صنعاء ـ «القدس العربي»: مرّت تجربة التشكيلي اليمني زياد العنسي (1976) بعددٍ من المراحل استطاع معها أن يكتشف إمكاناته ويطور أدواته ويتنقل برؤيته بين عددٍ من المدارس، إلى أن يمكن القول، إنه أمسك بأسلوبه الخاص؛ وهو أسلوب يتجلى من خلال ملمحين: الأول: يمكن اعتباره رؤيوي، وتعكسه أعماله الحداثية التجريدية، التي يشتغل فيها على أكثر من منظور محلي في تقديم قراءة تجريدية جديدة للواقع، تترجم رؤيته التي يقف أمامها الرائي مُعجَباً بنصها البصري؛ الذي يهتم بالعلاقة التعبيرية والهندسية الجمالية بين مكوني المرأة غالباً، والزخرفة اليمنية. والثاني: تقني، ويتجلى أكثر وضوحاً في اشتغاله اللوني على ما بعد الانطباعية من جانب، ومن جانب آخر في قدرته على إنتاج جداريات عملاقة بتفاصيل دقيقة، مستخدماً ألوانا زيتية في رسم أعمال واقعية على جدار أو كنفاس بمساحات كبيرة.
ينتمي هذا الفنان، الذي فازت لوحته بعددٍ من الجوائز منها، جائزة دبي الثقافية للإبداع عام 2013، لجيل الشباب في محترف بلاده. كانت بداياته في تسعينيات القرن الماضي؛ وهي بدايات مارس فيها الرسم على ورق كانسون بألوان البوستر، كما اشتغل في النحت على الخشب، «حيث كنتُ أرسم العمل الفني أولاً على الخشب، ومن ثم أعملُ على إظهاره بأدواتٍ خاصة نحتاً، ثم أقوم بتلوينه، وأغلبها كانت أعمال مستوحاة من الريف اليمني.» يقول زياد لـ«القدس العربي».
ما بعد الانطباعية
مع بداية الألفية الراهنة انتقل زياد للاشتغال في المدرسة الواقعية الكلاسيكية، معتمداً ألوانا زيتية على كنفاس أو قماش؛ وهي المرحلة التي استمرت بضع سنوات أنتج خلالها عدداً من الأعمال المرتبطة موضوعاً بالبيئة اليمنية، كمعظم فناني بلاده؛ وهي المرحلة التي سرعان ما تجاوزها منتقلاً إلى المدرسة الانطباعية، أو بالأصح بما بعد الانطباعية، إذا جازت التسمية، معتمداً ألوانا زيتية على كنفاس، «وفي هذه الأعمال كنتُ أحرص على إبراز التفاصيل بدقة عالية مشتغلاً على درجات لونية متعددة». ويلمس المتابع، هنا، تطوراً تقنياً لافتاً في هذه الأعمال؛ وهو تطور بدء، من خلاله، زياد يتلمس طريقه الخاص، خاصة على صعيد الاشتغالات اللونية، وعلى ما يبدو أنه كان قد استفاد من تراكم خبرته في التجريب والممارسة الاشتغالية على الشكلانية، فأصبحت الألوان أكثر نضجاً، ويظهر فيها ميله للألوان الفاتحة وبالذات اللون الأحمر القاني، ويلاحظ في هذه الأعمال اشتغاله على مناظر من الطبيعة والريف اليمني مهتماً بالتراث وملامح الثقافة التقليدية، وإن كان بعضها بدا خالياً من العنصر البشري، بينما يبرز الملمح اللوني الثاني في اعتماده تقنياً على التلوين الأشبه بالتكعيبي أحياناً والتنقيطي أحياناً أخرى؛ وهذا يمنح أعماله مسحة فنية عالية، يتجلى من خلالها النص البصري مفعماً بمعانٍ خاصة أراد الفنان أن يستشعرها الرائي ويشاركه اكتشافها. وهنا يمكن التنويه بمهارة الفنان في ما يعرف بالتقسيم اللوني في علاقته بأشكاله ومعانيه؛ فيأتي معه المنظور متدفقاً بشعرية تعكس مدى اهتمام الفنان بإثارة العاطفة لدى الرائي، ليُعيد مع اللوحة اكتشاف وقراءة المنظور. ويعتبر زياد «التقسيم اللوني باستخدام (التنقيط، التكعيب) إضافة نوعية للوحتي الانطباعية، حرصتُ من خلالها منح لوحتي بصمة حداثية تتجلى، هنا، ضمن خصوصيتي أنا مع هذه اللوحة». استمرت هذه الأعمال تقريباً إلى عام 2008، أي لمدة خمس سنوات تقريباً، وهذا لا يعني أنه انقطع عنها لاحقاً.
