التراجع الاقتصادي مع بايدن والتيار الديني المحافظ مع ترامب

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

مظاهر الفشل الاقتصادي تهدد إعادة انتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة لفترة ثانية، وتضعف صورته، حتى أمام قطاعات من ناخبيه من ذوي الميول الجمهورية. لكن الهوس الديني والتقاليد المحافظة للمسيحيين الإنجيليين والكاثوليك المتشددين بمن فيهم المنحدرون من أصول أوروبية ولاتينية، يقلل من فرص بايدن للحصول على أصواتهم، رغم وجود اسم كاميلا هاريس المرشحة على بطاقته نائبا للرئيس. انتخابات الثلاثاء الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل ستكون الأغرب في تاريخ الولايات المتحدة، تتقلب فيها القلوب والعقول حتى لحظة التصويت، بين تيارين، الأول هو الديني المحافظ المدعوم من شركات النفط والسلاح والمزارعين في ولايات الجنوب والوسط، وجماعات الضغط  للدفاع عن حرية الأفراد في حمل السلاح، ومناهضة الحق في الإجهاض. والتيار الثاني هو أنصار الليبرالية والقيم الديمقراطية والسلام الذي يضم قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى، والأمريكيين الأفارقة والشباب الذين يشعرون بضراوة الحرمان وقسوة التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا. ومما يزيد من غرابة هذه الانتخابات أن الرئيس الأمريكي الجالس في البيت الأبيض، يرفض التصريح بأنه مستعد لقبول نتيجتها في حال سقوطه، ويلمح بأنها قد تنتهي في المحكمة العليا، وليس طبقا لنتائج التصويت!

حتى الأسابيع الأولى من العام الحالي كانت مؤشرات النمو والتشغيل ترجح فوز ترامب. لكن جائحة كورونا، وفشل الرئيس في التعامل معها قلب الحال رأسا على عقب، خصوصا مع استمرار خلافاته مع قيادات القطاع الطبي، وعلى رأسهم أنطوني فاوتشي، الذي يقود جهاز الطب الوقائي، ناهيك عن معركته المفتعلة مع منظمة الصحة العالمية. ويعتبر فشل ترامب في وضع سياسة ناجحة لمواجهة وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية، نقطة الضعف الرئيسية التي سيستفيد منها جو بايدن. ويبرز هذا الفشل في عدد من المظاهر والمؤشرات، أخطرها أن ترامب منذ البداية أعلن استهتاره بخطورة كوفيد – 19 وخلط بينه وبين الإنفلونزا الموسمية، وحوَّله إلى معركة سياسية ضد الصين، وراح يروج لأدوية خطيرة الأثر على المرضى، وعديمة الجدوى ضد الفيروس. كما صاحب ذلك فشل آخر في تنشيط الاقتصاد ودفعه للنمو، على الرغم من الجرعة التمويلية الأضخم في العالم التي تم ضخها في قطاعاته المختلفة.

وتبدو الصورة الآن على النحو التالي:

خسائر وباء كورونا

بفضل حماقات ترامب سجلت الولايات المتحدة أسوأ النتائج على مستوى العالم في مكافحة فيروس كورونا المستجد والحد من انتشاره. وتشير الأرقام حتى الآن إلى أن عدد الذين اصيبوا بالفيروس تجاوز 8 ملايين شخص، وأن عدد الوفيات بسبب الفيروس يقترب من 225 ألفا، وأن الولايات غير مستعدة للموجة الثانية من الفيروس، التي يبدو أنها قد بدأت بالفعل. ففي الفترة منذ بداية الشهر الحالي يرتفع عدد المصابين الجدد بنسبة 2 في المئة في المتوسط يوميا. وقد عاد البيت الأبيض مرة أخرى للحديث عن ترويج سياسة “مناعة القطيع” وهي سياسة وصفتها منظمة الصحة العالمية بأنها “غير إنسانية ولا أخلاقية”.

