أمريكا تُتَوِج أساليبها الخاطئة في إدارة سياستها الخارجية بخطوة غير مسبوقة، تزيد من ارتباكها في الشرق الأوسط، وقد أوصلت الأمر من خلال عملية الاغتيال، إلى نفق مظلم يجعل المنطقة بأكملها على صفيح ساخن. ومن الطبيعي أن يصعّد الايرانيون من لهجتهم بحرب نفسية، مضامينها التهديد والوعيد، لأن ما قام به دونالد ترامب يعد خطأ استراتيجيا كبيرا من شأنه تقويض موقعه السياسي داخل أمريكا حاضرا ومستقبلا.
فالمغامرة التي وصفت بالحمقاء، هي جريمة دولة تقوم بعملية عسكرية تنتهك فيها سيادة دولة أخرى، وتستهدف أحد أهم القادة الإيرانيين على أراضيها، وما يدعو للاستغراب فعلا هو الموقف المهادن والخجول لأغلب مكونات المجتمع الدولي، الذي يدفع للتساؤل ماذا لو كان الأمر معكوسا، واغتالت إيران مسؤولا أمريكيا، أو جنرالا من الصف الأول، كيف سيكون موقف الولايات المتحدة والعالم من حدث كهذا؟ بهذا المعنى تنكشف العربدة الدولية لقوى الهيمنة والاستعلاء التي لا تحترم سيادة الدول، وتشتغل ضمن دائرة القوة والاخضاع، ومنطق السيطرة على الأمم الأخرى واستضعافها.
المسألة ذهبت إلى أبعد مما يتوقعه البعض، وترامب الذي يتخبط في تغريداته المتتالية تقلصت خياراته، بعد أن حشر نفسه في زاوية تجعل خطواته المقبلة محسوبة بالنظر إلى الانتخابات التي تنتظره. ففي الوقت الذي تسعى فيه الإدارة الأمريكية إلى احتواء طهران، وجرها إلى تنازلات وقبول التفاوض، أقدمت على خطوة خطيرة باغتيال الجنرال قاسم سليماني، والاتجاهات التي تعتقد أن الأمريكان لا يفهمون إلا لغة القوة، أخذا بالاعتبار تجربة كوريا الشمالية، باتت الأرجح داخل الأوساط الايرانية، التي عبرت مؤسساتها المختلفة عن حتمية الرد على العدوان الأمريكي الأخير.
واشنطن ترجح فكرة أن إدارة ترامب أغلقت أبواب الدبلوماسية وقلصت خيارات المسار السياسي
القيادة الإيرانية تدرس بنوك أهداف من شأنها أن توجع إدارة البيت الأبيض وتضر بالرئيس الأمريكي، الذي يُعتقَد أنه سعى لتغطية فشل سياسته الداخلية ومسار استجوابه داخل الكونغرس، والدفع نحو تعزيز حظوظه الانتخابية المقبلة بعملية من هذا النوع. واشنطن ترجح فكرة أن إدارة ترامب أغلقت أبواب الدبلوماسية وقلصت خيارات المسار السياسي، إثر التصعيد الأخير الذي ينذر بأفول مرحلة «الحرب الباردة «بين الطرفين وبداية «حرب ساخنة» قد لا يُستخدم فيها وكلاء، أو قوى تابعة كما كان يتم الأمر في السابق. فبعد أن انسحب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه باراك أوباما مع إيران سنة 2015 وأعاد فرض عقوبات اقتصادية قاسية، وصلت حد حظر استيراد النفط الإيراني والخنق المالي، بلغ التوتر في المنطقة ذروته، بإضافة فصل جديد من المواجهة بعنوان عملية اغتيال معلنة لشخصية برمزية قاسم سليماني، الذي يعتبر بطلا قوميا في إيران. ويأتي اغتياله ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس ورفاقهما بعد ثلاثة أيام على هجوم شنه مناصرون لطهران على السفارة الأمريكية في بغداد، ليعيد إلى الأذهان أحداث اقتحام سفارة الولايات المتحدة في 25 إبريل 1980 من قبل مجموعة شباب من أنصار الخميني، وفشل عملية «مخلب النسر» العسكرية لتحرير الرهائن، التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، وأدت إلى مقتل ثمانية جنود وتدمير طائرتين أمريكيتين، قيل إنه نتيجة عوامل جوية.
وكانت هذه الحادثة الانطلاقة الأولى لمواجهات مختلفة في المكان ومتباعدة في الزمان بين أمريكا وايران، في أغلبها غير مباشرة على غرار حادثة «بريدجستون» في يوليو 1987 إثر انفجار لغم ايراني بناقلة النفط الكويتية التي كانت ترفع العلم الأمريكي، وردت واشنطن باستهداف مدمرات بحرية ايرانية، ثم حادثة «يو أس أس ستارك» التي وقعت أثناء الحرب الإيرانية العراقية، حيث اُستُهدفت الفرقاطة الأمريكية «ستارك» بصواريخ عراقية، قيل بعد ذلك إنها عملية مدبرة بين بغداد وواشنطن، على نحو أن القوات العراقية ظنت أنها مدمرة ايرانية فقدمت اعتذارها ودفعت تعويضات، ولكنها لم تكن سوى حجة من قبل إدارة رونالد ريغان، تضفي مشروعية على دعمها العراق ضد إيران، ودخولها الحرب بشكل مكشوف. وفي 18 إبريل 1988 حدثت مواجهة أخرى، بعد أن دمرت ايران فرقاطة «يو أس أس صاموئيل» التابعة للبحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي، لترد أمريكا باستهداف ثلاث سفن بحرية ايرانية. وفي 3 يوليو من السنة نفسها أقدمت الولايات المتحدة على ارتكاب جريمة فضيعة، حيث أسقطت طائرة مدنية ايرانية تنقل نحو 290 راكبا قتل جميعهم، واكتفت بدفع تعويضات لطهران في فبراير 1996 إثر رفع الأخيرة شكوى إلى محكمة العدل الدولية بعنوان حادثة «إيران إير».
وفي العقد الأخير أسقطت ايران طائرة استطلاع أمريكية متطورة في 04 ديسمبر 2011 وأعادت إسقاط طائرة أخرى في 2019 إثر التصعيد حول الملاحة البحرية ومضيق هرمز. وفي نوع من الإهانة والانتصار المعنوي، صورت بحارة أمريكيين في يناير 2016 وهم جاثون على ركبهم، كانت قد احتجزت قواربهم في مياهها الاقليمية، ثم أطلقت سراحهم بعد ذلك. وتأتي الأحداث الأخيرة بأن نفذت القوات الأمريكية غارة على نقاط تواجد لحزب الله العراقي يوم 27 ديسمبر 2019 ردا على ما اعتبرته قصفا لمواقع عراقية تضم أمريكيين. ثم وقعت محاولة اقتحام السفارة الأمريكية من قبل أنصار الحشد الشعبي، احتجاجا على قصف طائرات أمريكية لكتائب حزب الله العراقية، واتهمت واشنطن طهران بالوقوف وراء الهجوم على سفارتها، لتُقدم بأمر مباشر من دونالد ترامب فجر يوم 3 يناير 2020 على استهداف موكب الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، ورددت القيادات العسكرية الإيرانية خطاب التهديد، وأجمعوا على أن مقتل سليماني ستكون له عواقب على المحتل الأمريكي لن تقل عن طرده من المنطقة.
كاتب تونسي