طلب رئيس مجلس الوزراء العراقي بإنهاء مهمة بعثة يونامي في العراق، بلا مقدمات و«بشكل نهائي» في نهاية كانون الأول 2025. وقد برر هذا الإنهاء بقوله إنه «وبعد مرور أكثر من 20 عاما على التحول الديمقراطي… لم تعد هناك مسوغات وجود بعثة سياسية في العراق متوافرة بعد الآن»!
وتضمنت الرسالة التي وجهها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، انزعاجه من قيام فريق الاستعراض الاستراتيجي، (الفريق شكله مجلس الأمن الدولي بموجب القرار رقم 2628 الصادر في 30 أيار 2023 لبيان الحاجة إلى استمرار عمل البعثة من عدمها) بالتشاور مع «أطراف لم يكن لها دور في إنشاء البعثة في العراق في العام 2003» وأنه لم يقصر مشاوراته على الحكومة العراقية وحدها «كما كانت متوقعا». وبالتالي على البعثة في الوقت المتبقي لها استكمال أعمالها فقط في ملفات «الإصلاح الاقتصادي وتقديم الخدمات والتنمية المستدامة والتغيير المناخي» أي ببساطة ليس من حقها التدخل في أي شأن سياسي بعد الآن، حتى وإن كان في صلب المانديت الخاص بها!
والأطراف التي اعترض السوداني على التشاور معها شملت «بعض الشخصيات والأفراد ومنظمات المجتمع المدني وسفراء بعض الدول في بغداد ونيويورك وموظفي بعثة يونامي» التي عدها أطرافا «غير رسمية ويمثلون آراءهم الشخصية»!
وكان تشكيل يونامي قد بدء في 22 أيار 2003 مع صدور قرار مجلس الأمن رقم 1483 الذي أقر بكون الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى «دولتين قائمتين بالاحتلال» وطلب من الأمين العام للأمم المتحدة بتعيين ممثل خاص له في العراق. وفي 14 آب صدر قرار مجلس الأمن رقم 1500 الذي قرر انشاء بعثة للأمم المتحدة لمساعدة العراق، وقد حدد قرار مجلس الأمن رقم 1511 هذه المهام بأنها تتضمن «تقديم الإغاثة الإنسانية، وتعزيز الإعمار الاقتصادي للعراق وتهيئة الظروف المواتية لتنميته المستدامة، ودعم جهود إعادة وإنشاء المؤسسات الوطنية والمحلية».
ثم جاء قرار مجلس الامن رقم 1770 الصادر في 10 آب 2007، الذي وسّع مهامها لتشمل هذه المرة تقديم المشورة والمساعدة فيما يتعلق بقضايا ذات طبيعة سياسية؛ مثل تحقيق التقدم في الحوار السياسي والمصالحة الوطنية الشاملة، ووضع الدستور و مراجعته. وتنفيذ الأحكام الدستورية، وتسوية مسألة الحدود الداخلية المتنازع عليها، وتسيير الحوار الإقليمي؛ بما في ذلك الحوار بشأن مسائل أمن الحدود والطاقة واللاجئين، وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، والإصلاح القضائي والقانوني.
التخلص طرد يونامي سيوفر مناخا أكثر «تعتيما» على ما يجري في العراق، وفي الوقت نفسه لا يتيح للأطراف «غير الرسمية» أن يكون لها صوت مسموع
والحقيقة أن «الأطراف» التي ذكرتها رسالة السيد السوداني، وردت جميعها في قرار مجلس الأمن نفسه، فالقرار طلب من الأمين العام أن يجري استعراضا استراتيجيا مستقلا للبعثة «بالتشاور مع حكومة العراق، إضافة إلى وكالات الأمم المتحدة، والدول الأعضاء، والمنظمات الإقليمية، والخبراء المستقلين، والمجتمع المدني، وحكومة الكويت» على أن يشمل «تقييم استمرار أهمية مهام البعثة وأولوياتها، وتقديم توصيات لتحسين ولاية البعثة وهيكلها وملاك موظفيها» لذلك ليس مفهوما اعتقاد الحكومة العراقية أن تلك المشاورات يجب أن تقتصر عليها!
