تتجاوز الترجمة فاعلية وظيفتها كمجال لنقل النصوص، إلى تشكيلِ مجالٍ يقوم على تبيئة تلك النصوص، حيث استدعاء الآخر إلى نسق الحوار والتلقي، وإلى أنسنة حمولاته النظرية والمناهجية، لتبدو صالحة للاستعمال، والتحريض على توليد نصوص أخرى، لا تعاني من عقد التغريب والهجنة، لكنها تقترح لقارئها أفكارا وحوافز يمكن أن تدافع عن أنسنتها، وأن تجد في الوظائف المعرفية مجالات مجاورة للتوليد والديمومة، بما يزيد من ديناميكة القارئ، وتوسيع مساحة قراءته، وتضعه أمام عالم محكوم بالتواصل وتبادل المنافع أو المكاره الثقافية..
تبيئة المناهج وتوظفيها في صياغة «العقد الثقافي» ليست بعيدة عن فكرة التعرّف والتعلّم، ولا عن التوصيف الإنساني لـ«الثقافة» كمفهوم يدخل في سياقات تقويض مراكز احتكار المعرفة والمعلومات والمناهج والنظريات من جانب، وفي سياق إغناء مسارات الحداثة والتنمية والأمن والعمران والسلم الأهلي، بوصفها مجالات تتطلب وجود خطابات لإنتاج الفعل الثقافي، وبقدر ما يتطلب الأمر كفالة لتأمين حيازة هذه الخطابات، فإنه يتطلب التعرّف على الخصوصيات والهويات، فضلا عن وجود الآليات التي تدعم البرامج والمشاريع والسياسات والمبادرات، وعلى نحوٍ يُسهم في تعزيز قيم الشراكة والاحترام والتسامح، ومكافحة العنصرية وخطاب الكراهية والقوالب النمطية، كما تطرحها أهداف الأمم المتحدة.
هذه التصورات لا تعني بالضرورة خضوعا قسريا إلى ما يُسمّى بـ»المركزية الغربية» بوصفها مجالا أيديولوجيا، بقدر ما يعني إخضاعها إلى مقاربة تجعلها جزءا من فاعلية التفاعل، الذي يسوّغ وجود مجال «التبيئة» وتحويله إلى تحدٍ استراتيجي في توصيف هذه المركزية، كونه معنيّاً بمساءلتها، وبتمثيلها في سياق الوعي، بشمولية المعرفة وحيويتها، والكشف عن قدرتها على التنافذ والشراكة وحتى الهيمنة، إذ يتطلب وجودها تهيئة بيئات مناسبة، تساعد على أنسنة تلك التبيئة، وتأمين الشروط المناسبة للتفاعل مع أسئلتها وأهدافها، فضلا عن خلق أنساق إبداعية تُعطي للقارئ النبه والفاعل و»العمدة» بتوصيف ريفاتير، وجودا نقديا حقيقيا وناميا، يجعله فاعلا في تأمين شروط «الصناعة المعرفية» في النظم والمؤسسات والعلاقات، وفي مجال «التبيئة» كشرط من شروط الحداثة، بوصفها نظاما، وسياسات استراتيجية، تجعل الإنسان أكثر ثقة بالعلم والمعرفة، مثلما تجعله مهجوسا بشغف التعرّف على العالم، بوصفه وجودا كوزموبوليتاً، تمارس فيه المعارف في سياقها الأنثربولوجي وظائف تمثيل الهوية والوجود والخطاب، وأن برمجة سياسات الترجمة في مستوياتها المتعددة، ليست بعيدة عن أهداف ذلك الوجود، حيث تُسهم الترجمة في فكّ التباسات المخبوء من تاريخ الثقافات الإنسانية، ومن تمثلاتها المعرفية والعلاماتية والجنسية والهوياتية، فضلا عن دورها في تخفيف أعباء النظرة المتعالية لـ»مركزية الآخر» فمعرفة الشيء تُقلل من سرانيته وغموضه، وحتى من غطرسته..
