يصعب اليوم الجزم بفاعلية مقولة الشاعر الإنكليزي رديارد كيبلنج، التي أكدت بأن ‘الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا’. في حينه هذه المقولة استندت الى حدة التفاوت في درجات التقدم في الفكر والسلوك بين شعوب كل جانب. ما يبدو جلياً في هذه اللحظة هو أن تلك المقولة فقدت رونقها وأضحى من الأجدى القول بأن الشرق، بمفهومة العربي، لم يعد شرقاً بحتاً ولا الغرب غرباً، خاصة بعد أن بدأت تتواتر وبحدة عملية تداخل تدريجي بين كليهما، وبعد أن بدأ يفقد كل منهما الكثير من المزايا التي كانت تفصله عن الآخر.
في ما يتعلق بالشرق، لم يعد هذا كما كان عليه سابقاً، مجرد أرض قابلة فقط للاستعمار، على الأقل بمفهومه الكلاسيكي، من قبل عساكر ومستشرقين جُل همهم توسيع النفوذ الخاص، تجريد البلاد قدر الامكان من ثرواتها وإخضاع وتأهيل شعوبه سياسياً، ثقافياً، اقتصادياً، اجتماعياً، نفسياً وحتى دينياً.
في الاتجاه الآخر، لم يعد الغرب أرضا رائعة محاطة كلياً بالأشواق والأسوار، أرضا نائية بعيده المنال، تصلها فقط قلة نادرة من النخب بهدف التعرف على حضارته ونقل ما يمكن نقله منها. هنالك بوادر تداخل تفرض وستفرض حاضراً ومستقبلاً النظر لكل ذلك من زاوية أخرى مختلفة تماماً عما مضت.
مستنداً الى تفوقه العسكري والحضاري، تمكن الغرب حتى حينه من ممارسة سيطرة شبه تامة على الشرق، ما سمح له أولاً بعرقلة وثانياً بتنظيم نمط التماس بين الشعوب. حينها، ونوعاً ما حتى الآن، لم يكن الغرب على استعداد لقبول الشرقي كما هو عليه من ثقافة وتقاليد ومعتقدات. في عمق عقليته وسلوكه كانت ومازالت تكمن رغبة جارفة تدفعه لفرض نوع من الاستغلال والهيمنة عليه. فعلاً، كل ما كان يهم الغرب سابقاً، ونوعاً ما حتى الآن، هو بسط إرادته على الآخر انطلاقاً من اعتقاده بأنه دائماً على حق، وأن على عاتقة تقع مهمة إخراج هذا من طور الجهل وإدخاله في طور التحضر. تلك الفترة، مقارنة بغيرها، كانت شديدة العنف والتعقيد، خاصة لما كانت تحمل في طياتها من محاولات جادة وهادفة لكسر عزيمة الإنسان الشرقي من قبل الغربي. من جانب، القضية كانت قضية غرور وكبرياء، ومن جانب آخر قضية عزة وكرامة، خاصة أن الطرف الشرقي كان ومازال يعتبر نفسه صاحب حضارة ذات قيم ومفاهيم تضاهي ما عليه حضارة الغرب.
ورغم قيام الشرقي بعملية نقد ذاتي وإبداء رغبة دائمة في التجديد والتطوير، خاصة بعد مقارنة حالة بحال الغربي، فقد بقي ومازال معتزاً بذاته ومتمسكاً بكل ما يملك من مفاهيم وقيم قديمة وحديثة. في حين أن الآخر بقي مصمما على إحداث نوع من التغيير حينما وحيثما أمكن.
في معظم الأحيان اختلاف النوايا جعل العلاقة بين الشرق والغرب علاقة قائمة على العداوة والبغضاء، ما منع حيناً وقلص حيناً آخر من امكانية تقوية نوع معين من التقارب الطبيعي والسلس بينهما. رغم ذلك ورغم بروز كثير من رواسب الماضي البعيد والقريب بين الحين والآخر، فقد كانت تسري في العمق عملية التقاء وتشابك تدريجي بطيء بين كليهما. هذه العملية، التي لعب فيها الغرب الدور الأكثر تأثيراً، عَنيت وسوف تعني في المستقبل، حدوث تغيير شبه تام في المفاهيم التي حددت نوعية العلاقة المتبادلة حتى حينه، خاصة بعد اضمحلال مفعول عنصر القوة نوعاً ما، وحل محله مفهوم التداخل الحضاري ذو البعد الثقافي، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي. ما لا يمكن انكاره هو أن ما ابتكره الغرب من وسائل تكنولوجية وإعلامية مسموعة ومرئية، لعب دوراً فاصلاً وفعالاً في ذلك، ناهيك عن الدور الذي لعبته كذلك الشركات والمؤسسات الغربية التي أسست في كافة المدن والعواصم الشرقية. لقد طور الغرب أساليب تمدده نحو الشرق، ليصبح وجوده بديهيا في كل مسكن وبيت، ما سمح للشرقي بالتعرف على الحياة الغربية بدون جهد. فقط من خلال كبسة زر أصبح هذا قادرا على اكتساب وتقليد أنماط هذه الحياة الجذابة والمعاكسة لبعض أنماط الحياة الشرقية الراكدة المملة.