وقد أنفقت الحكومة الأمريكية على برامج تحفيز الاقتصاد ومكافحة تداعيات كورونا حوالي 3.7 مليار دولار منذ اذار/مارس وحتى تموز/يوليو. لكن هذه البرامج لم تؤد الأغراض المطلوبة منها، لا في مجال حصار الفيروس ووقف انتشاره، ولا في تعزيز النمو وخلق فرص العمل الكافية لتخفيض معدل البطالة بكل أشكالها، مما أدى إلى زيادة أعداد العاطلين الذين يحصلون على إعانات البطالة الدائمة والطارئة إلى حوالي 31 مليون مواطن في الأسبوع الأول من الشهر الحالي. وبلغ معدل البطالة في نهاية الشهر الماضي حوالي 8 في المئة من قوة العمل مقابل 3.5 في المئة في نهاية ايلول/سبتمبر من العام الماضي، بزيادة سنوية تتجاوز مئة في المئة.

انكماش اقتصادي

انكمش الاقتصاد الأمريكي بشكل متواصل منذ بداية العام الحالي، منخفضا بنسبة 5 في المئة في الربع الأول من العام، ثم بنسبة 31.4 في المئة في الربع الثاني. ومن المتوقع أن يواصل الانكماش في الربع الثالث بنسبة مماثلة. ولا يبدو الاقتصاد بشكل عام مؤهلا لتحقيق نمو قوي في العام المقبل يتجاوز 2 في المئة. وتشير التوقعات جميعا إلى أن الاقتصاد سينكمش هذا العام ككل بنسب تتراوح بين 4.3 في المئة حسب التقديرات الأخيرة لصندوق النقد الدولي إلى 3.7 في المئة حسب تقديرات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهما أحدث التقديرات التي صدرت في الشهر الحالي.

ويمثل عجز الميزانية الأمريكية وتعاظم حجم الديون الفدرالية أهم العقبات التي تحد من قدرة الاقتصاد على النمو في الوقت الحالي. وقد بلغ عجز الميزانية في نهاية السنة المالية في آخر الشهر الماضي 3.3 تريليون دولار بنسبة 16 في المئة من الناتج الإجمالي. وكانت السياسة المعلنة للجمهوريين منذ انتخاب ترامب رئيسا، هي العمل على تخفيض العجز إلى 3 في المئة فقط من إجمالي الناتج. لكن بدلا من ذلك أخذ العجز يتضخم بفعل سياسات ترامب في الفترة السابقة على وباء كورونا التي أدت إلى انخفاض حصيلة ضرائب الدخل للأفراد والشركات بحوالي 300 مليار دولار، ثم في النصف الأول من العام الحالي، مع تخصيص موارد إضافية للوقاية من خطر الانهيار في سوق العمل وأنشطة الشركات والإنفاق الاستهلاكي بسبب وباء كورونا.

وبسبب تراكم العجز المالي للحكومة الفيدرالية تجاوز الدين القومي للولايات المتحدة 27 تريليون دولار، أي ما يعادل إجمالي قيمة الناتج المحلي السنوي، وذلك للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مقابل أقل من 80 في المئة في نهاية العام الماضي. وقد بلغ نصيب الفرد من الدين القومي في منتصف الشهر الحالي 82 ألف دولار تقريبا، في حين أن متوسط الدخل السنوي للفرد يبلغ 55 ألف دولار تقريبا. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يستمر الدين القومي في الارتفاع، مع ضيق هامش المناورة أمام السلطات النقدية.

طريق صعب للتعافي

يتوقع جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن يكون الطريق إلى التعافي الاقتصادي طويلا وبطيئا، وأن يتفاوت نصيب الفئات الاجتماعية المختلفة من برامج تحفيز الاقتصاد، مع استمرار خسائر القطاعات التقليدية والعاملين فيها. بمعنى آخر فإن القطاعات المتقدمة ستنتقل بسرعة إلى مرحلة التعافي، في حين ان الصناعات ومجالات النشاط الاقتصادي التقليدية ستواجه صعوبات، ومن المتوقع في أحسن الأحوال ان يحقق الاقتصاد ككل نموا بنسبة 1.7 في المئة فقط في العام المقبل. هذا الوضع الاقتصادي بشكل عام يمثل نقطة ضعف رئيسية يعاني منها ترامب في نظر الناخبين، خصوصا مع الجدل الدائر داخل الحزب الجمهوري بشأن أولويات تنشيط الاقتصاد، واعتراض ما يقرب من نصف الجمهوريين في مجلس الشيوخ على خطة ترامب الأخيرة، والخلاف الحاد مع الديمقراطيين بشأن برنامج تحفيز اقتصادي جديد يقترحه الديمقراطيون بقيمة 3 تريليون دولار، مقابل برنامج يقترحه الجمهوريون بتكلفة تبلغ ثلث هذه القيمة. ونظرا لصعوبة الاتفاق بين الطرفين، فإن ترامب يلجأ الآن إلى تنفيذ برنامجه بإصدار أوامر رئاسية تنفيذية تعكس أولويات الجمهوريين منها تخفيض إعانة البطالة إلى 400 دولار في الأسبوع بدلا من 600 دولار، وتعليق سداد ضرائب الدخل للممولين، مع تحميل الميزانيات المحلية للولايات 25 في المئة من تكاليف إعانات البطالة.