يرتبط رعب «المركزية الغربية» بمفهوم السيطرة، وبفوبيا الأدلجات الحاكمة، وبتراكم سياسات الاستعمار والتبشير والاستشراق، ما يجعل هذه المركزية من أكثر التحديات صعوبة، والأكثر تحفيزا على إيجاد أطرٍ وقوانين وممارسات، تحمي الثقافات المحلية من جانب، وتدعم برامج الاستثمار الثقافي من جانب آخر، بما فيه الاستثمار في مجال «الدبلوماسية الثقافية وبرامج الترجمة» وترسيم حدود تمثلاته في مجالات التعليم والمعرفة والبيئة والعلوم والتقانات الحديثة، حيث يكون التعرّف على المناهج والنظريات الحديثة، جزءا من مشروعية التقدم، فضلا عن كونها ممارسة شجاعة في نزع الأشباح من ذاكرة تلك المركزية.
نحن والآخر..
صحيح أن الآخر له مجاله العام بتوصيف هابرماس، وله مرجعياته، وأن ذاكرته التبشيرية والاستعمارية والاستشراقية، جعلته موضع شكّ من الآخرين، إلا أن ذلك لا يعني النكوص إلى «ثقافات ضدية» وإلى صيانات تتعطل فيها إرادة الوعي بمسؤولية التعرّف والتعلّم، ودفع «الذات العربية» إلى التماهي مع عقدة اللاوعي الجمعي حول أشباح ذلك الآخر، حيث وجد بعض مُنظّريه في هذه الفوبيا قاعدة خلفية لصناعة المزيد من الأشباح، والمزيد من أفكار الرعب والهيمنة، والعودة إلى تناظرات لم تعد صالحة، رسّخها البعض في سياق تاريخ الصراع مع «الآخر» واستعادتها بوصفها «اوهاما ضاغطة» بدءا من مواقف توما الأكويني من العرب والمسلمين، وموقف أرنست رينان العنصري، ومن ابن رشد والرشدية والجدال الذي أثاره جمال الدين الأفغاني وعلي عبد الرازق مع أفكاره، وليس انتهاء بأطروحات برنارد لويس وعنصريته، وصولا إلى ما أثاره صموئيل هنتغتون في «صراع الحضارات» وفوكويا ياما في أفكاره حول «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» وكذلك أفكار برنارد هنري ليفي ذات التوجّه الأيديولوجي والعنصري، وتدخلاته في الشأن السياسي والأمني والأنثروبولوجي، لاسيما ما يتعلّق بأحداث «الربيع العربي» ما أعطى صورة سلبية، ليس عن الاستشراق الجديد، بل عن الفلسفة التي سحبتنا إلى أطروحات جان بول سارتر بعد حرب حزيران/يونيو 1967، ومن أفكار جماعة «الفلاسفة الجدد» في فرنسا.. الوعي بمسؤوليات الجدّة، تتطلب وعيا متعاليا بها، وبالقدرة على مواجهة أوهام الآخر ومركزيته، أو أطروحات بعض فلاسفته ومنظريه، لاسيما كتابات هنري ليفي عن الهوية والأمة والأنثروبولوجيا والفلسفة والنظرة إلى «الغير» إذ تحولت هذه الأطروحات إلى فوبيا، وإلى لاوعيٍ مقهور، لم تحظ إشكالاته وأسئلته بنقاش حيوي، بل اكتفى الكثيرون بالبحث عن «مركزية ضدية» مسحوبة من سرديات التاريخ، حيث تتكرس فيها ثنائيات الرعب عن «الأنا والآخر، والشرق والغرب» رغم أن ليفي الأنثروبولوجي والفلسفي والعنصري، يمارس وظيفته النقدية المتعالية على هامش الفلسفة واليسار، ما جعله جزءا من سخرية بيير بورديو، كاشفا عن حجمه الحقيقي، بالقول: «يحسبه بواب عمارتي صحافيا، ويظنُّه الصحافيون فيلسوفا».
