سليمان الدريسي واحد من أبناء جيل التشكيليين المغاربة المجددين، الذين يسكنهم شغف المادة واختبارها إبداعياً وجمالياً فوق حوامل وأسناد متنوعة، تتوزع عموماً بين القماش والخشب والورق المقوى، إضافة إلى ذلك، فهو يبدع الشعر ويرأس جمعية أثر للفنون التشكيلية، يعيش ويشتغل في مدينة الصويرة الساحرة المطلة ببهاء جغرافي على المحيط الأطلسي..
حيطان لا تصدأ
على منوال «اللوحة – الجدار» التي ظهرت كنتيجة لاختبار المادة، لكن بأسلوب صباغي مستقل ومختلف لما توصل إليه كل من إميل شوماخر وكار فردهمان وفانونتر في ألمانيا، حين عمدا منذ خمسينيات القرن الماضي إلى وضع صباغة سميكة وكثيفة على السند للحفر عليها بواسطة أدوات حادة، قبل إضافة ألوان أخرى متعددة لتتحول اللوحة إلى ما يشبه الجدران القديمة، يُبدع الفنان التشكيلي سليمان الدريسي لوحات صباغية برائحة التراب، حيث يذوب اللون في لجة المادة، بأسلوب تشكيلي يكثر فيه الإمحاء والتغرية والصبغات العجينية، التي تمنح اللوحة هوية مادية ذات تأثير في المتلقي، لاسيما على مستوى الملمس والحياكة Texture وكأنه بذلك يوقع أثرية اللوحة وذاكرة الجدار بحس تشكيلي ينم عن خبرته في البناء والتوليف.
في هذه اللوحات يبدو الفنان مثل عالم الآثار، تستهويه كل الأشياء والقطع العتيقة إذ ينسج أفكاراً عبر «شكلانية مادية» ذات طابع إنشائي قديم قائم على التضاد اللوني الملمسي، وفيها (اللوحات) يخبئ ألواناً شذرية بتفصيلات لها معان ودلالات مبثوثة في جلد السند، من الأزرق الأغمق إلى البني بدرجات ضوئية مغبرة، إلى الرمادي الملون والألوان الترابية بميسمها الطبيعي. من ثم يصير للأثر الفني بقايا وتركيبات طيفية خاصة، يتساوى فيها الفراغ والامتلاء.. أثر يفتح أبواب التامل والتلقي بمعانيه ومبانيه، ضمن علاقة تلازمية تحيا داخل مراحل التجريد في اللون والشكل. ولأن «كل فن هو لغة تعبير»، كما يقول سنغلير، فإن الفن في تجربة الفنان سليمان الدريسي تعبير خالص عن الأثر بتاريخه المتقلب والمتغير، الذي يرسم بصمات الزمن وتحولاته في تاريخ الإنسان، لذلك تغدو لوحاته عامرة بخدوش لونية وتخطيطات مبهمة وكتابات تجريدية وأرقام وتواريخ لا يدرك دلالاتها وسياقاتها الزمنية سوى الفنان. الكثير من هذه الآثار والمتروكات الغرافيكية تتعاقب عليها الألوان والمواد والخامات لتمحيها تارة.. ولتلبسها تارة أخرى هوية جمالية مختلفة ذات أصداء واسعة ممتدة داخل ثنايا اللوحة..
فيض السواد
في تجربة صباغية متميزة، أتحفنا الفنان سليمان الدريسي قبل أشهر بمعرض فني بديع أطلق عليه اسم «ليس أسود تماماً.. لكنه أسود» احتضنته قاعة الطيب الصديقي في دار الصويري، وأشرفت على تنظيمه جمعية الصويرة موكَادور في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وقد رافقت اللوحات المعروضة قراءات شعرية تأملية في ثيمة المعرض، أبدعها الشاعر امبارك الراجي، على ضوء جلسات كثيرة ومتكررة جمعته بالفنان. وبمناسبة هذا المعرض، صدر كتيب فني تصدره نص تقديمي لنا باللغة العربية، ترجمه إلى اللغة الفرنسية الكاتب والناقد الفني حسن لغدش، هذا ما جاء فيه: بين تشكيل الفنان سليمان الدريسي ونصوص الشاعر امبارك الراجي يَم من السواد المضيء الذي يفيض بالكثير من المعاني الجمالية المستمدة من اليومي، ومن عمق التأمل والتخييل و»السهو» أيضاً..
