تأتي أعمالها متجاوزة كل الطرق الأكاديمية، ويبدو وعيها الفني مؤسس على رؤية واضحة للأنوثة كرهان اجتماعي وثقافي، بدون نسيان مسحة روحية تزيد من بهاء الموجودات. هذه الرؤية التي تتناوب ما بين التشكيل والكلمة أعطت لها تفرداً وتأثيراً فنياً. رانيا كرباج فنانة سورية وشاعرة مقيمة في حلب، خريجة كلية الهندسة المدنية في جامعة حلب ومركز رولان خوري للفنّ التشكيلي. صدر لها العديد من الدواوين الشعرية، وشاركت في العديد من المعارض الفردية والجماعية. كان لنا معها هذا الحوار..
■ كيف يبدو الإرث الثقافي والحداثة الفنية في تجربتك الإبداعية؟
□ دفعني البحثُ التشكيلي، منذ البدء إلى خوضِ تلكَ التجربة التي تحاول أن تمشي على الحبل الرفيع بينَ أصالتها ومخزونها الحضاري والثقافي، الذي تؤمن بأهميته وامتداده العميق في التاريخ الإنساني، والتجربة التشكيلية، وما آلت إليه على الصعيد العالمي. كان جلّ أرقي هو أن أقدم لوحةً معاصرةً بكل معنى الكلمة، ولكنّها في الوقت نفسه تشفّ عن ذاتي الفردية والجماعية وما تحمل من فكرٍ وهمٍّ مشرقيّ. أؤمن بأن الرسم لغة، عندما تتقنها يجب أن تتكلّم. أما كلام الفنان فمختلف وهو الحامل رؤية جديدة، وعليه أن يجسّدها، وهذه ليست بالمهمة السهلة. فتحويل الوعي إلى مشهدٍ ملموس قوامه الخطوط والألوان، يتطلب الكثير من الصدق أمام ذاك الفراغ الأبيض، الذي عليه في نهاية المخاض أن يعبّر عن فكر وروح الفنان، بعيداً عن الخوفِ والإملاءات وكل الأشكال المسبقة الصنع، التي من شأنها أن تحجب ذاته بعيداً عن المشهد.
■ ما بين اللوحة والشعر، كيف يغزلهما الخيال الأنثوي؟
□ أقسّم ذاتي بين اللوحة والقصيدة، عندما ترتاح اللوحة ارتاحُ مع القصيدة، وعندما تضنُّ القصيدة ابتعد عنها لأغرق في عالم التشكيل. فإذا كان الشعر، هو الذات بكل محتوياتها الفكرية والشعورية، تتحوّل إلى ومضاتٍ تضجّ بالصور والكلمات والموسيقى فإن التشكيل، أيضاً هو مخاطبة شاعرية للعالم تنسج مفرداتها من الخط واللون والضوء. أما عن الخيال الأنثوي، فهو أكثر ما يلزمنا لنرمّم إنسانيتنا المتآكلة، منذ طرد الأنثى من صيرورة التاريخ، وخلق الثقافة الذكورية أحادية القطب. تخيلوا طبيعةً مذكرة لا يلعب فيها القطب الأنثوي، سوى دور ثانوي كي تدركوا كم هي مشوهة ثقافتنا.
■ يقول غوغان «الألم يشحذ العبقرية»، كيف تتقدمين هذا الألم بالمقدس الأنثوي؟
□ الألم واللذة، وجها الوجود اللذان يشحذان طاقة الإنسان ويدفعانه في سيرورته على هذه الأرض. والعبقرية كونها حساسية مفرطة، لا تفتأ تنتقل بين هذين القطبين، لكن ليس تخبّط الأعمى، بل تنقّل المبصرين. يجرّدنا الألم من كل أسلحتنا لنعود إلى إنسانيتنا العارية، عندها تنفتح في عقولِنا المقفلة ممرَات، تصلنا بالعقل الكوني الأكثر ذكاء ووعيا، لتبدأ من هنا رحلة العبقرية. أما اللذة، فهي المكافأة التي تهبنا إيّاها الحياة بعد أن تكتمل مسيرة الألم وتحقّق عملها فينا. لذا صحيح لا فنّ بدونُ تنقل الإنسان بين محركّي الحياة الأقوى الألم واللذة.
أقسّم ذاتي بين اللوحة والقصيدة، عندما ترتاح اللوحة ارتاحُ مع القصيدة، وعندما تضنُّ القصيدة ابتعد عنها لأغرق في عالم التشكيل.
