إن النص أيا كانت لغته، له أسلوبه اللغوي ومضامينه ورسائله، وأيضا علاماته، التي ينبغي أن يضعها المترجم في حسبانه، مجتهدا في إيصال النص للمتلقي، فكم من نصوص تُرجِمت، وكان هناك سوء فهم، وتلقٍ غير واضح لها، أو أحدثت ردة فعل عكسية، أو مارست ألوانا من الخداع على القارئ.
فلا يتخيل أحد أنه بترجمة النص يكون المعنى والمبنى قد انتقل في معظم دلالاته وإشاراته ومعانيه إلى اللغة المتَرجَم إليها، فذاك وهم كبير يمكن أن نطلق عليه وهم الترجمة الحرفية، التي تعني: الترجمة لكل كلمة في النص الأصلي، وإيجاد مقابل لها، والذي يخفت ويقل في ترجمة النصوص ذات الطبيعة العلمية، في مجال العلوم الفيزيقية والتطبيقية، ويرتفع في مجال الإنسانيات والآداب عامة، لتتحول إلى ترجمة المعنى، والتعبير عن الجملة/ الفقرة إجمالا بأسلوب المترجِم.
وتنطلق نظريات ما بعد البنيوية، مثل التفكيك Deconstructionism من أن الكتابة فعل مكمل بامتياز لعمليات سابقة عليه، فالكلمات المستخدمة في النص، إنما هي علامات على مفاهيم وسياقات وأبنية ثقافية واجتماعية وفكرية، فلا نقول بالكلمات كل شيء ننطقه، وبالتالي علينا أن نعي أن النص المكتوب ـ الذي يمكن ترجمته ـ هو في النهاية خطاب، قابل للفهم والتأويل، وأن النص المدون الذي بين أيدينا علامة على أفكار ومفاهيم خارج التدوين، فالكلمات المكتوبة تحل محل كلمات دالة أصلا على معان في ذهن المؤلف، وأيضا في ذهن المتلقي، يتم التعبير عنها صوتيا، فعملية الكتابة هي عملية إنتاج للكلام المنطوق، فعلينا النظر، كما يقول دريدا، إلى الأشكال المتعددة التي تحملها رسالة النص، لذا، فهو يقترح إدراج حواشي وكتابة ملاحظات في الهوامش، ولا بأس من إرفاق مقدمة مع النص المتَرجَم، من أجل تغطية معلومات يحتاجها القارئ، لم ترد في النص، وهذا ما يوجب علينا أن ننظر إلى عملية الترجمة ذاتها على أنها نص قابل للشك والمراجعة، والإضافة والحذف والرد. ومن هنا، تصبح الترجمة شكلا من أشكال تحاور اللغات، وأن النص الأصلي يمكن إعادة إنجابه/ إنتاجه ـ إذا تُرجِم ـ في ثقافة أخرى، ومن ثم يزداد ثراء وإثمارا، أو تتم قراءته وفق ثقافة أخرى، تناقش المتن المترجم، وتعلق عليه، ويمكنها أن تترجم نصوصا إلى لغة النص الأصلي، للرد على ما جاء فيه، أو تبيان الموقف مما فيه. فالترجمة توجد موقفا حضاريا، فالعرب مثلا لم يتخذوا موقفا حضاريا من التراث الإغريقي، إلا بعد ترجمته والتعرف عليه، ولذا نشأت بعد حركة الترجمة العربية فكرة الشرح والتلخيص، والرد على أرسطو، أو غيره، وبالتالي لا يمكن الاعتداد بالرأي القائل إن النص المتَرجَم إبداع وعمل حضاري، ولا يهم مقارنته مع النص الأصلي، بل نتعامل مع النص المترجِم على أنه يعبر عن حالة فهم مستقلة، لأننا في حاجة دوما إلى المقارنة، لتقييم الترجمة ذاتها، وحتى نعي ما ينتجه الآخرون أنفسهم، كما نرد على ترجماتهم لكتبنا، خصوصا إذا تعلقت بالقرآن والأحاديث وعلوم الشريعة.