في الاتجاه المعاكس، منذ فترة غير بعيدة مئات الالاف ثم ملايين من أهل الشرق تدفقوا تدريجياً نحو مدن الغرب، في عملية زحف وتداخل بشري لم يعرف لها التاريخ المشترك مثيلا. لقد أضحى من المستحيل أن تجد حالياً قرية أو مدينة غربية غير متزينة بمعالم الشرق. مساجد، شباب ذو بشرة داكنة، نساء بجلباب وحجاب، أو من دون ذلك، رجال أعمال، سياسيون، لاجئون، طلاب، عمال، مطاعم، مقاه، مأكولات، حلويات وموسيقي شرقية تنتشر اليوم على طول وعرض القارة الأوروبية والأمريكية، مُشكلة جزءا من ديكور أحياء مدنها القديمة والحديثة. كل من وصل وأقام من هؤلاء بين أكناف الغرب حاول قدر المستطاع استيعاب أكبر قدر من القيم والمعتقدات الخاصة بأهل البلد الحاضن، وفي ردة فعل مغايرة، حمل وجسد هؤلاء جزءا كبيرا من العادات والتقاليد لمواطني بلدانهم الأصلية. حالياً يصعب أن تجد إنسانا غربيا لا يعرف جزءا من صفات ومفاهيم المجتمعات العربية-الإسلامية. كما يصعب أن تجد شخصا عربيا غير ملم بفحوى القيم والمفاهيم الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية الغربية العامة.
قمة نتائج التداخل المتبادل تكمن حالياً في جيل جديد ناتج عن التعايش والاختلاط بين رجال ونساء الشرق والغرب. هذه الظاهرة تشكل الآن وفي المستقبل التحدي الأكبر، وهي موجودة بشكل واضح ضمن المجتمعات الغربية أكثر من الشرقية. ما سيميز هذا الجيل عن غيره هو أنه لن يعاني ما عانته الأجيال السابقة من مشاكل التأقلم والاندماج، وذلك بحكم كونه غير غريب كلياً عن نمط حياة المجتمعات التي ترعرع فيها هو أو أحد أبويه. على كل الأحوال درجة المعاناة ستعتمد كثيراً على ثقافة التسامح التي تنشرها وتفرضها كل دولة على كافة مواطنيها وبدون استثناء. هذا الجيل سيشكل نواة الثراء الحضاري بين الطرفين، خاصة أن على عاتقة ستقع عملية تجسيد القيم والثقافة الشرق -غربية التي سوف تتبلور على يديه عاجلاً أم أجلاً. ما سوف يعاني منه ويمكن أن يعرقل حركة هذا الجيل فعلاً هو غياب مؤسسات تساهم في إدارة الثقافة والقيم المشتركة التي سيشكلها هو دون غيره. الكثير من المؤسسات القائمة حالياً بالية، بحكم كونها امتدادا للمؤسسات الوطنية ولعملها حسب أفكار أحادية، أساليب قديمة ليس لها معرفة او اهتمام بكافة هموم وتطلعات الأجيال الحديثة الناشئة بين ضفتي الشرق والغرب، والاسوأ أن منها ما هي مؤسسات ديكتاتورية بالمعني الشرقي للكلمة.
الوضعية الجديدة والتحدي الهائل الذي ستتم مواجهته حاضراً ومستقبلاً سيفرض على الجميع القيام بعملية تقييم شبه شاملة للمفاهيم وللمعايير التي تكمن خلف العلاقة بين الشرق والغرب. بمعنى أن كل طرف سيجد نفسه مجبورا على إنجاز صياغة جديدة لها، بعد أن أضحى بديهياً أن المعطيات والحيثيات التي تم العمل والتعامل على أساسها سابقاً لن تكون لها فاعلية عما قريب، خاصة بعد أن اصبحت بوادر التداخل المتبادل بينهما أكثر تجليا ووضوحا.
‘ كاتب فلسطيني- إسبانيا