أمّا الحربُ وعلى اعتبارها تجربةً متطرفةً مع الألم، فنحن لن نخرج منها إلّا عباقرةً أو قديسين، أو أنّها ستقتل إنسانيتنا مرة واحدة وإلى الأبد. الموت المادي هنا لا يهمّ ذلك أن المقصود هو موتنا المعنوي، والأنثى كونها تحتمل آلام الحمل والولادة من أجل أن تحظى بلذة الخلق، فهي الأقرب لإدراك هذه السيرورة والأقدر على الاستسلام الإيجابي لها.
■ كيف تعملين على إبراز أيقوناتك ورمزيتها كمقومات تشكيلية، خاصة في لوحات المرأة الشجرة؟
□ يلعب الإنسان بتكويناته وانفعالاته دور البطل في أعمالي، ليس البطل العادي الذي يعيش بيننا، إنما هو البطل الأسطوري الغارق في أسرار الحياة والمكلّل بطاقتها المقدّسة. لذا وجب عليّ أن أبرزه في اللوحة كملكٍ على عرش، ذاك العرشُ هو تكوين متماسك وإحساسٍ دافق وألوانٍ تشبه روحه الكلية، أعشقُ طاقةَ اللون وأسخّرها لتبوح بما في دواخل الشخوص التي تملأ لوحاتي، صلاةً وذكاءً وحكمة، أما الخطوط اللينة فهي الأقرب إلى إحساسي بالحياة والموجودات، لينة أحياناً أكثر من الواقع، ومتطاولة بطريقة تحاول السمو والانفلات من نسب الحياة المتعارف عليها. المرأة الشجرة هي تلك التي انتصـــرت على ضعفها وخضوعها، وكرّست نفسها كآلهــــة منذ أن سخّرت الأرض واكتشفت سرّ الزراعة، حيث تقول الأسطورة إن الزراعـــة كانت مـــن عمل الأنثى المتألّمة المتأمّلة في أسرار الكون من حولها، وأن هذا الفتح توّجها كآلهة للخصب ورسولة لاستمرارية الحياة.
■ وكيف تعبرين كامرأة معاصرة رمزيا بين حمى المقدس والشهواني والمرئي بأعمالك؟
□ ستبوح اللوحــة حتـــماً بكل هـــذه الجـــوانــب، حيث هنا لا مهرب لنا من ذواتنا. أمّا الشهواني فيسمو على سطح اللوحة الأبيض ليبلغ المقدّس، إنّها سيرورة تأمل تخرجني من كل ما هو دنيوي، ليتحوّل الجسد إلى هيكل للألوهية والإنسان حتى في عريه إلى كائن مقدّس. إنّها الطريقة التي أعيش بها الأشياء في الواقع، وليست تلك التي أفكر بها وأنا أرسم فقط.
■ يبدو النور في لوحاتك ذو طابع صوفي، فكيف تضيئين عتمة الآخرين في زمن الحرب؟
□ كل ما في لوحتي غارق في صوفية ، تدور حول الخالق والمخلوق مكرّسة الضوء والخطّ واللون، أمّا حين أضيء عتمتي فسأضيء حتماً عتمةَ الآخرين. لقد وضعتنا الحرب، أمام آلامٍ مختلفة إن خرجنا منها سنخرج بشراً مختلفين، وأنا كالكل أرزح تحت أحمالي، لكنني كلما أبصرتُ نوراً أخفّ، نعم الفنّ يحرّرنا ذلك أنّه يجعلنا أكثر وعياً ومحبة.
■ كيف تنسجين اللقاء بينك وبين المتلقي المثقف والعادي، بعناوين لوحاتك؟ أم بفضاء التخييل بينك وبينه؟
□ لا أحبّذُ العناوين، لكنّني في المقابل أقدّم عالماً شعرياً موازياً لعالم الرسم يكشف أحدهما النقاب عن الآخر. ما يساعدني أنا شخصياً ويساعد المتلقي على الولوج في فلك تلكَ الرؤية، التي تحرّكني كفنانة، إذ لا فنّ بدون وعي خاص ومختلف بذاتنا، وبالموجودات من حولنا. وهذا الوعي متغير وفي نمو مستمر يصبّ دفقهُ في البحث، سواء التشكيلي أو الشعري أو غيره، أمّا الفن الأصيل فيصل، للمتلقي المثقف والعادي وإن بدرجات متفاوتة، فنحن في النهاية بشر متشابهون ومن الطينة نفسها.
٭ ناقد مغربي
المهندسة والشاعرة والتشكيلية والإنسانة رانيا كرباج أنت مبدعة دائما…لدي ديوانك وصايا العطر…وفيه تقولين :
على صوت الورد ..
يغنّي رحلةَ الأرض ..
وعلى عزف الأثير..
راحَ قلبي يسير..
يعبرُ القصص القديمة..
يتبختر بسَكينة..
تستحقين التألق يابنت الشام
مودتي
لقاء رائع جدا وجميل … كل الاحترام والتقدير والمحبة لكما