ثم إن يونامي، من لحظة تشكيلها الأولى، مرورا بالقرار رقم 1770 (2007) الذي وسع من مهامها، وصولا إلى القرار 2628 (2023) الذي أعاد التأكيد على هذه المهام، بل وأضاف اليها مهاما أخرى (مثل تعميم مراعاة المنظور الجنساني، أو معاملة الأطفال المتضررين من النزاع المسلح كضحايا، ودعم الحوار بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان) كانت تقوم بمهمات ذات طبيعة سياسية، ولم يكن الأمر يثير تحفظ الحكومة العراقية. والأهم من هذا، أن مراجعة تلك المهام (السياسية) خاصة الواردة في القرار 2628 تكشف أنها غير منجزة بسبب تفاصيلها الكثيرة!
خلال عمل يونامي في العراق، كان واضحا أنها تخضع لاشتراطات الفاعل الأمريكي (على الأقل حتى الانسحاب الأمريكي) وتحرص أيضا على عدم إزعاج الحكومة العراقية، وهذا ما جعلنا نصفها بشاهد الزور؛ فقد كانت تقارير يونامي فيما يتعلق بحقوق الإنسان، مثلا، تمر على السفارة الأمريكية قبل نشرها، كما أن بعض تقاريرها كانت «مرنة جدا» وغير مهنية في قضايا ذات طبيعة إشكالية؛ مثل الانتخابات العراقية، الى الحد الذي جعلها توفر غطاء صريحا لعملية التزوير المنهجية الواسعة التي وسمت الانتخابات في العراق. وفي تقارير عديدة أشارت البعثة إلى وقوع جرائم إعدام خارج إطار القانون، وإخفاء وتهجير قسريين، وتغيير ديمغرافي، وتحدثت عن لجان تحقيق حكومية، لكنها كانت تهمل متابعة الموضوع تماما في تقاريرها اللاحقة، رغم أن نتائج التحقيقات الرسمية، لم تُعلن مطلقا، بل كانت تغطي، بشكل ضمني، على هذه الجرائم ضد الإنسانية التي ترقى لأن تكون جرائم حرب!
في المقابل، وفرت هذه التقارير معلومات قيمة في قضايا أخرى ليست ذات طبيعة سياسية مباشرة، تُعني بها الأمم تحديدا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، أو بمشكلات القضاء العراقي، أو فيما يتعلق بالفساد.
وأشرت هذه التقارير في معظمها على عدم التزام منهجي بحقوق الإنسان، سواء فيما يتعلق بحرية التعبير، أو موضوع التعذيب وتاريخه المؤلم في العراق، أو سياسة الإفلات من العقاب، وعلى عدم التزام القضاء العراقي الثابت بمعايير الإجراءات الأصولية ومعايير المحاكمة العادلة في العراق. ونوهت إلى أحكام إعدام أو مؤبد اعتمدت على اعترافات انتزعت بالقوة أو من خلال التعذيب وإساءة المعاملة. كما اتهمت، في تقاريرها الأخيرة، الطبقة السياسية العراقية بأكملها بأنها جزء من بنية الفساد الحاكمة في العراق.
وهذا ما يفسر الاعتراض الأمريكي الضمني على طلب إنهاء عمل بعثة يونامي، فقد صرّح فيدانت باتيل، النائب الرئيسي للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، بأن الولايات المتحدة تعمل مع الحكومة العراقية ومجلس الأمن على إنهاء مهام يونامي «بشكل تدريجي منظم ومسؤول» وأن هذا الأمر لا يتعلق بالعراق وحده، بل يجب أن يضمن «استمرار التقدم نحو حل المشاكل العالقة بين العراق والكويت».
وكانت العلاقات العراقية الكويتية قد شهدت، مؤخرا، هزة كبيرة بعد قرار المحكمة الاتحادية بشأن إلغاء اتفاقية خور عبد الله، والذي جاء في سياق حملة سياسية منهجية بهذا الاتجاه، وهو ما سيؤثر، بالضرورة، على الطلب العراقي.
بالتأكيد لا يمكن فصل هذا الموقف عن المواقف الأخيرة للفاعل السياسي الشيعي، الذي يتوهم أن الصراع في العراق قد حسم لصالحه، وأن ثمة اعترافا دوليا بهذا الأمر، ولم يعد في حاجة إلى يونامي للاعتراف بذلك، وأنه يحتكر القرار السياسي وليس في حاجة لموقف «الآخرين» بما فيهم يونامي نفسها!
وهو يتوهم أيضا أن التخلص طرد يونامي سيوفر مناخا أكثر «تعتيما» على ما يجري في العراق، وفي الوقت نفسه لا يتيح للأطراف «غير الرسمية» (أقرأ غير الفاعلين السياسيين الشيعة) أن يكون لها صوت مسموع داخل المؤسسة الأممية!
كاتب عراقي