سواد نوراني.. كثيراً ما قادنا لإدرك جيد كيف كانا يدبران لقاءاتهما الإبداعية لنسج خيوط هذه التجربة الأستتيقية المشتركة، حيث كانا يتبادلان الإصغاء أكثر من الكلام، وقد تتبعنا جزءاً من هذه المحاورة الصامتة والناطقة في آن: شاعر صموت لا يتحدث كثيراً، لكنه يقول أشياء كثيرة ينطق بها شعره في مقابل تشكيلي حركي Gestuel لا يهدأ إلا حين يقتحم عذرية القماش بصبغات وخامات يختارها بنفسه. هكذا، وبواسطة صبغات الأكريليك، والرمل وأتربة المقابر، والصلصال ومسحوق الرخام، ومواد التغرية والخامات المهملة والمهجورة، يشيد الفنان لوحاته التشكيلية ويبنيها متخلصاً في ذلك من كل القيود الزمانية والمكانية، غايته الأولى التعبير عن الأثر بنوع من المداعبة الإبداعية، الأثر الفني الصامت الذي «يتعدى الخيال والفكر» على حَد تعبير برغسون. من هذه الوجهة، تمسي اللوحة حاضنة الأثر بشفافية ذائبة داخل ألوان ومواد مكثفة متحولة بقوة الإمداد ومصاغة بلا أسلوب Non style تتعايش فيه الأصابع والفكر في آن.
هنا يقف الشاعر مندهشاً، مشدوداً بهذه التكوينات التشكيلية الحرة ليتحرك بخطواته المتثاقلة في اتجاهات لا تحددها سوى نزعة الشعر.. والشعر فقط، هو هكذا داخل المرسم متجولاً بين اللوحات وشاهداً على لحظات ولادتها، غير آبه بوجود الفنان، وحدها الأعمال الفنية التي تؤنسه وتثير فضوله على نحو متجدد.. إنه باختصار يسعى إلى حل إشكالية بصرية عبر إيجاد إجابات، بدون طرح أسئلة ولو من بعيد..
هكذا شاهدت الفنان..وهكذا استمعت إلى الشاعر..
دمى في المرسم
عقب المعرض المذكور، ومنذ أسابيع قليلة، شرع الفنان الدريسي في وضع اللبنات الأولى تحضيراً لتجربة صباغية جديدة تمثل مشروعه الجمالي المقبل، وأمسى يقضي أوقاتاً طويلة معتكفاً داخل مرسمه الذي ينبت في حي السقالة وسط مجموعة من الدمى العارية التي تحتشد في ممرات وأركان المرسم، فهي تشكل أنيسه الوحيد ومصدر إلهامه، الذي يستقي منه طاقة الإبداع.. وكم تستهويه «المحادثات السرية» التي ينسجها مع هذه الكائنات المطاطية بطقوسية نادرة، مثل أحمق عاقل يعشق الليل ويسكنه مندمجاً ومنتشياً على وقع موسيقى رفيعة، تمتد هادئة لساعات.. ينام قليلاً بعد أن ينتهي من ارتشاف «حسائه المفضل».. يستيقظ باكراً، وقبل أن يغادر المرسم، يتفقد دُمياته العجيبة التي تبادله تحية الصباح..
في ظل هذه الطقوس الخاصة، يرسم الدريسي في مملكة الدمى، ويصبغ داخل هذا المرسم الصغير الذي يسكن فيه على منوال مبدعين كبار، أشهرهم الرسام والنحات السويسري ألبرتو جياكوميتي، الذي صرح مرة لصديقه المقرب الكاتب الفرنسي جان جينيت بـ»أنه لن يكون له مسكن آخر سوى هذا المرسم وهذه الغرفة. ولو كان ممكناً، فإنه يؤثر أن يكونا متواضعين أكثر» (الجرح السري- مرسم جياكوميتي). كثيرة هي المرات التي عاشرت فيها الفنان، وتمثلت أسلوب اشتغاله داخل المرسم، بل أحسست الطريقة التي يعجن بها أفكاره ويطبخها قبل بصمها وتثبيتها على سند اللوحة، مستعيناً في ذلك بأدوات رسم خاصة مدعمة أحياناً بأدوات أخرى مستعارة من المطبخ، وفي مرات أخرى يستعمل يديه ليبدو كمن يلطخ جداراً، لكن بإبداعية خلاقة تنبعث من عمقها المفردات الرئيسية المكونة لمعجمه التشكيلي، الذي يشتغل بواسطته على نحو محسوس وملموس شديد الاتصال بأركيولوجيا المادة وبتحولاتها البصرية فوق السند.. وهنا يكمن سر فنه وإبداعه..
ناقد تشكيلي من المغرب
فقط كلمة كاظل النملة فالمساحة ليست لكتابة النصوص أو المواضيع أو التقارير بل حتى النقد شيئا مامثلا غير مامرة قلنا بأن التشكيل يتمثل أي ينتقل من صورة ألى صورة يستحيل على أي كان عدها فالتشكيل المغربي في صف المتميزين يخطوا خطوات ألى لامام ترى اللوحة صامتة وماهي كدالك وتراها راقصة وماهي كدالك وتراها ظاحكة وماهي كدالك وهكدا تحية للمحلل المحترم