ومن هنا نصل إلى مفهوم «الترجمة بوصفها أداة للمقاومة»، التي تستند إلى استراتيجية التفكيك، التي تدعو إلى زحزحة النصوص، بدلا من إعادة تفسيرها، ورفض المفاهيم التقليدية للترجمة (الأمينة التي تدّعي استيفاء المعنى)، لأنها أسيء استخدامها من قبل الدول المستعمِرة، في الترويج لأفكار أحادية، تتضمن تمجيد المستعمِر، وتشويه الشعوب المستعمَرة، وتكريس التسلط الاستعماري، وترويج قيمه ورؤاه، ببث عشرات الرسائل والإشارات والعلامات المؤيدة له. لذا يدعو إدوين جنتزلر في مقال له، إلى «الترجمة بلا حدود Translation without Borders «، حيث طالب بإعادة التفكير في عملية الترجمة، من منظور علم السيميوطيقا، على أساس أن النص فيه علامات، وإشارات ورسائل، تحتاج إلى شرح وتفسير وتأويل، فلا يمكن اعتماد ترجمة واحدة للنص، فتأويل النص مفتوح بين اللغتين، خصوصا إذا نظرنا إليها من زاوية علم الاتصال ونظريات التلقي، فهناك أبعاد ثقافية تتصل بالنوع والخصائص اللغوية، والهويات الوطنية، وهذا يفسح المجال للنقاش والتعليق، وذكر هوامش وشروحات على النص المترجم، لتصبح عملية الترجمة ذاتها مثاقفة حضارية وفكرية، تغني النص الأصلي، لأنها ستثريه بآراء وشروحات ومراجعات في اللغات المترجَم إليها.
أما كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني» لمؤلفه كيث وايتلام (سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت) فيقدم مراجعة تاريخية عميقة للرؤية الغربية المتأثرة بالمدرسة التوراتية، المؤيد لإنشاء وطن قومي لليهود.
لذا علينا أن نحترز في استخدامنا لمصطلح «الترجمة أداة للمقاومة» لأن هناك مصطلحا آخر وهو «الترجمة بشكل مقاوم»، الذي يعطي دلالة مختلفة: تلاعب المترجِم بلغته، التي غالبا ما تكون لغته الأم، من أجل التعبير عن طبيعة النص الأصلي، الذي يسعى إلى ترجمته، ونقله بشكل شفاف، وهذه تظهر مع النصوص الأدبية (شعرا ونثرا) حين يغلب على أسلوبها الصيغ الثقيلة على الأسماع والتراكيب التي تؤدي إلى معان مشوشة في حالة ترجمتها، فيحتاج المترجم إلى مقاومة من نوع مختلف تجعله يصول ويجول بلغته الأم، حتى ينقل بشفافية ورهافة دلالات النص الأصلي، وما يتميز به أسلوبيا ولغويا، بهدف إيجاد تكنيك يشبه تكنيك الأصل في التشظي وتعدد المعاني.. فالمترجِم يعمد إلى المقاومة في رسمه لملامح العلاقة التي تربط نصه بالنص الأصلي، فهو يضيف إلى معناه ويأخذ منه، موجها ضربة نقدية.
ومن جانب آخر، فإننا نرى أن «الترجمة أداة للمقاومة» يمكن فهمها وتطبيقها في الترجمات العربية للكتب الغربية بشكل عام، التي تكاد تنصبّ في العصر الحديث والمعاصر على تقديم الفكر والإبداع الغربي، من زاوية واحدة، ألا وهي تكريس المركزية الفكرية الغربية، وتقديم النموذج الغربي على أنه الأمثل في النهوض والترقي الحضاري، فتُرجِمت آلاف الكتب التي تدعم هذا الاتجاه، وتكاد لا تقدم المراجعات والمعارضات والنقد الغربي لها.
إلا أننا نرصد في هذا الشأن، وخلال العقدين الأخيرين، تزايد الترجمات العربية للكتب الغربية، التي تنتقد الحضارة والفكر والثقافة الغربية، بل وترى أن هناك نماذج للنهضة استفادت من الغرب تقنيا، وحافظت على هويتها الثقافية فكريا وروحيا.