اشتغل على تفعيل اللون في إبراز الأشياء المجردة التي اشتغل على إيحائيتها القادرة على استنطاق الجوهر والمضمون الكامنين خلف الظواهر الشكلية
اللوحة التجريدية
عقب ذلك انتقلت تجربته لمرحلة جديدة عانقت فيها فرشاته لوحة حداثية، اشتغل فيها على المنحى التجريدي من منظور تعبيري ذي نزعة هندسية، وقد برز فيه مهتماً بتوظيف أكثر من منظور واقعي بعد تجريدهما من أبرز معالم الارتباط والتكوين الشكلي بما يمكنه من إعادة تقديمها في نص بصري جديد، مُعبر، من خلاله، عن رؤية إنسانية جمالية اشتغل فيها على معنيين بارزين: الحياة والجمال، والأول جاء ممثلاً في بريق الجسد الإنساني (المرأة ومعها الرجل أحياناً) باعتباره رمزاً ونبعاً للحياة (الوطن)، والثاني: اشتغل فيه على جمال التراث اليمني المعماري، خاصة جزئية المكون الزخرفي رمزاً (للفن).. هنا تبرز جزئيتا (الوطن والفن) كثنائي يتكامل طرفاه، خاصة إذا منحنا الفن بُعداً أوسع يشمل الإنتاج.
ولا ننسى الإشارة، هنا، إلى تجربته اللونية أيضاً؛ إذ اشتغل على تفعيل اللون في إبراز الأشياء المجردة التي اشتغل على إيحائيتها القادرة على استنطاق الجوهر والمضمون الكامنين خلف الظواهر الشكلية، إذ جاءت معالجاته التجريدية منطلقة من تجاوز مشكلة الفراغ بين الأشكال والتماهي بين الألوان، في سياق تداخل سيمفوني لافت، بين التشكيل تكويناً وتركيباً، والتلوين تقسيماً وترميزاً وتماهياً؛ مانحاً الأشكال نغمة إيحائية روحانية والمنظور، في مجمله، صبغة إنسانية وجمالية مُشعة… وهي التجربة التي بدأ الاشتغال عليها منذ عام 2010، ومازال مستمراً فيها حتى اليوم.
ساهم في ذلك، أن هذا الفنان، وهو خريج كلية التربية تخصص جغرافيا، قد التحق بجامعة ذمار (وسط) مرة أخرى، لكن في قسم التربية الفنية، في سياق حرصه على تطوير تجربته علمياً؛ وهو ما انعكس إيجابياً في لوحته التجريدية وتحديداً في أعماله التي اشتغل عليها ما بين 2015 و2019… ومعها أعماله الجدارية التي سنتوقف عندها لاحقاً.
الجداريات
بموازاة تجربته الحداثية التجريدية، مازال هذا الفنان، الذي نظم معرضين شخصيين وشارك في معارض عديدة، يشتغل في اتجاه آخر اقتحمه عام 2014؛ ممثلاً في الجداريات العملاقة؛ وهو مجال ليس سهلاً؛ إذ يتطلب احترافاً في ضبط الإيقاع الشكلي واللوني على مساحات كبيرة؛ وهو ما أجاده زياد؛ فاستطاع، إنجاز عدد من الجداريات وصل طول إحداها إلى 16 متراً؛ وصارت جدارياته منتشرة في مناطق يمنية مختلفة… وتبرز عوالم هذه الجداريات مرتبطة بالبيئة الطبيعية والمعمارية اليمنية والمناظر السياحية، ولعله هنا يخضع لما يطلبه ملاك المنازل التي تحتضن هذه الجداريات باعتبارها مصدر دخله المعيشي.
«استمددتُ مهارات الاشتغال على الجداريات من تجارب وخبرات سنوات طويلة من الحرفية، واعتبرها نتاجاً لمخزون كبير من الأشكال والخامات والتفاصيل، وقبل ذلك الرؤى».
تكتسب لوحة زياد العنسي، أهميتها من تنوع التجربة ودأب الفنان على تمكينها من قدرات وأدوات ورؤى تتطور باستمرار، لدرجة استطاع، من خلالها، أن يُسجل حضورًا في محترف بلاده ضمن قائمة أبرز التشكيليين الشباب.