غياب الترجمة الممهنجة، كانت جزءا من غياب منهجية المشروع، لضعف فاعليته، ولرثاثة أنساقه الحاكمة التي يمكن أن تجعله مصدر قوة وتفاعل، ففوبيا الآخر ظلت تعتاش على علّة اللاوعي المأزوم، وعلى تأثيره في كشف مشاريع السياسات العربية التي تعاني من تشوهات بنيوية، على مستوى تأطير فاعليات التنمية والأمن الثقافيين، أو على مستوى إقامة علاقات متوازنة مع الآخر، على أساس المصالح، وليس للانخراط في المحاور والخنادق العدائية. هذا الآخر، رغم كل سردياته المخادعة والماكرة والعنيفة، إلا أن وجوده ليس في كوكبٍ آخر، إذ هو جزء من التاريخ، وهذا ما يتطلب التعرّف على تاريخه، وعلى ذاكرة عنفه، وتحولاته، وأسباب نهضته، والعمل على تحويل بيئة التعرّف، إلى قوة فاعلة، مؤهلة لإنتاج قيم التجدد والأفكار الدافعة للحداثة، والعناية بالصناعات الثقافية، ومنها ما يتعلّق بصناعة «الخطاب الترجمي» فرغم وجود الكثير من مؤسسات ومراكز الترجمة، إلا أنها تظل عشوائية في خططها، لا رابط يجمعها، ولا تفاعل وتواصل بينها، وبين الجهات المعنية- مدنية أو حكومية أو أكاديمية – على مستوى البرامج والمشاريع والتوأمة، أو على مستوى إقامة الورش التفاعلية، وإنْ أقيم مؤتمر أو فاعلية أو ندوة هنا أو هناك، فإنها ستكتفي بالظواهر العامة، ولا تتعاطى مع أسئلة الواقع- اقتصادا وتنمية وأمنا – ولا مع قضاياه الإشكالية التي تخصّ تأثيرات معقدة مثل تغوّل النمط الاستهلاكي، وتلوث البيئة، والأنثروبولوجيا المقتولة، وظاهرة الاستشراق الجديد، وعلاقة ذلك بمحنة الهويات المتشظية «المقتولة والقاتلة» في راهننا العربي، ولا حتى بجعل الصراع داخل الفضاء العربي ذي سمات تقدمية تتطلبها الحاجة إلى البناء، والثروة والعمران وعلمنة المجتمع، وتأهيل السلطة، والقانون والحريات، وهي مهام كبيرة وضرورية ولازمة، لكن اضطراب وجودها في السياق يجعلها تصطدم بأنماط المركزيات المحلية، وبالهويات القاتلة، وبالقضايا الجيوبوليتكية التي تخصّ الثروات والحقوق والمصالح، وإدارة الأزمات والمحاور في المنطقة، وعلاقة ذلك بالعالم، فضلا عما يتعلق بالدراسات التي تخصّ اللسانيات والأنثروبولوجيا، الإثنوغرافيا، السوسيولوجيا، والأثنولوجيا وغيرها.
الآخر والترجمة وما بعد الكولونيالية
ظلت الدراسات ما بعد الكولونيالية حذرة، وخائفة، فبقدر ما أنها دراسات جديدة، فإن الهاجس «الاستعماري» ظلّ يلاحقها، ويكشف عن أزمة المحتوى فيها، الذي يتسرب إلى السرديات والأشخاص والعلاقة بالهويات والأمكنة، بما يجعل «الآخر» يبدو وكأنه شبح يختفي خلفها، ويستفز الراوي والسارد، مثلما يستفز تسجيل المدونة ذاتها، وعبر ما يُعطى للآخر طابعا أيديولوجيا أكثر من إعطائه بعدا ثقافيا يمكن الحوار عبره، أو معه، حيث إعادة النظر بكثيرٍ من الصور الذهنية، التي لم تزل عالقة بمفاهيم معينة ومحددة مثل «الكولونيالية، والاستشراق وأطروحات إدوارد سعيد الأيديولوجية، وتكريس الصورة النمطية عنه، بأنه لا يعدو أن يكون «مؤسسة منظمة للتعامل مع الشرق تعليمه ووصفه، بل وحكمه» الحديث عن «الاستشراق الجديد» يعني الحديث عن أفكار ومؤسسات وبرامج، ومنها ما يتعلّق بالترجمة، وبالدرس الأكاديمي وبالدراسات الثقافية، واشتغالات الدرس الأنثروبولوجي، وتمثلاتها على مستوى أطر احتوائية، كالدولة والمؤسسة، والخطاب، والبرامج، التي تكفل مشاريع التقدم، والتنمية السياسية والسلم الأهلي، فضلا عن دورها في صياغة العقد الاجتماعي والعقد السياسي، بوصفها مجالات لإدارة التنوع الديمغرافي الذي تحوّل عند البعض إلى مشكلة بنى متصارعة، ومهددة بالانقسام..