في ضوء ما تقدم، يمكننا أن نقرأ العديد من الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، التي جاءت ترجمتها كأداة للمقاومة، حيث كشفت الآخر/ الغربي، وأبانت تمركزه على ذاته، وفي الوقتنفسه فتحت المجال لاختبار المفهوم المطروح، وتبيان أهميته في وعي المترجِم من جهة، وأثره في التلقي لدى القارئ العربي من جهة أخرى، ليقرأ الفكر الغربي في بعديه: التمجيدي/ الاستعماري، والمراجعات والانتقادات الموجهة له (ما بعد الاستعماري). وأبرزها أعمال إدوارد سعيد، التي تمثل اتجاها مضادا لنظرة الغرب إلى الشرق في كتبه العديدة، التي تؤسس لمذهب التاريخانية الجديدة، ونقض ثقافة الاستعمار، وخيالاته الموروثة نحو الشرق. وهناك كتب عديدة في هذه المراجعات أبرزها: «ما بعد المركزية الأوروبية» ومؤلفه بيتر جران، الذي يدحض فكرة المركزية الأوروبية الكامنة في النماذج التفسيرية، في نظرتهما للشعوب في القرن التاسع عشر، مسقطا الهيمنة الفكرية الغربية.
وعلى الطريق نفسه، يأتي كتاب «نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات، بُعد استعماري ونسوي» في جزئين: تحرير أوما ناريان، وساندرا هاردنغ (سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت)، وفيه تأصيل لمفاهيم التواصل عبر الثقافات، والتفكير بشكل عالمي، وقراءة تاريخ الشعوب، ويقرأ تقاطعات الجنوسة والعرق والقومية، والثنائيات الفكرية، الحركات النسوية في العالم.
أما كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني» لمؤلفه كيث وايتلام (سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت) فيقدم مراجعة تاريخية عميقة للرؤية الغربية المتأثرة بالمدرسة التوراتية، المؤيد لإنشاء وطن قومي لليهود، ويؤكد على أن هناك حضارات عديدة تعاقبت في أرض فلسطين، وما الوجود اليهودي إلى خيط رفيع في نسيج التاريخ الفلسطيني الغني، وأن الخطاب التوراتي أشبع الخطاب الغربي بمقولاته، ما أدى إلى تجريد الفلسطينيين من ماضيهم ناهيك من ترسيخه للأكذوبة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ويأتي كتاب «عصور نهضة أخرى: مدخل جديد إلى الأدب العالمي»، تحرير بريندا دين شيلدجن وآخرين، (سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت)، الذي يقدم مداخل جديدة لقراءة الآداب في العالم، بعيدا عن التقسيم المتبع من وجهة النظر الغربية، الذي يجعل الفكر الغربي نموذجا، وحكما، على آداب الشعوب الأخرى، خصوصا في عصر النهضة الأدبية، فيقدّم نماذج من عصور نهضوية أخرى في المجال الأدبي مثل، النهضة الصينية، والهندية، وفي مصر والعراق، هذا خارج أوروبا، وكذلك من داخلها مثل عصر النهضة في أيرلندا، أمريكا، والمكسيك، والأدب الافريقي، مقارنا وموضحا لهذه الآداب، ومحترما لثقافاتها.
٭ كاتب وأكاديمي مصري
زاوية رؤية بعنوان لغوي رائع (الترجمة ومقاومة المستعمر) نشره (د مصطفى عطية جمعة) في موقع جريدة القدس العربي، والأهم من وجهة نظري،
هو موضوع خيانة المعنى اللغوي في اللغة الأصل، عند النقل إلى اللغة الأخرى، من أجل سلامة راتب الوظيفة، عند أي موظف في النظام البيروقراطي،
ولاحظت يقوم بذلك تحت عنوان يريح به ضميره، من الندم، فهو عمل ذلك لأنه ينفذ كلام المسؤول، يعلمه أم بدون علمه،
كما حصل، مع ترجمة كلمة الرئيس المصري (د محمد مرسي) في مؤتمر إسلامي، لدعم مُهجري (ظلم) نخب آل البيت لشعب الرّب المُختار، في دول أهل ما بين دجلة والنيل،
بتغيير أسماء الدول، حتى لا يغضب مسؤول رقابة الإعلام في وسائل إعلام الدولة الإيرانية، بكل أنواعها المرئية والمسموعة والمقروءة، في عام 2013، سبحان الله؟!
خصوصاً وأن هناك دول جمهورية وملكية، قائمة على سرقة مخصصات المهاجرين إليها من فلسطين أو سوريا أو اليمن أو ليبيا أو العراق وأفغانستان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.??
??????
مصطلح المسنعمر والاستعمار خطأ لغوي شائع . الاستعمار لغةً يعني: طلب الإعمار أو العمران… استعمره في المكان؛ أي جعله يعمره… استعمر الأرض: عمّرها، أي أمدها بما تحتاج إليه من الأيدي العاملة لتصلح وتعمُر