يمكن للنوع بسبب تلك المحدودية وهذه اللااستقرارية من إثبات قدرته على الصمود الاصطلاحي أمام الجنس. بيد أن هذين السببين سينتفيان حين يندمج النوع بالجنس، ويكتسبان سمات الجنس المعبور إليه واصطلاحيته، بعد أن يكونا قد تداخلا وتموضعا في وحدة واحدة انصهارا واندماجا. وعندها سيكون ناتج العبور تجنيسا هجينا او موَّلدا بدءا، ومنفتحا بالعبور لمزيد من التداخل آخرا.
٭ كاتبة من العراق
بدأت مؤخرا في مطالعة مقالات الكاتبة، وشدني فيها الإيجاز غير المخل، والثراء المعرفي الذي تنبي عنه كثافة اللغة الطارحة. يسعدني لو أتحصل على نسخة من كتابها المتعلق بنظرية العبور.
# د. خيرة بن علوة/ أستاذة النقد الأدبي بجامعة خميس مليانة – الجزائر