ما يهدد الشرق العربي، ليس بعيدا عما يهدد المغرب العربي، فالصراع المقبل هو صراع أمكنة وجغرافيات، مثلما هو صراع هويات، فالغرب ذاهب إلى مركزة الرعب مرة أخرى، وربما إلى إنتاج «استعمارات جديدة» وإلى إعادة النظر بمفاهيم «الأوروبة» والهوية الدينية، وموت النمط التقليدي للغرب الأبيض، فضلا عن اجتراح سياسات عدائية على مستوى التمثيل العنصري، وعلى مستوى سياسات الهجرة واللجوء وقبول الآخر، لاسيما مع تعقّد الحرب بين روسيا الشرقية وأوكرانيا الغربية، والحرب التجارية بين الغرب والصين الشرقية، فضلا عن الحرب في غزة، التي أخذت تشكل منعطفا خطيرا في تمثيل سسيولوجيا «موت النمط». هذا الاصطناع المفاهيمي للموت بات يؤطر الصراع العالمي، عبر تضخم آخر لمركزيات أكثر عنفا، ولتمظهرات تجعل من «دول الهامش» أضحيات، تخضع إلى مزيد من السيطرة على الأرض، وعلى الممرات المائية. وأحسب أن الدفاع المستميت للغرب عن «الكيان الإسرائيلي» هو جزء من لعبة التوحش هذه، وتطبيقا ضديا لأطروحات الكسندر دوغين الروسي الداعي إلى السيطرة على المياه، كمقدمة للسيطرة على اليابسة، مثلما ستقوم مؤسسات غربية على التحريض للحديث عن سرديات «ما بعد الكولونيالية» بوصفها مجالا استعاديا وتعويضيا غاضبا ومهيّجا لتذكّر الآخر الذي ترك اللاوعي الجمعي عند «قلب الظلام» كما تحدث كونراد.
كما أن الذهاب إلى الحرب، أو تحويل الحرب إلى همٍ عمومي، يدفع السلطات في عالمنا العربي إلى تغويل مظاهر العنف والقمع الداخلي، مثلما يذهب إلى الحماية والصيانة عبر اختراع وهم «العدو الخارجي» وبالتالي إثقال الميزانيات الوطنية بصفقات الأسلحة، مثلما هي إثقال الذاكرة عبر تغويل الصورة الذهنية للآخر، الذي يمكن أن يتحوّل إلى عدو داخلي، من خلال إحياء وتغويل العنصريات والعصبيات والهويات المأزومة، فتبدو هذه الحروب الغامضة كاشفة عن جهل الآخر، غير المُعرّف به، وغير المترجم في وثائقه وبحوثه وملفاته السرية، فمثل هذه الحرب ستبدو ساذجة إن اكتفت بالأسلحة التي بات الحصول عليها مثل الحصول على وجبات الهمبورغر، وربما تصنعيها عبر تهريب الشيفرات السرية لها، لكن توسيع مفهوم الحرب عبر المعرفة هو الأخطر، والأكثر جدوى، والأكثر تهديدا، لأنها ستقوم على نوع من «المراقبة والعقاب» كاستعارة من فوكو، وعلى المحو الهوياتي، والإشباع الرمزي والخدر الثقافي، بعيدا عن الصحو والتعرّف وفكّ غموض ما يجري من صراعات كبرى يمكن أن تتحول بسهولة إلى سرديات أخرى لإعادة فرضية الآخر القوي والمتوحش.
كاتب عراقي