التهرب الضريبي يطارد ترامب

يواجه دونالد ترامب اتهامات بالتهرب والاحتيال الضريبي تطارده منذ حملته الانتخابية الماضية. ويحاول الرئيس مستميتا الحصول على حكم من المحكمة العليا برفض طلب نشر سجلاته الضريبية على أساس أنها تخضع لقواعد حماية الخصوصية. لكن صحيفة “نيويورك تايمز” تمكنت بواسطة مصادر مختلفة من الحصول على معلومات تفصيلية عن حسابات ترامب الضريبية في السنوات الأخيرة، منها حساباته عن أول عامين بعد توليه رئاسة الولايات المتحدة. وتظهر هذه المعلومات أن ترامب دفع ضرائب عن دخله الفردي في عام 2017 بقيمة 750 دولارا فقط، وهو ما يقل عن ثلث ما يدفعه الممول الأمريكي المتوسط الدخل. وتظهر السجلات الضريبية أن ترامب منذ سنوات طويلة كان وما يزال وجها كثير الحضور في محاكم الضرائب، وأن محاسبيه يطبخون حساباته بحيث لا يدفع ضرائب على الإطلاق، بل ويقدمون المبررات لكي يحصل من مصلحة الضرائب على إعفاءات ضريبية. ومن أمثلة ذلك المبالغة في تقدير خسائره خلال الأزمة المالية الأخيرة، فتضمنت حساباته انه تعرض لخسائر بلغت 1.4 مليار دولار، بما يؤهله للإعفاء من الضرائب لسنوات طويلة، والحصول على تعويضات من مصلحة الضرائب الفدرالية.

وتثور حول ترامب شكوك تدعمها أدلة موثقة حصلت عليها “نيويورك تايمز” تشير إلى أن الرئيس الأمريكي يستغل منصبه في تحقيق مكاسب خاصة تأتي على حساب المصلحة العامة، من بينها خدمات يحصل عليها ممولون وجماعات ضغط سياسي تعمل لصالح جهات محلية مثل رابطة المسيحيين الإنجيليين، أو لصالح دول وشخصيات أجنبية منها بوتين واردوغان، وكذلك لشركات ورجال أعمال متورطين في قضايا غش أو تهرب ضريبي أو جمركي.

كذلك فإن ترامب يستغل منصبه في ترويج العلامة التجارية لمنتجاته وممتلكاته مثل الفنادق ونوادي الغولف والمنتجات الترفيهية، كما يحصل على مزايا من مسابقة ملكة جمال العالم التي يشترك في تنظيمها وإدارتها. ولا يخجل ترامب من عقد اجتماعات حكومية في فنادقه ومنتجعاته، وتحميل الحكومة الأمريكية تكلفة باهظة لهذه الاجتماعات، ومن المعروف أنه أثار مشكلة كبيرة مع قادة الدول الصناعية السبع الكبرى بدعوته لأن يكون مكان انعقاد القمة هو أكبر المنتجعات المملوكة له في ولاية فلوريدا. ومن المتوقع أن تترك الاتهامات التي تطارد ترامب بسبب التهرب والاحتيال الضريبي إلى الخصم من رصيده لدى قطاعات من الأمريكيين، لكنه ما يزال يتمتع بدعم قوي من اللوبي اليهودي، رغم أن استطلاعات الرأي ترجح تصويت 70 في المئة من اليهود الأمريكيين لصالح بايدن، بينما يؤيد 63 في المئة من اليهود الإسرائيليين إعادة انتخاب ترامب، الذي تؤيده أيضا حكومات دول الخليج، وكل من روسيا والصين، إضافة إلى المزارعين وجماعات الضغط  لشركات النفط والسلاح وغيرها. أما جو بايدن فإنه يطمح إلى الفوز مستفيدا من أخطاء ترامب وحماقاته، وبتأييد المتطلعين للمحافظة على القيم الليبرالية للطبقة الوسطى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية